الإندماج هو السرّ المفتوح لنزع التطرّف
من أكثر التطورات المزعجة الناتجة عن تصعيد التطرّف العنيف في الشرق الأوسط هو ارتفاع عدد المسلمين القادمين من الغرب الذين ينضمّون لصفوف مجموعات ٍ جهاديّة، وفي مقدمتها تنظيم “داعش”. وتعمل الحكومات الغربيّة جاهدة ً لمعرفة الأسباب التي تدفع شباب مسلمين على ترك حياتهم المحميّة والمؤمّنة – فالكثيرون منهم مثقفون ولهم وظيفة – لينضمّوا لمنظمات متطرّفة تعرض عليهم هدفا ً خادعا ً وهميّا ً واحتمال الموت قتلا ً.
ويبدو أنّ العامل الحاسم الذي يقف وراء هذه الظاهرة هو غياب إندماج الشباب المسلم – أكان عن طريق الإختيار أو التصميم- داخل التيّار الرئيسي لبلدانهم الغربيّة. ولهذا السبب يجب أن يكون الإندماج المحرّك الذي يدفع نزع التطرّف، ويتطلّب ذلك أيضا ً ضرورة القيام بمجموعة واسعة من التدابير والإجراءات الإجتماعيّة والإقتصاديّة والدينيّة والسياسيّة لتخفيف نقاط الضعف في هذه المجالات التي يختبرها الشباب المسلم.
إنّ صعود التطرّف العنيف ما زال في مراحله المبكّرة. وإذا أراد الغرب صدّ تدفّق تيّار المتطوّعين لهذه الجماعات العديمة الرّحمة، ينبغي على الدّول الغربيّة القيام بمجهودات منسّقة ومتّفق عليها فيما بينها للتواصل مع جالياتها الإسلاميّة وفهم مشاعرها الدقيقة، وبالأخصّ العائلات التي ينحدر منها هؤلاء المتطوّعين.
وبخلاف الإستيعاب الذي يُفقد الفرد هويته عن طريق “امتصاصه” في الثقافة والحضارة السائدة في البلد المعني، يتضمّن الإندماج اعتراف واحترام متبادلين تجاه الطرف الآخر، أي توافق وانسجام يشمل الخلافات بدلا ً من إنكارها أو تجاهلها.
ويعرّف لويس ممفورد الإندماج بأفضل صورة عندما قال “بأن الإندماج يتقدّم عن طريق التصعيد المتعمّد لكلّ وظيفة عضويّة، وتحرير النبضات من الظروف التي أعاقتها بشكل غير عقلاني، ونماذج من النشاط أغنى وأكثر تعقيدا ً، وتسامي جماليّ من الإنجازات المتوقّعة، وتطويل ثابت للمستقبل وإيمان في وجهات النظر الكونيّة”.
من الضروري فهم البعد السيكولوجي للتطرّف العنيف، حيث أنّه لا يوجد سبب جذري مفرد أو طريق تؤدي إلى تكييف عقلي وعاطفي يحوّل الشباب المسلم من كونهم أفراد سلميين عاديين إلى متطرفين بشكل ٍ عنيف. والتهديد الصادر اليوم من تنظيم “داعش” والقاعدة وغيرها من المجموعات الإسلاميّة مدفوع بإيحاء من التعاليم الدينيّة المشوّهة تحت ستار الدّفاع عن الإسلام السنّي الصفائيّ الذي يستهدف في النهايّة إصابة الشباب المسلم المعرّض للإصابة والذي يوفّر الدّين له مهربا ً وشعورا ً بالإنتماء.
يشنّ المتطرّفون العنيفون حربا ً على المفاهيم والتعاليم الثقافيّة والدينيّة الغربيّة ويودّون رؤية أعمالهم منصهرة ً داخل هوية مجتمعهم الإسلامي بحيث يصبح بالإمكان الإعتراف بهم كممثلين عن المجتمع الأكبر، وبالأخصّ من قبل وسائل الإعلام.
