هل لا تزال أمريكا منارة للشعوب الأخرى؟
نحن لسنا بحاجة للرئيس ترامب ليقول لنا أنه يستطيع أن يجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى. أمريكا عظيمة بالفعل. والمشكلة هي أننا نبدد عظمتنا من خلال اتباع سياسات أجنبية ومحلية تضعف سلطتنا الأخلاقية وتضعف القيم التي جعلت أمريكا عظيمة في المقام الأول. علينا أن نغير مسارنا، ولكننا نحتاج إلى قادة يتمتعون برؤية وشجاعة وتصميم، وهي صفات نفتقر لها الآن بشدّة. فأفضل الأمريكيين وألمعهم براعة ً الذين بإمكانهم في الواقع رسم مسار جديد أصيبوا بخيبة أمل بالسياسات، ممّا يجعل من إمكانيّة التجديد أمرا ً صعباً على نحو متزايد. لقد حان الوقت لكل الأمريكيين الوطنيين أن يرفعوا أصواتهم ويذكّروا بعضهم بعضاً بما يجعل أمريكا أمّة عظيمة وما هي القيم التي تمثّلها وتناضل من أجلها.
الدستور الأمريكي هو العمود الفقري وراء عظمة أمريكا، وديباجة الدستور تقول كل شيء. إنها تعلن أنّنا: “نحن شعب الولايات المتحدة، من أجل تشكيل اتحاد أكثر كمالا، وإقامة العدل، وضمان الهدوء المحلي، وتوفير للدفاع المشترك، وتعزيز الرفاه العام، وتأمين نعمة الحرية لأنفسنا وللأجيال القادمة … “
فبالنسبة لي، بصفتي مهاجراً إلى هذا البلد، أمريكا بيتي العزيز وستبقى دائما ً كذلك. ففي بغداد، حيث ولدت، كان جيراني العرب يدعونني “اليهودي القذر”. وعندما هاجرت عائلتي إلى إسرائيل، تحسنت حالتي إلى حد ما – لقد أصبحت “يهوديا أسود” أعاني من التمييز بسبب تراثي السفاردي. وفي بريطانيا حيث كنت أتعلّم، كنت دائما أُعامل كأجنبي. ولكن في الولايات المتحدة، لم يكن أحد يهتمّ لا بديني ولا عرقي ولا بطائفتي. لقد قُبلت كما أنا، بمعتقداتي وما أمثّله.
هذه هي أمريكا التي أعرفها – “أرض الأحرار” – لأنه بالنسبة لي القيم التي نص عليها دستورنا هي ما يجعل أمريكا عظيمة. يجب علينا حماية هذه القيم بلا هوادة لجعل أمريكا أكبر، ولكن يجب علينا أولا أن ندرك ما حدث من خطأ. فيما يلي أعرض عشر قضايا حاسمة تواجه أمريكا في الوقت الحاضر؛ ولا واحدة منها يُعتبر التغلّب عليها صعب جدا إذا كان عندنا فقط الإرادة لذلك.
كانت الأحداث في شارلوتسفيل مظهرا مقلقا للغاية من التعصب والكراهية التي أصبحت أكثر وضوحا مع انتخاب الرئيس ترامب. فبالنسبة لرئيس يضع تكافؤاً أخلاقيّا ً بين المتفوقين البيض والنازيين والمعادين للسامية من ناحية والمواطنين العاديين الملتزمين بالقانون من الناحية الأخرى هو أمر ٌ يفوق الإحتقار. لا، ليس هناك أشخاص طيبون بين العنصريين الذين يسيئون استخدام حقهم في حرية التعبير لخداع الآخرين وتهديدهم فقط بسبب أصلهم أو طائفتهم أو معتقداتهم أو لونهم.
أمريكا هي “أرض الأحرار”. ولكي نحافظ على ذلك يجب علينا ألا نتسامح مع أولئك الذين يريدون تطهير أمريكا من الذي جعل أمريكا بلدا ً عظيماً، ألا وهو تجمع الناس من جميع أنحاء العالم مع ثرواتهم الثقافية المتنوعة وإبداعاتهم. لقد تمّ احتضانهم بأذرع مفتوحة. هذه هي أميركا التي أعرفها، أرض الحالمين الذين غالبا ً ما تتحقق أحلامهم. ويجب ألا نسمح لأحد بأن ينتزع ذلك منا.
وعد الرؤساء الأمريكيون المتعاقبون، ولا سيما خلال حملاتهم السياسية، بمكافحة الفقر، ولكنهم فشلوا جميعا. إن الفجوة بين الأغنياء والفقراء أكبر اليوم مما كانت عليه في أي وقت مضى. بلغ عدد الأطفال في عام 2015 الذين يعيشون في الفقر 14.500.000 طفل. ويعاني الملايين من سوء التغذية والأداء الضعيف في المدارس ويتعرضون للمخدرات والجرائم العنيفة، ويكبرون حانقين ومشوشين وضائعين.
فبدلا من أن يصبحوا أفرادا مهنيين بنائين يساهمون في مجتمعهم وفي الدولة، يصبحون قانطين وعاطلين عن العمل ومعوزين، أي عبء وليس مصدر قوّة أو ثروة للمجتمع. لا، هذا ليس الحلم الأمريكي. علينا أن نلتزم بوضع حدّ للفقر لأننا نستطيع ذلك ولدينا الموارد اللازمة للقيام بذلك. لا ينبغي لأحد أن يشك في العزم الأمريكي – لقد صمدنا أمام اختبار الزمن، وسنواصل القيام بذلك.
آلاف المدن الصغيرة والقرى البعيدة عن المراكز الحضرية تتفكك. الإدارات المتعاقبة تحدثت حتّى الغثيان عن التجديد، ولكن التجديد لم يأت أبدا. المنازل متهالكة ومزدحمة. والشباب والكبار يهيمون على وجوههم في الشوارع بلا هدف. كبار السنّ يستسلمون لحياة لا معنى له، ويقضون الوقت كما يمر الوقت ببطء وقسوة عليهم. الشباب يائسون حيث أنهم يعيشون حياة اليأس والعزلة. فلماذا لا تستطيع أغنى دولة على الأرض أن توفر التمويل اللازم لاستعادة هذه الأماكن المتفككة ؟
لماذا لا يُسمح للمجتمعات المحلية بأن تختار مشاريعها الخاصة بالتنمية المستدامة التي يمكنها تنفيذها بالخبرات الخارجية والمساعدة الحكومية ؟ إن إشراك السكان المحليين يوفر لهم فرص عمل ويسمح لهم بتطوير مصالحهم في مجتمعهم ويشعرهم بالقدرة والتمكين كبشر يستطيع أن يحدث فرقا ً. فهذه مهمة يجب ألا نتخلى عنها أبدا أو نتجاهلها.
لقد تم تحطيم نظام الرعاية الصحية في أمريكا لأن السياسيين الغير مرتبطين به لم يفهموا أبدا أن الرعاية الصحية هي حق من حقوق الإنسان. لكل أميركي – كما صرّح ببلاغة برني ساندرز المنافس الرئاسي السابق – الحق الأصيل في الحصول على الرعاية الطبية التي يحتاجها، والحكومة ملزمة بتقديمها. وسواء تم ذلك من خلال الحكومة الفدرالية أو الولاية، لا ينبغي أن يموت أي شخص أمريكي بسبب عدم إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية، أو أن يعلن إفلاسه نتيجة للتكاليف الطبية العالية، أو أن يعاني من مرض قابل للعلاج.
ليس لدى الملايين من الأميركيين تأمين صحي لأنهم لا يستطيعون تحمله. نحن نبدد، وما زلنا، مئات المليارات على المغامرات الأجنبية، وأكثر من ذلك بكثير نهدره على البيروقراطية المتضخمة والمصلحة الذاتية للمسؤولين الذين يكافحون من أجل مشاريعهم الخاصة.هناك العديد، أمثال ساندرز وزمرته، الذين يتطلعون لضمان أن تكون أمريكا أكثر سلامة ً وأمنا ً لأن هذه هي- ويجب أن تكون – الطريقة الأمريكية.
لقد أصبحنا معتادين على الشلل التشريعي كما لو كان طبيعيا. ويبدو أن القادة الديمقراطيين والجمهوريين ينظرون إلى بعضهم البعض على أنهم منافسون ملتزمون بشكل فردي بالمصلحة المفترضة لأحزابهم. ولا بد من تذكيرهم بأنهم يمثلون جميع الناس، ويتعين عليهم التعاون والإتفاق على أي تشريع يخدم الجمهور الأمريكي. وتدلّ سنوات من الجمود في الكونغرس فقط إلى عدم كفاءة الكثير من أعضاء الكونغرس الذين تجعلهم عقيدتهم الأيديولوجية العمياء غافلين عما هو جيد لأمريكا.
ينتج التعاون بين الأحزاب تشريعات أفضل ومتوافقة تعود بالفائدة على جميع الأميركيين. كيف يمكننا غير ذلك تشكيل “اتحاد أكثر كمالا” عندما يسود “نهج المجموع الصفر” السياسة والإنقسام؟ تعتمد عظمة أمريكا المستمرة على القادة الذين يضعون مصالح الأمة وليس مصالحهم الشخصية أو الحزبية أولا – القادة الذين يناسبون ما تدافع عنه أمريكا في الداخل والخارج ويؤدون مسؤوليتهم بإيمان وقناعة ويتطلّعون إلى الإلتزام الذي انتخبوا لأجله.
