لا تتسرّعوا في الحكم الآن على المصالحة بين فتح وحماس!
من السابق لأوانه أن نصف اتفاقيّة الوحدة بين فتح وحماس، أو بالأحرى اتفاقيّة المصالحة، بأنها مفيدة أو مضرّة لعمليّة السّلام الإسرائيليّة – الفلسطينيّة. فالحكم على صلاحية تطبيق هذه الإتفاقيّة من عدمه يجب أن يُفحص أوّلاً في سياق تغيير موقف حماس ووضع مفاوضات السّلام الإسرائيليّة – الفلسطينيّة.
إنّ فشل تطبيق اتفاقيتين مماثلتين لهذه في الماضي على أرض الواقع لا يعني بالضّرورة بأن هذه الإتفاقيّة ستلقى نفس المصير. وحسب تقديري وفهمي فإن كلا الفصيلين، فتح وحماس، قد توصّلا إلى نتيجة مفادها بأن الإتفاق الجديد، بخلاف الإتفاقيّات السابقة، ضروري للتكيّف مع الديناميّات المتغيّرة في المنطقة وعلاقاتهما الثنائيّة.
لقد تشجّعت حماس لهذه الإتفاقيّة بفعل عدّة عوامل، منها المهمّة الصعبة جدّا ً لتلبية احتياجات الفلسطينيين في قطاع غزّة الذين يعانون من الإحباط واليأس بنسبة بطالة عن العمل تصل لحوالي 40 % وخدمات طبية وتعليميّة تحت المستوى المطلوب وجيل جديد يعيش على المهانة اليوميّة مع وجود القليل من الأمل والفرص لمستقبل ٍ أفضل.
لقد انفصلت حماس عن مصر بعد أن قامت الحكومة المصريّة الجديدة التي يسيطر عليها الجيش بتدمير معظم الأنفاق مانعة ً بذلك تهريب البضائع إلى غزّة، فقد كانت هذه الأنفاق في الماضي بمثابة شريان اقتصادي ومالي حيوي لحكومة حماس. أضف إلى ذلك بأن الثورة في سوريا وقرار حماس دعم الثوار قد حرمها من الدّعم السياسي واللوجستي الذي كان يقدّمه لها نظام بشّار الأسد. ونظرا ً للعقوبات المفروضة على إيران، فقد قامت طهران بشكل ٍ ملموس بتخفيض مساعداتها الماليّة وإمداداتها العسكريّة التي كانت حماس تعتمد عليها بشدّة في الماضي. هذا وما زال الحصار الإسرائيلي على قطاع غزّة – رغم تخفيفه بعض الشيء خلال العامين المنصرمين – يمنع التدفّق الحرّ للبضائع، وبالأخصّ موادّ البناء، هذا ناهيك عن القيود الغير عاديّة المفروضة على السّفر وشبه الإنعزال التامّ للفلسطينيين عن باقي العالم. وأخيرا ً، فإن عجز حماس على تحدّي إسرائيل عسكريّا ً الآن وفي المستقبل قد تمّ إدراكه الآن أخيرا ً وبشكل جيّد جدّا ً تاركا ً حماس أن تستنتج بأن الخيار الحيوي الوحيد المتبقي لها هو أن تنضمّ لحركة فتح في دعوة لتخفيف الضغط المالي والتمتّع مع الوقت بقبول ٍ سياسي أكبر من قبل المجتمع الدولي وتصبح جزءا ً مكمّلا ً للعمليّة السلميّة.
وبالنسبة للسلطة الفلسطينيّة، فإن الإتفاق مع حماس يعني قبول ما لا مفرّ منه وهي حقيقة أنّه لا يمكن التوصّل لاتفاقيّة سلام مع إسرائيل وتنفيذ هذه الإتفاقيّة بالكامل والإبقاء عليها بدون دعم وتأييد حماس. وبالنسبة للرئيس محمود عبّاس، فقد استنتج أنّه ما دامت مفاوضات السّلام لم تحرز أي تقدّم، فإنّه لن يخاطر بالشيء الكثير بالتواصل مع حماس، لا بل إنّه يعزّز دوره كزعيم لكلّ الفلسطينيين ويكسب في نفس الوقت دعما ً سياسيّا ً فلسطينيّا ً واسعا ً.
أجل، ستكون السلطة الفلسطينيّة بحماس في وضع ٍ يسمح لها عرض جبهة موحّدة ويمنع إسرائيل من الإستمرار في سياستها “فرّق تسد” وينكر على إسرائيل مزاعمها بأنه لا يوجد شريك تتفاوض معه ويقوّي شرعيّة السلطة الفلسطينيّة في الحكم ويكسبها المزيد من الدّعم الدولي مع مرور الوقت. وأخيرا ً، وبالنظر إلى تقلّص شعبيّة حماس فإن فتح تتوقّع أن تبرز بدرجة تفوق المرجّح كالفائزة في الإنتخابات المقرّر عقدها خلال الأشهر القليلة القادمة. وبالنسبة لحماس، يبدو الآن بأن انضمامها للحظيرة العربيّة، علاوة ً على تخفيف الضغط المالي عنها، أمر يتجاوز في أهميته سياسة ممارسة المقاومة المسلّحة تجاه إسرائيل.
تقدير عباس لردّ الفعل الإسرائيلي كان محسوبا ً. فبالرغم من قرار نتنياهو تعليق المفاوضات التي أصبحت أصلا ً في وضع احتضار وتهديداته بخنق السلطة الفلسطينيّة من الناحية الماليّة، غير أنّه يريد منع انهيار السلطة الفلسطينيّة، فهو يرتعب من أن يصبح مجبرا ً على تحمّل العبء المالي والأمني لما يزيد عن 2.5 مليون فلسطيني في الضفّة الغربيّة.
وبالرّغم من أنّ الولايات المتحدة قد عبّرت عن خيبة أملها من قرار الرئيس الفلسطيني محمود عباس المفاجىء للمصالحة مع حماس، غير أنّ إدارة أوباما سترى هي الأخرى أنّه من الصّعب جدّا ً عليها معاقبة السلطة الفلسطينيّة لأنّ هذه العقوبة التي ستشمل أيضا ً وقف المساعدة الماليّة لن تبدّد ما تبقّى من العمليّة السلميّة فحسب، بل إنها ستلحق أيضا ً ضررا ً بقدرة الولايات المتحدة على التأثير على السلطة الفلسطينيّة في المستقبل.
وإصرار نتنياهو على أن يختار عبّاس ما بين صنع سلام ٍ مع إسرائيل أو مع حماس هو أمر ٌ ماكر ومخادع في أحسن الأحوال، فاتفاقيّة المصالحة بالنسبة لنتنياهو قد سقطت له هديّة من السّماء، فقد منحته الفرصة في الوقت المناسب لكي ينهي المفاوضات حول حلّ الدولتين الذي لم يكن يؤيّده أبدا ً في أيّ وقت ٍ من الأوقات وإلقاء اللوم في ذلك وبكلّ بساطة على السلطة الفلسطينيّة.
لم يتقبّل نتنياهو ومعظم شركاء تحالفه في أنفسهم حتّى إضمار فكرة أنه بإمكان حماس تعديل موقفها ويرفضون الأخذ بعين الإعتبار بأن الوقت والظروف هي التي فرضت هذا الوضع، وإسرائيل نفسها هي التي أحدثت الجزء الكبير من هذا التغيير، ولكنها الآن ترفض قبول نتائج سياساتها. وبالفعل، فبصرف النظر عن موقف حماس السياسي الحالي تجاه إسرائيل، فإن قادتها يعلمون جيّدا ً بأنهم لا يستطيعون لا الآن ولا في أيّ وقت ٍ في المستقبل تشكيل تهديد وجودي لإسرائيل. لا يمكنهم البقاء إذن خارج التيارات السياسيّة الرئيسيّة التي ستحمل معها على الأرجح تطورات هامّة في الأشهر والسنين القادمة، وهم يعلمو ن أيضا ً بأنّه لا يوجد بديل حيوي آخر إذا هم اختاروا البقاء معنيين بالموضوع.
أجل، لقد صُنّفت حماس وبحقّ كمنظمة إرهابيّة من قبل إسرائيل والولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي. ولكن هكذا كانت منظمة التحرير الفلسطينيّة قبل عقدين من الزمن. فالظروف السياسيّة المتغيّرة والواقع الجديد على الأرض قد أجبرت منظمة التحرير الفلسطينيّة على تغيير موقفها تجاه إسرائيل، الأمر الذي أدّى في النهاية إلى إلغاء تلك المواد في ميثاق منظمة التحرير التي أنكرت حقّ إسرائيل في الوجود وذلك يوم 24 نيسان (أبريل) عام 1996.
وبالفعل، موقف حماس وشرطها المسبّق لإقامة سلام ٍ مع إسرائيل لا يختلفا كثيراً عن موقف السلطة الفلسطينيّة في الوقت الحاضر. لقد صرّح الزعيم السياسي لحماس ومرشدها الرّوحي، خالد مشعل، لإذاعة ال “سي.إن.إن” في شهر نوفمبر / تشرين الثاني 2012 ما صرّح به قبل ذلك مرّتين بقوله:” أنا أقبل بدولة فلسطينيّة على أساس حدود عام 1967 وبالقدس عاصمة ً لها وبحقّ العودة”. أضف إلى ذلك، فبالرغم من اعتبار إسرائيل حماس منظمة إرهابيّة وفرضت حصارا ً على قطاع غزّة لفترة التسعة أعوام الماضية، غير أنها كانت تتعامل وتتفاوض مع حماس بشكل ٍ مباشر وغير مباشر على عدّة جبهات وقنوات وحول قضايا عديدة، بما فيها تبادل الأسرى والتجارة في كلا الإتجاهين وتبادل بعض المعلومات لمنع انفجارات أو ثورات غضب فجائيّة.
بدلا ً من رفض اتفاقيّة المصالحة كليّا ً وبدون تروّ ٍ، على إسرائيل والولايات المتحدة تشجيع حماس لاتخاذ خطوات ٍ إضافيّة لإظهار نواياها والطلب من أصدقاء حماس، مثل تركيا، إقناع حماس على تغيير موقفها العلني تجاه إسرائيل. وقد تقتنع حماس في هذا السياق باحتضان مبادرة السّلام العربيّة التي تعرض على إسرائيل سلاما ً عربيّا ً – إسرائيليّا ً شاملا ً يعتمد على أساس نفس الشروط تقريبا ً التي تطالب بها السلطة الفلسطينيّة وحماس. وقد يسمح هذا لحماس بالعودة إلى حظيرة الدول العربيّة بدون خسارة ماء وجهها وتسمح أيضا ً للولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي بإزالة حماس من قائمة الإرهاب. هذا ويجب الأخذ بعين الإعتبار أيضا ً بأنه يتطلّب على اتفاقية المصالحة بين حماس والسلطة الفلسطينيّة أن تقوم حماس بالتخلّي عن دعوتها لتدمير إسرائيل واستفزازها وأن تمنع متطرفين فلسطينيين آخرين من استفزاز إسرائيل، وهذا ما كانت حماس تقوم به بالفعل على أية حال خلال الثلاثة أعوام الماضية.
وللتأكيد، فإن الفكرة الكامنة وراء اتفاق الوحدة الفلسطينيّة هي أن تصبح حماس جزءا ً لا يتجزّأ من الجسم السياسي الفلسطيني وأن تتخلّى بشكل ٍ دائم عن المقاومة المسلّحة للإحتلال الإسرائيلي لصالح المقاومة السياسيّة السلميّة. وهذه الإتفاقيّة الأخيرة في هذه المرحلة الحاسمة بالذات ستدوم باحتمال ٍ شبه اليقين وستعرض على الولايات المتحدة وإسرائيل فرصا ً وإمكانيّات جديدة للبناء عليها بدلا ً من رفضها. فحماس والفلسطينيّون في قطاع غزّة حقيقة لا مفرّ منها، وأن تغفل الولايات المتحدة وإسرائيل عن وجودهم أمر ٌ لا ينمّ فقط عن قصر نظر، ولكنه أيضا ً مضلّل بشكل ٍ خطير.
وبالفعل، لا تستطيع الولايات المتحدة ولا إسرائيل على حدّ ٍ سواء إلغاء وجود حماس، وعليهما التعامل معها ما دامت تعتدل في مسارها وتتحدّى إسرائيل في صنع السّلام بدلا ً من تحدّي حقّها في الوجود.