الحريّة في الشّهادة
ركّز النقاش الشعبي المكثّف حول الأسباب الجذريّة للتطرّف العنيف بشكل ٍ رئيسي على الظروف الإجتماعية – الإقتصادية والسياسيّة السائدة في الدّول العربيّة وبين الجاليات العربيّة في أوروبا وفي الولايات المتحدة التي توفّر أرضيّة خصبة للتطرّف. ولكن لمواجهة التطرّف العنيف بفعاليّة، علينا أن نأخذ أيضا ً بعين الإعتبار كيف أثّر تطوّر الأحداث في صحوة الحربين العالميتين الأولى والثانية في الطبيعة والنزعة السيكولوجيّة للشعوب العربيّة في جميع أرجاء الشرق الأوسط. فبدءا ً من التقسيم التعسّفي للمنطقة من قبل القوى الغربيّة والحروب والثورات وعشرات الصّراعات المسلّحة التي تبعت ذلك، هذه كلّها قد أضافت طبقة على طبقة من مشاعر الإستياء العميق والحقد تجاه الغرب وللزعماء العرب الدّمى الذين نُصّبوا لخدمة أسيادهم الغربيين. وفيما يلي نظرة تاريخيّة بانوراميّة موجزة لما مرّت به الأغلبيّة العظمى من الشعوب العربيّة، الأمر الذي شّكل إدراكهم وفهمهم للعالم من حولهم وترك وصمة ً لا تُمحى على نفسيتهم وأطّر معتقداتهم وسلوكهم.
لقد صرّح الرئيس باراك أوباما في قمة مواجهة التطرّف العنيف بأن “العالم الإسلامي قد عانى من مظالم تاريخيّة ….وتصبّ في المعتقد بأن الكثير من الشّرور في الشرق الأوسط تنساب من تاريخ الإستعمار أو التآمر”.
وعمّا إذا كانت القوى الإستعماريّة ملامة جزئيّا ً أو كليّا ً على ذلك، فهذا لا يكاد أن يكون ذات صلة بالموضوع لأنّ الجماهير العربيّة مستمرّة في الإعتقاد بأن الإستعمار كان وراء الشرور والمعاناة التي تكبّدتها. ومن وجهة نظر أغلبيّة العرب، فإن تطورات الأحداث الرئيسيّة التي تلت الحربين العالميتين أكدت ببساطة على فهمهم ونظرتهم هذه.
حتّى وقبل انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة في الحرب العالميّة الأولى، توصّلت بريطانيا وفرنسا لاتفاقيّة سريّة في عام 1916 (عرفت باسم “اتفاقية سايكس – بيكوت”) لتقسيم المناطق التي تحت السيطرة العثمانيّة في الشرق الأوسط ما بين القوّتين الغربيتين بصرف النظر عن الإنتماءات الطائفيّة والعرقيّة والدينيّة. ونُظر لتقسيم هذه “الفطيرة” بينهما كتصرّف استغلالي متعجرف ورافض لخير ورفاهيّة الشعوب الأصليّة، الأمر الذي أفضى إلى عقود ٍ من الصراعات والإضطرابات.
وقيام معظم الدّول العربيّة في أعقاب الحرب العالميّة الثانية لم يغيّر كثيرا ً من محنة العرب الذين يعيشون في هذه البلدان. فقد عيّن الفرنسيّون والبريطانيّون حكّاما ً وملوكا ً وأمراء حكموا البلاد بقبضة حديديّة وعمّقوا أكثر الكراهيّة تجاه القوى الغربيّة وتجاه أنظمتهم الإستبداديّة التي كانوا يئنّون تحتها.
وقد اعتُبرت إقامة دولة إسرائيل في عام 1948 كمؤامرة غربيّة أخرى. فإذلال الجيوش العربيّة من قبل القوات الإسرائيليّة حديثة المولد وخسارة جزء مهمّ من الأرض وخلق مشكلة اللآجئين الفلسطينيين، هذه كلّها أضافت طبقة أخرى من الإستياء العميق. ويستمرّ الإحتلال الإسرائيلي – الذي أدّى إلى صعود حماس وحزب الله – في تغذية الفلسطينيين بوجبة يوميّة من الإذلال والمعاملة المهينة حتّى يومنا هذا.
وقد اعتُبرت عمليّة الإطاحة عام 1953بحكومة مصدّق المُنتخبة ديمقراطيّا ً في إيران بتخطيط من وكالة الإستخبارات الأمريكيّة (سي.آي.إيه) والإستخبارات البريطانيّة بسبب قرار البرلمان تأميم صناعة النفط أكبر تدخّل صارخ في الشؤون الداخليّة لدولة إسلاميّة. وتنصيب الشاه بعد ذلك، وكان دمية غربيّة، ومعاملته الفظّة لأتباعه لم ينساها الإيرانيّون أبدا ً وما زالت مصدرا ً للغضب والكراهيّة تجاه الولايات المتحدة.
وعندما استلم الرئيس جمال عبد الناصر، الذي كان يُشاد به شعبيّا ً كبطل قوميًّ، زمام السلطة في مصر وتجرّأ على تحدّي سيطرة الغرب و “امتلاكهم” لقناة السويس، ردّ عليه الفرنسيّون والبريطانيّون بالتعاون مع إسرائيل بالحرب.
وداست الحرب مع مصر مرّة أخرى على كبرياء العرب حيث اعتبر العرب أنّ قيام إسرائيل بالإستيلاء مرّة أخرى على القناة واحتلال صحراء سيناء تأكيدا ً صارخا ً لفظاظة الغرب وغطرسته ونهم إسرائيل لمزيد من الأرض العربيّة. أجل، وثمّ جاءت حرب الأيام الستّ عام 1967، حيث غزت إسرائيل في (144) ساعة أراض ٍ مصريّة وسوريّة وأردنيّة مساحتها تزيد ثلاثة أضعاف مساحة إسرائيل نفسها. وبالّرغم أنّ هزيمتهم في ساحة المعركة كانت مذلّة، غير أنّ الهزيمة السيكولوجيّة هي التي حطّمت احترام الذات عند العرب.
وبالرّغم أن حرب يوم الغفران عام 1973 أنقذت الإعتزاز الوطني لمصر بالسماح للقوات المصريّة بالبقاء على الجانب الشرقي من قناة السويس وضمنت بذلك لأنور السادات انتصارا ً سياسيّا ً، غير أنها لم تفعل الكثير لتخفيف إذلال العرب حيث استمرّت إسرائيل باحتلال أراض ٍ عربيّة على ثلاث جبهات.
ووضعت الثورة الإيرانيّة عام 1979 علامة ً لأول دولة مسلمة ذات شأن تثور ضدّ الولايات المتحدة مرسلة َ بذلك رسالة واضحة للعرب والمسلمين بأنّ الغرب لن يفرض بعد اليوم نزواته بدون عقاب. ومما لا يثير الدهشة، فإن انتصار الزمرة الدينيّة الحاكمة في إيران لم يغيّر كثيرا ً من الإستياء الأصلي والكراهية تجاه الغرب.
وبالرّغم من أنّ حرب أفغانستان عام 2001 كانت ضروريّة – كما يُقال – لتدمير القاعدة بعد هجوم 11/9، فإن إطالة أمد الحرب ودماره وعدد القتلى كانت وما زال يُنظر لها كنتائج لشهيّة الغرب التي لا تشبع في السيطرة على أراض ٍ إسلاميّة – عربيّة.
لقد خلقت حرب أفغانستان جيلا ً جديدا ً من المسلمين المتشدّدين الذين أخذوا يعملون مع القاعدة وباستقلال عن القاعدة أيضا ً ومستعدين لتحدّي قوى الغرب والأنظمة العربيّة الإستبداديّة التي تريد الإبقاء على الوضع الراهن.
وبصرف النظر عن مدى انتقاد صدام حسين لفظاظته، غير أنّ الأغلبيّة الساحقة من الشباب العرب اعتبرت حرب العراق عام 2003 كهجوم ليس له مثيل على قلب أرض العرب وشعبها. لقد فككت الحرب بشكل ٍ أساسي العراق، وألّبت السنّة ضد الأغلبية الشيعيّة. لقد قُتل عشرات الآلاف وتجمّع في العراق الإسلاميّون العنيفون الذين أدوا في النهاية لولادة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، في حين سمّمت هذه الحرب جيلا ً جديدا ً من الِشباب العرب بمشاعر معادية للغرب بشكل ٍ مكثّف.
والرّبيع العربي الذي بشّر بأمل ٍ كبير ووعد ٍ بمستقبل ٍ زاهر تحوّل إلى شتاء ٍ قارص. لقد تدخّلت الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي بشكل ٍ إنتقائي في مختلف دول الربيع العربي بدون أية استراتيجيّة واضحة معتقدين بأن حشو الديمقراطيّة في حناجر الناس سيقدّم الدواء الشافي لجميع أمراضهم السياسيّة.
ومع أخذ كلّ هذا بعين الإعتبار، فإنّ الأغلبيّة الساحقة من الشعوب العربيّة تقبل قسمتها بقنوط ٍ صامت. ولكن الأقليّة الصغيرة نسبيّا ً المشاركة في التطرّف العنيف نهضت لتتحدّى بكلّ الوسائل الممكنة والمتاحة لها القوى الغربيّة والأنظمة العربيّة الإستبداديّة. يختلف هؤلاء المجاهدون في العمر والقدرة الماليّة وقسط التعليم وشهرة العائلة. هم لا ينسجموا في إطار ٍ واحد ولا يتبعوا مسارا ً واحدا ً من التطرّف، ولكن يجمعهم على أية حال قاسم مشترك واحد وهو: الكراهيّة تجاه الغرب وتجاه زعمائهم الفاسدين.
لا يعتقد هؤلاء الجهاديّون بعد اليوم بأن حكوماتهم ستستجيب لدعوتهم للتغيير. إنّهم يؤمنون بأن النفوذ الغربي لعنة وأنّ الجهاد فقط هو القادر على تغيير مصيرهم ومسار تاريخهم.
لقد وفّر التطرّف الديني والتشويه المتعمّد للتعاليم الإسلاميّة المخرج الذي قد يبرّر أيّ عمل أو إجراء عنيف لإصلاح عقود ٍ من العبوديّة والقهر. فبتمجيد الموت أثناء قتال العدوّ كشهادة، وهذه أقصى تضحية تفتح أبواب الجنّة وتهب الحريّة والكرامة الحقيقيتين اللتين حُرموا منهما على الأرض.
وبالرّغم من أنّ استخدام القوّة يكون أحياناً ضروريّا ً لتدمير عدوّ ممعن في الضّلال ولا سبيل لإصلاحه ويتعذّر قهره بوسائل أخرى مثل تنظيم “داعش”، غير أنّه من الحرج والمهمّ أن ندرك بأنّه لا توجد أية قوّة عسكريّة قادرة على محو العقيدة والقناعة الدينيّة.
ومن الضروري اتخاذ عدد كبير من الإجراءات والتدابير لمواجهة التطرّف العنيف، شاملة التعليم، المساعدة الإقتصاديّة، توفير فرص العمل، الإندماج، معالجة المظالم والشكاوي، الإشتراك في النشاطات الإجتماعيّة وغيرها. ولكن لمكافحة ذلك بنجاح على المدى البعيد، يجب على الدّول الغربيّة العمل على عدّة جبهات لتمهيد الطريق للمصالحة.