يشعر العديد من الشباب والشابات – الذين يعيشون في بلدان غربيّة – بمزيد ٍ من التهميش من النواحي الإقتصاديّة والإجتماعيّة والسياسيّة وهم عرضة بشكل ٍ خاصّ للمخاطر حيث أنهم غالبا ً ما يكونون في مراحل انتقاليّة في حياتهم، أكانوا مهاجرين، أم طلبة في البحث عن أصدقاء، أم باحثون عن وظيفة وغير ذلك. هم بشكل ٍ عام بحاجة إلى مخرج للتنفيس عن إحباطهم، ويصبحون تبعا ً لذلك فريسة سهلة للمتطرفين الذين يبحثون عن “مجنّدين” جدد في الجوامع وفي الإنترنت “أون لاين”.
وعلى أية حال، هناك قاسم مشترك وراء معظم الأسباب التي تقود الشباب المسلم للتطرّف، وهو عدم اندماجهم في بيئتهم الإجتماعيّة الجديدة ، وذلك للأسباب التالية:
- اللآمبالاة أو عدم الإهتمام في الإندماج حيث أنّ العديد من هؤلاء الشباب المسلمين يعيشون في فقاعة يشعرون فيها بالإرتياح والأمن ولا يجدون تشجيعا ً للخروج إلى ما بعد الدائرة الفوريّة لأقرانهم وعائلاتهم. وتتفاقم الصورة أكثر من ذلك في الحالات التي يتغلغل التطرّف فيها بعمق في عائلة معيّنة، أو عندما يكون لهؤلاء بعض الإستياء من البيئة الإجتماعيّة – السياسيّة التي يعيشون فيها.
- عدم قيام الحكومات بجهد مقصود وهادف لدمج الشباب المسلم داخل المجتمع العام، وهو وضع يتفاقم أكثر بفعل الأحكام المسبقة الراسخة في معظم المجتمعات الأوروبيّة الغربيّة مثل بريطانيا وفرنسا. فالمواطنون من أصول ٍ أجنبيّة في هذه البلدان غالبا ً ما يكونوا معرّفين ويبقون “كأجانب”، هذا بصرف النظر عن المدّة التي عاشوها في البلدان التي احتضنتهم، حتّى ولو كانوا مواطني الجيل الثاني أو الثالث.
- الإنتشار المتنامي للخوف من الإسلام بين الأوروبيين الناتج عن ارتفاع أعداد المتطرفين العنيفين من جميع الأطياف والأصباغ وسفك الدّماء الذي يبدو لا نهاية له ما بين المجتمعات والطوائف الإسلاميّة ومن هم ضدّ الغربيين، الأمر الذي نتج عنه رفض، بوعي أو بدون وعي، لأيّ شيء له علاقة بالمسلمين بشكل ٍ عامّ.
- شعور عميق ومتنامي بالإغتراب، وهذا نقيض الإحتواء، الأمر الذي يقود الشباب المسلم بشكل ٍ خاصّ لإيجاد طرق للمقاومة والتحدّي بدلا ً من البحث عن فرص ٍ جديدة للإندماج ويصبحوا مواطنين موالين للبلدان التي يعيشون فيها.
والجدير بالإهتمام هو أنّ عدد الشباب المسلمين الأمريكيين المنضمين للمجموعات المتطرفة الإرهابيّة يبقى بالتناسب أقلّ بكثير من عدد المسلمين البريطانيين والفرنسيين الذين انضموا لتنظيم “داعش”. ومن الممكن تعليل ذلك لكون الولايات المتحدة بشكل أساسي بلد هجرة، ووجود جذور أجنبيّة هي جزء من الثقافة والحضارة الأمريكيّة. ولذا فإن دمج الأجانب في التيّار الإجتماعي الرئيسي لبلد ٍ ما يُترك، مع بعض الشواذ، للفرد نفسه ويتقيّد بشكل ٍ عام فقط بمؤهلات الشخص وطموحاته.
ويسعى مسلمو أوروبا الغربيين بشكل ٍ خاصّ للإحتفاظ بهويتهم، وبإمكانهم فعل ذلك بالإندماج حيث أنّ هويتهم كمسلمين لن تضيع، هذا خلافا ً لمفهوم الإستيعاب. وإذا قُدّر للدول الأوروبيّة الغربيّة تبنّي فكرة ممفورد بخصوص الإندماج، على هذه الدول وضع استراتيجيّة شاملة قد تمنع الشباب المسلم المحروم من إغوائه للإنضمام لصفوف المتطرفين العنيفين. وقبل أن تضع هذه الدول مثل هذه الإستراتيجيّة، عليها تجنّب التعميم (مثلا ً القول بأن الإسلام عنيف بفطرته)، وأن تفهم سبب انضمام الشباب المسلم والمهتدين للإسلام لهذه المجموعات المتطرّفة العنيفة وسبب ارتداد الكثيرين منهم. حينها فقط ينبغي على الحكومات اتخاذ خطوات معيّنة لضمان أنّ هؤلاء الذين انضموا وارتدوا بعد ذلك هم الآن “خالين” من التطرّف وأصبحوا مواطنين صالحين بإمكانهم ثني آخرين من اتباع طريقهم.
ليس هناك حلول سريعة لهذا التطور المنذر بالخطر، وليس هناك أي مجال لقوانين صارمة وإكراه تستطيع أن توقف تيّار المتطوعين من مسلمي أوروبا الغربيّة من الإنضمام لصفوف المتطرفين العنيفين عدا الإحتواء.
ولمواجهة التطرّف العنيف بنجاح، على دول أوروبا الغربيّة بالتعاون مع القادة والزّعماء والمربين المسلمين في مجتمعاتهم المعنيّة بفحص واستكشاف من يحتضن الأفكار المتطرّفة وذلك عن طريق الدراسات الميدانيّة وزيادة الوعي وتحليل الأسباب الجذريّة الحقيقيّة في المجتمعات والجاليات الإسلاميّة المختلفة، الأمر الذي ما زال مفقودا ً حتى الآن، ماضيا ً وحاضرا ً.
سيمكّنهم هذا النهج من تقديم حجج مضادة ذات مصداقيّة مع حوارات صريحة وشفافة ومفتوحة قد تغيّر الديناميّات الإجتماعيّة – الإقتصاديّة والسياسيّة لخلق جوّ جديد قد يمكّن من وضع الشباب المسلم في ضوء إيجابي. وللوصول لهذا الغرض، على الحكومات الأوروبيّة الغربيّة القيام بما يلي:
- تبنّي رواية شعبيّة جديدة باستخدام طريقة استراتيجيّة للتواصل تستفيد من كلّ وسائل الإعلام التي من الممكن تصوّرها لمواجهة المتطرفين بالحقائق ومعالجة فهم الدّول الغربيّة المهاجم، لا بل المعادي للمسلمين والذي يقود الشباب المسلم للبحث عن العدالة من خلال العنف.
- وضع وتطوير برامج خدمة اجتماعيّة لتقديم الشباب المسلم للمجتمع الأوسع الذي ينتمي إليه أقرانهم الغربيّون والشّروع في عمليّة إندماج ينمّون فيها اهتمامات شخصيّة لملء الفراغ الإجتماعي والإقتصادي والسياسي الذي يشعرون به.
- دعوة شخصيّات محترمة وموثوق بها من العالم الإسلامي للتشكيك ودحض رسائل ودعوات المتطرفين – مثلا ً أنّه لا توجد طريق للمجد في الموت وأنّ الإنضمام لمثل هذه الجماعات العنيفة يقوّي فقط الحلقة المفرغة من موت ودمار وأنّه لا يوجد شهادة بالتضحية بأنفسهم التي لا معنى لها.
- تشجيع الشباب المسلم للإنضمام للنشاطات الرياضيّة وتوفير الفرص لهم لإظهار مواهبهم وقدراتهم على التفوّق، وفي نفس الوقت دعم أولئك الذين يسعون لتكوين هويتهم الإجتماعيّة والإعتراف بهم.
- منع السّجون من أن تصبح حاضنات لإرهابيين جدد عن طريق إعادة تأهيل السجناء من خلال برامج مجتمعيّة والتعليم ودورات التحسين المهني وتحديد المسؤوليّات ضمن إطار السجون. والجدير بالذكر أنّ (80 %) من السجناء الذين اجتازوا مثل هذه البرامج الصارمة في المملكة العربية السعوديّة وفي مصر واليمن انتهى بهم المطاف في إعادة تأهيلهم تماما ً وأصبحوا نماذج يُحتذى بها للسجناء الآخرين.
- دعم رغبة الشباب المسلم للمشاركة في مجموعات حوار سياسي محلّية، والإشتراك في عمليّة صنع القرار من القاعدة إلى القمّة والمساهمة في أية تغييرات إيجابيّة للدّفع بمصالح مجتمعاتهم إلى الأمام وتقوية تقديرهم وثقتهم بأنفسهم.
- وضع برامج تبادل دوليّة تعرض للشباب المسلم ما يحدث في مجتمعات أخرى وفي مجالات التقدّم الإجتماعي والإقتصادي والإبتكارات والأفكار الجديدة التي من الممكن تبنيها لمصلحة عائلاتهم ومجتمعاتهم.
وأخيرا ً، تتطلّب جميع هذه البرامج التزاما ً لتمويل طويل الأمد. لا تستطيع أية دولة متضررة بشكل ٍ مباشر أو غير مباشر بالتطرّف العنيف أن تتكلّم فقط لفترة طويلة وتموّل لفترة قصيرة. على هذه الدّول توفير الموارد الماليّة والبشريّة لمواجهة هذا التحدّي الغير مسبوق مهما كانت كلفته والوقت الذي يتطلّبه.
وبالنّظر إلى أنّ الإضطرابات العنيفة والثورات التي تجتاح الشرق الأوسط – وبالأخصّ الصراع السنّي – الشيعي والحروب الأهليّة في سوريا واليمن وليبيا – من غير المحتمل أن تهدأ في وقت ٍ قريب، سينضمّ عدد متزايد من الشباب المسلم لصفوف المتطرفين مشكّلين بذلك تهديدا ً للأمن القومي للدول الغربيّة أكبر من أيّ وقت ٍ مضى.
ولهذا السبب علينا أن نميّز بين ما هو ممكن تحقيقه وما هو مستحيل، وما قد يصبح أكثر احتمالا ً لو تغيّرت الظروف.
ولذا على الحكومات الغربيّة أن تضع استراتيجيّة طويلة الأمد لنزع التطرّف لصدّ تدفق المتطوّعين المسلمين بهدف التقليص بشكل ٍ جوهريّ من التهديد الذي يشكّلونه عند عودتهم لبلدانهم. ليس هناك طريق مختصرة ولا وسائل أخرى يتمّ من خلالها نزع تطرّف الشباب المسلم عدا اتخاذ الإجراءات والتدابير المذكورة آنفا ً وطرق مفصّلة حسب مجتمعات معيّنة.
الفشل لن يكون خيارا ً، فالعواقب ستكون رهيبة بشكل غير اعتيادي. وحالة من الإنذار الدائم وحالات الطوارىء والإرهاب ستصبح طريقا ً للحياة وتطارد الديمقراطيّات الغربيّة وتزعزع بعنف إستقرار الشرق الأوسط على مدى العقود القادمة.