All Writings
يوليو 1, 2015

سقوط أردوغان من علياء النعمة

أثارت خطة الرئيس التركي، طيّب رجب أردوغان، في شهر أيّار (مايو) 2013 – القاضية بإزالة منتزه جيزي في وسط إسطنبول واستبداله بنسخة طبق الأصل من بناء عثماني ضخم يعود للقرن التاسع عشر – موجة ً صاخبة من الإحتجاجات ضدّ الحكومة في اسطنبول وغيرها من المدن في جميع أنحاء تركيا، الأمر الذي أدّى لمواجهات عنيفة إستخدمت فيها الشرطة قوّة غير متناسبة. أصيب في هذه المواجهات آلاف المتظاهرين، وواجه آلاف آخرون إجراءات قضائيّة ضدّهم وفقدوا وظائفهم، وأسند لبعض المتّهمين ارتكاب جرائم إرهاب، وما زال الكثير منهم قيد المحاكمة، وآخرون قضوا مدة تصل إلى 10 أشهر في السّجن قبل أن يُخلى سراحهم بكفالة. وأنا شخصيّا ً أعتقد بأن حدث منتزه جيزي كان نقطة تحوّل تاريخيّة حدّدت بداية نهاية حظوظ أردوغان السياسيّة.

وما يبدو بأنه ردّ فعل على خطّة أردوغان كان في الواقع انفجار لاستياء شعبي أعمق بكثير يهتاج في النفوس منذ وقت ٍ طويل تجاه حكومة أردوغان. فالتآكل المتواصل للظروف الإجتماعيّة – السياسيّة والقيود المتزايدة على حريّة التعبير وتواجد وانتشار حزب العدالة والتنمية الحاكم في كلّ مكان خلق قلقا ً عميقا ً وخوفا ً بين عامّة الشّعب حيث أنّهم أصبحوا شهودا ً لتحوّل بلدهم تدريجيّا ً من بلد ٍ ديمقراطي إلى دولة بوليسيّة.

هناك خمسة أبعاد تبيّن تراجع أردوغان بشكل ٍ سيّء جدّا ً عمّا كان من الممكن أن تصبح تركته الكبرى للشعب التركي:

الأوّل هو البعد الإجتماعي الذي حقّقت فيه تركيا بلا شكّ تقدّما ً ملحوظا ً في الأعوام ما بين 2002 و 2010. ففي عام 2001 تبنّت تركيا وثيقة “شراكة الإنضمام” للإتحاد الأوروبي والتي جهّزت أنقرة بخارطة طريق لإدخال “الديمقراطيّة وحكم القانون …وحقوق الإنسان وحماية الأقليّات” كشرط أساسي لبدء مفاوضات الإنضمام لعضويّة الإتحاد الأوروبي.

مرّر البرلمان عدّة قوانين لحماية حقوق المتّهمين والمعتقلين وتحويل الإشراف على مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني من إدارة الشرطة إلى سلطات مدنيّة، وإجراء إصلاحات قضائيّة وضمان حريّة التعبير. علاوة ً على ذلك، فقد مرّرت تركيا قوانين تسمح بالبثّ الإذاعي الكردي وتوفير الخيارات للتعليم الخاصّ باللغة الكرديّة. غير أنّ هذه الإصلاحات، على أيّة حال، بدأت تتقوّض وتتآكل عندما شرع أردوغان في التنازل عن التقدّم الذي عزّز قاعدة سلطته، وهذا فقط من أجل الإستحواذ على المزيد من السلطة، في حين كان يدفع نحو المزيد من أسلمة البلد.

وحسب التقرير الدولي لمنظمة رعاية حقوق الإنسان (هيومن رايتس ووتش) لعام 2015، فقد تنكّرت الحكومة التركيّة بشكل ٍ متزايد لمبادئها وارتكبت انتهاكات، شاملة محاكمات غير مبرّرة لجرائم خطابيّة مزعومة، والتطبيق التعسّفي للإتهامات بالإرهاب مثل “الإنتماء لمنظمة مسلّحة”، والإحتجازات السابقة للمحاكمة لفترات ٍ طويلة (وبشكل ٍ خاصّ للصحافيين والطلبة والمحامين)، والتخويف المنهجي لأيّ فرد ٍ أو حزب يرفض أو يعارض سياسة الحكومة، هذا ناهيك عن الفساد المستشري في قمّة جهاز السلطة.

البُعد الثاني هي الإصلاحات السياسيّة التي تبنّاها أردوغان، بما في ذلك التغييرات التي أجراها على لوائح مجلس الأمن القومي التركي لتقليص السلطة العسكريّة الكليّة عليه بزيادة عدد أعضائه المدنيين وتعيين مدني كأمين عام له، هذا فضلا ً عن زيادة الشفافيّة الحكوميّة وإلغاء محاكم أمن الدولة.

ولكن أردوغان بدأ في السنوات الأخيرة بتجميد هذه الإصلاحات السياسيّة وانتزاع الغرض الأساسي منها، ألا وهو تنمية شكل ٍ متقدّم من الحكم الديمقراطي. لقد استخدم واجهة ديمقراطيّة لتوجيه إستبداد انتخابي حيث اعتقل بلوائح إتهام لدوافع سياسيّة حوالي ثلث القادة العسكريين الكبار ووُضع مناهضو الحكومة تحت الإقامة الجبريّة بتهم ملفّقة بالتآمر على الإطاحة بنظام الحكم.