يجب أن تبدأ المصالحة بإدراك أخطاء الماضي والإعتراف بها. فبصرف النّظر عن مدى سوء معاملة الغرب واستغلاله للموارد والشعوب العربيّة، فإن الإعتراف بتاريخه الطويل من السياسات المضلّلة ضروري جدّا ً لإجراء حوار ما زال مفقودا ً إلى حدّ كبير في استراتيجيّة مكافحة التطرّف العنيف.
أجل، بإمكان الغرب أن يقدّم نموذجا ً لحكم ديمقراطي، ولكن يجب عليه ألاّ يفرضه بشكل ٍ إعتباطيّ. ستجد الدّول العربيّة طريقها الخاصّ لتوفيق الدين مع شكل الديمقراطيّة الذي تختاره، وعلى الغرب أن يحترم نتيجة الإنتخابات الحرّة والنزيهة.
يدين الغرب للعديد من الدّول العربيّة، وبالأخصّ تلك الدول التي تعاني أغلبية شعوبها من الفقر مثل مصر، بالدّعم المالي والفنّي الضروري للبدء في مشاريع تنمية إقتصاديّة مُستدامة تعمل على تمكين الشّعب، فالشباب الفقير والجائع والقانط بحاجة لغذاء حتّى قبل الحريّة، ولفرص عمل ورعاية صحيّة وتعليم قبل انتخابات لا معنى لها بالنسبة لهم.
وعلى الولايات المتحدة ألاّ تدّخر جهدا ً أبدا ً لنزع فتيل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني ووضع نهاية للإحتلال الذي يشكّل مصدرا ً مستمرّا ً للعنف. وبفعلها هذا ستعالج الولايات المتحدة إحدى أهمّ المظالم والشكاوي الموجهة ضدّها، هذا في حين أنها ستقوّي أمن إسرائيل القومي.
وأخيرا ً، وبما أنّ الغرب والدّول العربيّة لها مصلحة مشتركة في إضعاف، إن لم يكن القضاء على المسلّحين المتشدّدين، فإن تعاونهم يجب أن يكون إستراتيجيّا ً لتجنّب احتمال خلق أزمة جديدة بينهم. فهل تعلم الولايات المتحدة مثلا ً ماذا سيكون مصير سوريا والعراق في حالة انهزام “داعش”، وكيف سيؤثّر ذلك على “الحرب” السنيّة – الشيعيّة التي تقودها المملكة العربيّة السعوديّة وإيران ؟
لا يعني أيّ مما ذكر أعلاه بأن الدول العربيّة لم تكن سوى ضحايا للإستعمار. لقد كانت تساهم في محنة شعوبها وما زالت مستمرّة في ذلك. فالعالم العربي مفعم بالتفاوت والظلم واللامساواة والإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان و”يزخر” أيضا ًبعشرات الملايين من الشباب والشابّات الذين هم في حالة البؤس والفقر المدقع وبأمل ضئيل لإيجاد هدف ٍ له معنى لحياتهم.
فإذا أراد القادة العرب إنهاء وباء التطرّف العنيف، عليهم تحمّل بعض المسؤوليّة وليس لوم الغرب فقط على مظالمهم وعلى عقود من التفكك الإجتماعي – الإقتصادي والسياسي واليأس. وما لم يستثمروا أموالهم الآن في التنمية الإقتصاديّة وفي التعليم والرعاية الصحيّة وفرص النموّ والسماح كذلك بالحريّة الإجتماعيّة والسياسيّة (ولو تدريجيّا ً)، فإن الشباب لن يزيد إلاّ تطرّفا ً وعنفا ً، والعاصفة التي لا ترحم ستستمرّ في اجتياح البلد تلوَ الآخر.
وللتأكيد، فإن مواجهة التطرّف العنيف ستكون حملة طويلة الأمد ومكلفة جدّا ً. ستتطلّب هذه الحملة التبصّر والشجاعة والحكمة والتعلّم من أخطاء الماضي. وعلى الدّول العربيّة، بالتعاون مع الغرب، رسم مسار ٍ جديد للثقة والإحترام المتبادل لمعالجة المهمّة الضخمة التي تنتظرهم.