حكومة غريبة عن الشعب
كانت المساومات السياسيّة التي شوهدت في إسرائيل خلال الثمانية أسابيع الماضية – والتي استنفذت كلّ ما لديها من وقت محدّد لتشكيل حكومة جديدة – في جوهرها صراعا ً على من سيحصل على أيّ منصب، هذا بصرف النّظر عن مؤهلات المتصارعين وبصرف النظر أيضا ً عمّا هو الأفضل للبلد.
وبالنّظر إلى أنّ الحكومة الجديدة مكونة كليّا ً من أحزاب سياسيّة يمينيّة ودينيّة متطرفة، سيكون من المستحيل إستئناف مفاوضات السّلام بشكل ٍ جدّي، حيث أنّ الأمر يتطلّب بالضرورة تنازلات جوهريّة يرفضها بصرامة وعناد رئيس الوزراء نتنياهو وشركاؤه في التحالف، وبالأخصّ حزب “البيت اليهودي” بزعامة نفتالي بينيت.
لا يعطي التحالف الجديد السلطة الفلسطينيّة أيّ سبب للإعتقاد بأن نتنياهو سيدفع عمليّة السّلام إلى الأمام، لا بل أنّه في الواقع سيخنق أية جهود لإحياء المفاوضات. أضف إلى ذلك، فقد تخلّت إدارة الرئيس أوباما عن جهودها لاستئناف مثل هذه المفاوضات لأنها ترى بأنه لا أمل يُرجى لأيّ اختراق ٍ في الوقت الحاضر.
ستدفع الحكومة الجديدة الآن الفلسطينيين أكثر فأكثر “لمتابعة مساعيها بنشاط على الساحة الدوليّة ….وصياغة قرارات جديدة مقترحة على مجلس الأمن الدولي” للإعتراف بالدولة الفلسطينيّة ومقاضاة إسرائيل في محكمة الجنايات الدوليّة لمنع توسّع المستوطنات واتهام في نفس الوقت بعض قادة إسرائيل السياسيين بارتكاب جرائم حرب.
علاوة ً على ذلك، تخلق الحكومة الجديدة بيئة محفوفة بالمخاطر تحفّز أكثر فأكثر لتجديد أعمال العنف مع الفلسطينيين حيث أنّ لا السلطة الفلسطينيّة ولا الشعب الفلسطيني لديه الكثير من الأمل بأن إمكانيّة السّلام ما زالت قائمة. وعلى الإسرائيليين أن يتذكّروا ما قاله يوما ً جون كنيدي:”بأن أؤلئك الذين يجعلون الثورة السلميّة مستحيلة سيجعلون من الثورة المسلّحة أمرا ً محتوما ً”.
وللتأكيد، لقد وُجدت الحكومة الجديدة بقيادة نتنياهو لخدمة أجندتها السياسيّة البعيدة كلّ البعد عن مصالح إسرائيل القوميّة. وبالفعل، ففي إسرائيل تأتي مصلحة السياسي الشخصيّة في المقام الأول، ومصلحة الحزب السياسي في المقام الثاني، والمحسوبيّة في المقام الثالث والبلد بإمكانه أن ينتظر.
وبالرّغم من أن حزب نفتالي بينيت “البيت اليهودي” قد خسر أربعة مقاعد من الإنتخابات السابقة، فقد استغلّ مركزه هذه المرّة “كصانع الملك” (فبدون حزبه لم يكن بمقدور نتنياهو تشكيل الحكومة الجديدة) ليبتزّ من نتنياهو وزارة العدل المرغوبة إضافة ً لوزارتي الزراعة والتعليم. لقد انصاع نتنياهو لجميع مطالب بينيت بدافع يأسه المطلق للبقاء في السلطة. فهل هناك شيء أكثر غرابة ً وسخافة ً من تعيين أيليت شاكيد كوزيرة للعدل وعضو في المجلس الوزاري المصغّر للشؤون الأمنيّة ؟ هذه هي نفس أيليت شاكيد المتعطشة للدماء التي دعت لإبادة كلّ الفلسطينيين، رجالا ً ونساء ً وأطفال ! هذه دعوة لإبادة جماعيّة ساكت عليها نتنياهو بشكل ٍ مخز ٍ، هذا في حين أنّه يتجاهل بشكل متعمّد الرسالة التي يبعثها تعيينها للمجتمع الدّولي.
أضف إلى ذلك، لقد قدّم نتنياهو مشروع قرار للبرلمان الإسرائيلي (الكنيست) للسماح له بتعيين ما يزيد عن 18 وزيرا ً (وهو الحدّ المسموح به قانونا ً) وذلك لخلق المزيد من المناصب الوزاريّة لإشباع نهم العديد من أعضاء حزب الليكود المتعطشين للسلطة على حساب عشرات ملايين الدولارات التي يتكبدها دافعو الضرائب.