البُعد الثالث هو التنمية الإقتصاديّة حيث احتضنت الحكومة بحماس النظام الرأسمالي. وبفضل الإنفتاحات الدبلوماسيّة في الأسواق العالميّة (وبالأخصّ في الشرق الأوسط)، فقد تمكّنت الحكومة من فتح عدّة أسواق جديدة للصادرات التركيّة.

لقد سارعت هذه الجهود من النموّ الإقتصادي لآفاق ٍ غير مسبوقة في تاريخ تركيا الحديث. فمنذ استلام حزب العدالة والتنمية السلطة في عام 2002 تضاعف دخل الفرد في تركيا تقريبا ً ثلاث مرّات في عام 2011 وتجاوز الناتج المحلّي الإجمالي مبلغ 774 مليار دولار في تلك السنة، واضعا ً تركيا في المرتبة الثامنة عشر من كبرى اقتصاديّات العالم.

وبالرّغم من ذلك، لم يستفد الشعب التركي من نموّ اقتصاده القومي بشكل منصف، فما زالت عشرات الملايين تعاني من التفاوت الإقتصادي. وفي عام 2012 هبط النموّ الإقتصادي التركي إلى مستوى 2.2 % فقط بعد أن وصل إلى 9 % في العامين 2010 و 2011، وهو انكماش قوّض بشكل ٍ خطير قاعدة أردوغان السياسيّة.

البُعد الرابع يتمثّل في السياسة الخارجيّة التي كان مركزها مبدأ “صفر مشاكل مع الجيران” الذي اعتنقه رئيس الوزراء دافوتوغلو (الذي كان آنذاك وزيرا ً للخارجيّة) وعمل بجهد ٍ ومثابرة على تنفيذه. ولكن الصّورة تبدو في الوقت الحاضر مختلفة كليّا ً. فليس هناك أية دولة مجاورة لتركيا (إضافة إلى دول أخرى في المنطقة) ليس لتركيا مشاكل معها، شاملة أرمينيا، اليونان (بسبب جزيرة قبرص)، إيران، العراق، سوريا، المملكة العربيّة السعودية، إسرائيل، مصر وغيرها.

ووتّرت تركيا علاقاتها أيضا ً مع الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي حول سياساتهم المغايرة تجاه سوريا والحملة ضدّ تنظيم “داعش”. ومن السّخرية أنّه في الوقت الذي يتطلّب فيه مبدأ “صفر مشاكل مع الجيران” ذكاء وبراعة لحلّ المشاكل، اختار أردوغان إلى حدّ كبير نهج المواجهة.

البُعد الخامس هو إخلال التوازن المتزايد ما بين الإسلام والديمقراطيّة. فقد ذهبت الحكومة، بكلّ المقاييس ، أبعد بكثير من توافق ٍ سليم ما بين الدين والديمقراطيّة. لقد احتضن أردوغان بشكل ٍ منهجي سياسات ذات توجّه دينيّ ليست فقط محليّا ً وإنّما أيضا ً ضمن علاقات تركيا الخارجيّة. إنّه يفضّل أية منظمة أو دولة بروابط إسلاميّة قويّة (مثل قطر وحماس) عن غيرها، وذلك بصرف النّظر عن القضايا المختلف عليها فيما بينها.

وبدلا ً من انتهاج توازن ما بين شكل ٍ ديمقراطي للحكم والإسلام كدين الدولة، فإنّ تخلي أردوغان المقصود للإصلاحات السياسيّة والإجتماعيّة لصالح التوجّه الإسلامي المتنامي بما يتعارض مع مبدأ تأسيس الجمهوريّة بدأ يعطي نتائج عكسيّة. لقد استخفّ أردوعان بشكل ٍجسيم بقوّة وشعبيّة العلمانيّة التركيّة.

وللتأكيد، فإن تراجع أردوغان على جميع الجبهات قد أثّر عليه أخيرا ً. فنجاحاته خلال فترة رئاستيه الأولى والثانية تبدو أنها أعمت بصيرته. ونتيجة لذلك، فإن طموحه لتغيير الدستور لمنحه، كرئيس، السلطة المطلقة تقريبا ً قد قوبل بالرّفض بشكل ٍ ساحق من قبل جمهور الناخبين.

ينبغي على الشعب التركي أن يتذكّر بأنه قادر فقط بقوّة الإقتراع أن يحبط طموح أردوغان الأعمى، وبالإستخدام الحكيم لصندوق الإقتراع قادر في المستقبل أن يستعيد طاقة تركيا كقوّة ديمقراطيّة كبرى وكلاعب مهمّ على الساحة الدوليّة.

إنّ حلم أردوغان في أن يكون رئيسا ً خلال الإحتفال المئوي لقيام الجمهوريّة التركيّة في عام 2023 بسلطة مطلقة تقريبا ً وأن يصبح أتاتورك تركيا العصريّة قد تبخّر الآن. تعطّشه لمزيد من السلطة وعجرفته والأسلوب الديكتاتوري الذي ينتهجه لترسيخ سلطته قد أطاحت به في نهاية المطاف.

وكما قال الأديب الإنجليزي وليام شكسبير يوما ً ما:”إنّه لشيء ممتاز أن يكون لك قوّة عملاق، ولكنه ظلم واستبداد أن تستعمل هذه القوّة كعملاق”.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE