لماذا تعبثون بسبب وجود إسرائيــل؟
من المسلّم به أنّ كلّ يهودي داخل وخارج إسرائيل يريد أن يرى إسرائيل كدولة نابضة بالحياة: مصدرا ً للقوّة الإقتصاديّة بديمقراطيّة ناجحة ومزدهرة، دولة ً واثقة من نفسها وآمنة، قادرة ً على الدّفاع عن نفسها وعلى ردع أيّ عدوّ، بعيدا َ كان أم قريب، يتحدّى حقّها في الوجود، دولة ً في سلام ٍ مع جيرانها، محترمة ً من قبل المجتمع الدولي، متميّزة ً بإنسانيتها واعتنائها بالآخرين، منارة ً تهتدي بنورها أمم أخرى.
أجل، بإمكان إسرائيل أن تكون كلّ هذا ونيّف، فأنا واثق ٌ من ذلك. ويعتقد جميع القادة الإسرائيليّون – بصرف النظر عن اتجاهاتهم السياسيّة – في أعماق قلوبهم بأن البلد الذي انبعث من رماد الإنقراض والإنطفاء ليصبح أمّة ً مجيدة تمنح ملجأ ً وملاذا ً لكلّ يهودي بحيث لن يعيش بعد اليوم تحت نزوات ورحمة الآخرين. هذا هو السبب الذي خلقت إسرائيل من أجله والهدف من قيامها، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي تحقّق بها إسرائيل مستقبلها.
واليوم تواجه إسرائيل مفترقا ً مصيريّا ً: فإمّا أن تنهي الإحتلال أو تستمرّ في إخضاع الفلسطينيين وتفوّت عليها بذلك الفرصة التاريخيّة لتصبح دولة حرّة بالفعل تستطيع أن ترقى لمستوى الوعد الإلهي بإنشائها.
يطرح الإنهيار الوشيك لمفاوضات السّلام الإسرائيليّة – الفلسطينيّة السؤال الحرج الآتي: هل ما زال هناك أمل في أن يُحلّ الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني في وقت ٍ من الأوقات ؟ لم تتمكّن ستة عقود من الخلاف الدموي الموهن أن تبشّر بقرب اتفاقيّة، فالواقع المتغيّر على الأرض يجعل من إمكانيّة التوصّل لحلّ أكثر إعتاما ً وأكثر بعدا ً ومشحونا ً بالخطر المشئوم. فالإحتلال المستمرّ للأراضي الفلسطينيّة يلتهم تدريجيّا ً مكانة إسرائيل المعنويّة والأخلاقيّة ورفاهيتها الماديّة ويقرّبها أكثر فأكثر من الدّمار الذاتي. وبالرّغم من أنّ الفلسطينيّون ليسوا متفرّجين أبرياء، غير أنّه يجب على إسرائيل، وإسرائيل لوحدها، أن تتحمّل الآن العبء لأنها بلا منازع القوّة القادرة على تغيير مجرى الأحداث ومنع حدوث الكارثة التي تلوح في الأفق.
لا أحد يعرف تاريخ اليهود أفضل من اليهود أنفسهم. لقد كان الإضطهاد والفصل والطرد والموت بأشكال ٍ لا مثيل لها في التاريخ الإنساني نصيب اليهود تقريبا ً في كلّ مكان ٍ يتواجدون فيه. ولكن هذه المحن والبلوات التاريخيّة التي يعجز اللسان عن وصفها لا تمنحهم الترخيص أن ينزلوا بالآخرين الألم والمعاناة والمعاملات المهينة. يجب أن يعطي إدراك المعنى الحقيقي لنزع الإنسانيّة والحطّ من القدر والسخرية والمهانة حافزا ً لمزيد من قيم اليهود الأخلاقيّة والإنسانيّة عن طريق معاملة الفلسطينيين بالرأفة والحنوّ والحساسيّة. وبحتميّة التعايش جنباً إلى جنب والمصير المشترك المحبوك لكلا الشعبين، أي أمل ٍ لهما على المدى القريب والبعيد إن لم يكن بينهما الوئام والسّلام ؟
كارثة جديدة تتلبّد غيومها السّوداء في الأفق ستطمس حلم اليهود في بناء دولة ٍ حر ّة ودائمة كالعديد من الدّول الأخرى، والبديل هو العيش في عزلة ٍ كدولة عسكريّة محاطة بالسياجات والجدران والأعداء، حابسة نفسها في قفص وغارقة في محيط ٍ من الأعداء والإزدراء.
أجل، يجب على الإحتلال أن ينتهي، ليس فقط بسبب ظلمه المتأصّل لأنه يحتقر الفلسطينيين ويحطّ من قدرهم، بل لما يفعله الإحتلال أيضا ً للإسرائيليين أنفسهم، فهو يخزي ويشوّه سمعة التراث اليهودي ويحوّل اليهود اللذين كانوا يوما ً ما مضطهدين ومظلومين إلى جلاّدين لا شفقة لديهم ولا رحمة. لا، ليس هذا هو السبب الذي خُلقت إسرائيل لأجله. فكون اليهود من الناحية التاريخيّة ضحيّة لا يعطيهم الحقّ أو الترخيص في أن يضحوا بالآخرين. يجب على اليهود الذين يعتبرون الحريّة أمرا ً مسلّما ً به ألاّ يناموا أبدا ً وهم يعلمون بأنّ ملايين الفلسطينيين لا يهنأون بالنوم ليلا ً وهم محرومون من أحلام ٍ جميلة ومشغولي البال بما سيجلبه لهم الغد، ليصحوا فقط والأصفاد في أياديهم ومشحونين بالغضب والحقد. هم يريدون ما تريدونه أنتم وتتعلّقون به أيها الإسرائيليّون ! يريدون الكرامة، يريدون الحريّة ويطالبون بحقوق الإنسان التي تتمتّعون بها ولكنكم تنكرون عليهم وبشكل ٍ متعمّد ولا مبرّر له القيم الأساسيّة التي تتمسّكون بها بشدّة.
وللمستوطنين ومسانديهم أقول: في الوقت الذي تبنون فيه مستوطنات جديدة وتوسّعون مستوطنات قائمة وتغتصبون الأرض الفلسطينيّة شبرا ً شبرا ً تنكرون على الفلسطينيين تطلعاتهم لبناء دولة . فهم يشاهدون يوميّا ً الضمّ الزاحف لأراضيهم، وترهبونهم بما ينتظرهم غدا ً – لا شيء سوى الخوف من الإستيلاء على مزيد ٍ من أراضيهم.
أنتم تغذّون الفلسطينيين بجرعة ٍ يوميّة من الكراهية والغضب الشديد، ثمّ تلومونهم لأنهم يكرهونكم. فكلّما ضربت مستوطناتكم جذورا ً أعمق في الأرض، تقوّون أنتم عزيمتهم وتصميمهم لاجتثاثكم. هذا هو نهج هذه القصّة المأساويّة، فبدلا ً من بناء جسور ٍ للسّلام تقيمون أنتم صروحا ً من النفور والبغضاء.
المسئوليّة تقع بالكامل على الحكومة الإسرائيليّة. فنتنياهو الذي يتطلّع بصدق إلى إسرائيل كدولة قويّة نابضة بالحياة ومزدهرة يطبّق سياسات عكس ذلك تماما ً تحرم إسرائيل من مستقبلها الزاهر. إنّه يعيش رافضا ً وغير موافقا ً أبدا ً على دولة فلسطينيّة. هو متعصّب إيديولوجي مدفوع بمبادىء ومفاهيم توراتيّة فقدت كلّ صلة لها بأرض الواقع اليوم. هو يعتقد بأنه قد أُختير بإرادة إلهيّة كي يقود الأمة، ولكنه لا يستطيع أن يفهم بأن الإرادة الإلهية قد وضعت الفلسطينيين بشكل ٍ دائم ولا مفرّ منه جنبا ً إلى جنب مع إسرائيل. إنّه يربط زورا ً وبهتانا ً أمن إسرائيل القوميّ بتعطشه الذي لا يرتوي لمزيد من الأرض الفلسطينيّة ويبقى متشبثا ً بأوهامٍ وأحلام ٍ “عظيمة”، زاحفا ً بشكل ٍ أعمى عبر مجازات مظلمة، جارّا ً إسرائيل بثبات ٍ منقطع النظير نحو الهاوية، قائدا ً بلدا َ وشعبا ً بغباء ٍ إلى ضلال، وهو الذي قد إئتمن على قيادتهما.
من المفهوم بأن اليهود في أيّ مكان ٍ في العالم مرتبطين إرتباطا ً فريدا ً من نوعه بدولة إسرائيل، لأنّ إسرائيل بالنسبة ليهود العالم تمثّل الملجأ الأخير، الدولة التي تقدّم لهم ملجأ آمنا ً وتقرّر بشكل ٍ مستقلّ مصيرها بنفسها. ولذا يجب على إسرائيل من وجهة نظرهم أن تبقى قويّة وفعّالة لأنهم يرون مصيرهم ومستقبلهم مرتبطا ً ارتباطا ً وثيقا ً بقوّة إسرائيل وثباتها وطيلة عمرها. ولكن على يهود الشتات أن يفهموا أيضا ً بأن احتلال الأرض الفلسطينيّة تدمّر المقدمة المنطقية الوحيدة التي أنشئت الدولة على أساسها، فاستمرار الإحتلال بأي شكل ٍ يقوّض تدريجيّا ً العقيدة الأخلاقيّة والمعنويّة للبلد، وهي العقيدة التي يعتمد بقاؤها عليها.
أجل، أن يقف هؤلاء بجانب إسرائيل فهو واجب، ولكن مساندة ودعم السياسات المضلّلة على نمط أعمى يقود أعمى لا تستنكر فقط على الفلسطينيين حقوقهم الإنسانيّة، بل تعرّض للخطر وجود الكومنويلث الثالث الذي كان اليهود يتوقون إليه منذ آلاف السنين والذي عليهم ألاّ يفرّطوا به أبدا ً.
حان الوقت أن تفيقوا أيها الإسرائيليّون للحقيقة المرّة التي تحاولون تجاهلها أو طمسها. فالجوّ الخالي من العنف نسبيّا ً والرّخاء الذي تتمتّعون به اليوم ليس إلاّ سرابا ً. أنتم مخدوعون ببلاغة قادة مضللين يقودونكم بدون قصد بعيدا ً عن الصّراط المستقيم. رضاكم عن هذا الوضع هو أسوأ عدوّ لكم. هذا لا يعني بأن الفلسطينيين أبرياء، ولكن لديكم أنتم القوّة لإحداث تغيير في الإتجاه إن كنتم فقط راغبين في ذلك. فبديل الصراع المستمرّ والمضني لن يستمرّ ببساطة طيلة مدّة الصراع نفسه. سيكون كارثة على إسرائيل لأنّ العالم أصبح يشعر الآن بالمحنة الفلسطينيّة ويدين إسرائيل لعنادها وخروقاتها الجسيمة لحقوق الإنسان.
على الإسرائيليين أن يتذكروا بأن المجتمع الدولي بأكمله يعارض بشدّة الإحتلال. لقد تمّ استغلال مخاوف إسرائيل الأمنيّة القوميّة بشكل ٍ مفرط وأصبحت حاجبا ً من الدّخان لإخفاء سياستها التوسعيّة التي أصبح أي شخص ٍ أعمى قادرا ً على الرؤية من خلالها.
وتبقى أمريكا المنارة الأخيرة لأمل إنقاذ إسرائيل من السير في هذا النهج الإنتحاري. وفي الوقت الذي تقوم فيه الولايات المتحدة الآن بالتفكير بعمق في خططها المستقبليّة حول العمليّة السلميّة، قد تكون هذه آخر محاولة يقوم بها وزير الخارجيّة الأمريكي جون كيري لإنقاذ عمليّة السّلام.
من الحكمة أن يتذكّر القادة الإسرائيليّون بأنه إذا ما قررت الولايات المتحدة يوما ً بأن إمكانيّة عقد اتفاقية سلام ستبقى سرابا ً وأمرا ً خادعا ً، قد تترك حينها الإسرائيليين والفلسطينيين لمصيرهم.
سيلعب الفلسطينيّون من أجل كسب الوقت وسيصبحون أقوى بأعدادهم الكبيرة وإرادتهم الحديديّة، وسياسات إسرائيل المدمّرة ذاتيّا ً ستجعلها أضعف يوما ً بعد يوم، وستبهت قوتها العسكريّة الهائلة أمام ثبات الفلسطينيين وصبرهم الذي لا ينفذ، مدركين تماما ً بأن الوقت لصالحهم. ولقد أثبت التاريخ ذلك مرارا ً وتكرارا ً.