ويبدو أنّ نفاق نتنياهو لا حدود له، فهو يحاول الآن إغواء إسحق هرتسوغ، زعيم المعسكر الصهيوني المعارض، للإنضمام للحكومة فقط لإضفاء وجه معتدل لأكثر حكومة يمينيّة تطرّفا ً في تاريخ إسرائيل. وبالرّغم من أنّ السياسة والسياسات مرتبطة بالطموحات الشخصيّة لأؤلئك الذين في السلطة أو من يطمحون لها، قد يثبت هرتسوغ بأنه الزعيم الذي يضع مصالح الأمّة في المقام الأول. قد يلتزم بدوره وبمنصبه ويرفض الإنضمام لحكومة توفّر لنتنياهو الغطاء السياسي الذي يحتاجه ويكون بذلك شريكا ً في دمار عمليّة السّلام.
لم يسبق لإسرائيل في تاريخها أن كانت أكثر حاجة لقيادة قويّة، متبصّرة وشجاعة من اليوم. وما انتهت إسرائيل إليه اليوم هو، على أية حال، حكومة لا تقدّم سوى مزيدا ً من انعدام الأمن، وعدم اليقين، واحتمالات أكبر للصراعات العنيفة ومستقبلاً قاتماً.
شيء ٌ من العزاء هو أنّ لدى هذه الحكومة الجديدة أغلبيّة ضئيلة جدّا ً في الكنيست، البرلمان الإسرائيلي، وليس من المرجّح أن تقضي دورتها الكاملة، وهي أربعة أعوام.
وخوفا ً من خسارة بعض الدّعم الشعبي، أيّ حزب سياسي يأمل في الحصول على أغلبيّة نسبيّة من الأصوات ينأى بنفسه عن جعل السلام مع الفلسطينيين محورا ً لبرنامجه السياسي والتزامه بالتوصّل لاتفاقيّة سلام.
يجب على الشعب الإسرائيلي، على أية حال، مواجهة حقيقة الإحتلال وتداعياته المدمّرة. ينبغي ألاّ يعتقد أيّ إسرائيلي عاقل بأن الوقت يعمل لصالح إسرائيل. ويجب أن يكون لأيّ قائد يتم انتخابه حديثا ً رؤية واضحة حول الوضع الذي ستكون فيه إسرائيل بعد (10) أو (15) عاما ً من الآن. وعلى هذا الأساس فقط يضع إستراتيجيّة تحقّق تلك الرؤية.
هناك بالتأكيد قضايا وتطوّرات خارج سيطرة أيّ زعيم إسرائيلي. وبصرف النّظر عما إذا كان الفلسطينيّون راغبين أو قادرين على لقاء إسرائيل في منتصف الطريق، أو حتّى إذا ما زالوا يسعون وراء تدمير إسرائيل، فلدى إسرائيل وحدها فقط القدرة على تقرير مصيرها بنفسها. أجل، لدى إسرائيل القوّة العسكريّة والقدرات والإمكانيّات اللوجستيّة والفنيّة وكذلك الموارد الماليّة لاتخاذ خطوات أحاديّة الجانب، إذا لزم الأمر، بالإنسحاب بشكل ٍ منهجيّ من الأراضي الفلسطينيّة. ولن يكون هناك أي زعيم فلسطيني يعترض على أيّ انسحاب جزئي من الأراضي الفلسطينيّة أو يرفض التعاون مع إسرائيل في جميع القضايا الأمنيّة. وحتّى تحت الظروف الحاليّة الصعبة، هناك تعاون أمني كامل ما بين إسرائيل والسلطة الفلسطينيّة. وهذا المستوى من التعاون من شأنه فقط أن يتعزّز إذا تمّ إخلاء المزيد من الأراضي وتعليق النشاط الإستيطاني أثناء فترة سير المفاوضات.
وبالنّظر لتركيبة الحكومة الحاليّة، على الشعب الإسرائيلي أن يصحو ويدرك كم هي فاسدة حكومة نتنياهو وكيف يقوم نتنياهو وعصابته بتقويض وجود إسرائيل بالتشبّث بمعتقد فكري، عقائدي، ديني أنّه باستطاعتهم الحصول على كلّ الأرض.
لقد حان الوقت منذ فترة ٍ طويلة لنهوض قيادة جديدة تسعى للسّلام بقوّة ونشاط وتناضل من أجل العدالة الإجتماعيّة والمساواة، وترقى إلى الوعد الكامن وراء خلق إسرائيل وهو: دولة يهوديّة فخورة وعادلة وتقدّمية تعيش بسلام ٍ مع نفسها ومع جيرانها.