مجرد التفكير بأن أمريكا هي الرائدة في العالم في “التسجين” مع أكثر من 2.200.000 حاليا في السجن (وهذا يمثل زيادة بنسبة قدرها 500 في المئة على مدى السنوات ال 40 الماضية) هو ببساطة أمر ٌ لا يمكن يفهمه وغير مقبول. ولا ترتبط الزيادة الكبيرة في عدد السجناء بزيادات مماثلة في الجريمة، ولكنها ترتبط في الغالب بالتغييرات في قوانين إصدار الأحكام التي تقضي بالسجن الإلزامي حتى بالنسبة للجرائم البسيطة. ونتيجة لذلك، تزدحم السجون وتصبح حاضنات للتطرف والجريمة.
لم يرتكب ما يقرب من نصف السجناء جرائم عنيفة. والجدير بالذكر هو ان اكثر من 470 الف شخص فى السجون بسبب حيازتهم أوتعاطيهم مخدرات و 12 فى المائة لارتكابهم أعمال مخلّة بالنظام العامّ. وتنفق المليارات على الحفاظ على نظام السجون هذا في حين يمكن إطلاق سراح ما يقرب من نصف السجناء. ويجب علينا أن نستثمر الكثير من الأموال التي تمّ توفيرها في برامج إعادة التأهيل وفي الوقت نفسه نوفر لهؤلاء السجناء الفرصة لاكتساب مهنة جديدة والإنضمام إلى قوة العمل وأن يصبحوا مصدر ثروة وقوة لمجتمعاتهم.
ليس من الظواهر الجديدة أن تلام وسائط الإعلام باستمرار وبشكل ثابت على نشر “أخبار مزورة” كما يفعل في معظم الأحيان العديد من المسؤولين، بمن فيهم الرئيس، لكي يقوموا بتغطية أوجه فشلهم أو قصورهم.غير أنّ استخدام الإعلام ككبش فداء لا يقوض فقط حرية الصحافة بل يعرّض الصحفيين والمراسلين إلى الهجمات العنيفة من قبل أولئك الذين يتبعون قادتهم بشكل ٍ أعمى. صحيح أن الثورة في وسائل الإعلام الاجتماعية جعلت نقل الأخبار المزيفة والمتعمدة أسهل وأكثر انتشارا. ومع ذلك، فإن هذا لا يدلّ على أن جميع وسائل الإعلام تشارك في نشر الأخبار المزيفة.
هناك عشرات من وسائل الإعلام المسؤولة ذات المصداقية والموجهة لخدمة المجتمع والصالح العامّ والتي تنشر الحقيقة كما هي “غير مفلترة” بغض النظر عن النتيجة التي سيؤدى إليها البلاغ . هذا هو قلب “التعديل الأول”. ولا يجوز أو ينبغي لأحد، بما في ذلك صاحب أعلى منصب، السماح بانتهاك هذا الحق المقدس دون عقاب. إن تدقيق وسائل الإعلام في عمل المسؤولين الحكوميين أمر أساسي لقيام ديمقراطية فعالة، ويجب على الولايات المتحدة أن تحمي وتحترم هذا “الفرع الرابع من الحكومة” لأداء واجبها من أجل جميع الأمريكيين.
التغير المناخي ليس خيال أو وهم، إنه يحدث أمام أعيننا، وقد قيل الكثير عن الأدلة العلمية التي لا جدال فيها التي تدعمه. ولكن بالنسبة لي، وبالنظر إلى أن الولايات المتحدة هي ثاني أكبر ملوث بعد الصين في العالم، يجب أن تأخذ زمام المبادرة وتتحمل مسؤولية العمل جنبا إلى جنب مع بقية المجتمع الدولي لمكافحة تغير المناخ.
شاهد فقط ما حدث خلال الأسبوع الماضي وحده: ثلاثة أعاصير رهيبة، زلزال قوي، حرائق وفيضانات واسعة النطاق تحدث في وقت واحد وتسبّب أضرارا ً على نطاق لم يسبق له مثيل. إن تسييس تغير المناخ على حساب جيل المستقبل ورفاهيته يعتبر جريمة، جريمة ضد الإنسانية. والإنسحاب من اتفاقية باريس بشأن تغير المناخ هو قرار متهور وضيق الأفق وشرير. وحتى لو كان هناك شك، يجب أن تكون أمريكا في طليعة التصدي لواقع الإحتباس الحراري العالمي مع تداعياته المشؤومة على الأجيال القادمة.
ولا يزال علينا أن نتعلم درسا من حرب فيتنام، ويبدو كما لو أن شن “حروب الإختيار” قد أصبح الطريقة الأمريكية. لقد غزونا العراق بذرائع كاذبة. لم يكن هناك برنامج نووي أو أي منشآت نووية في العراق. لقد أطحنا بحكومة صدام حسين وفكّكنا الجيش والأمن الداخلي والبيروقراطية وزرعنا بذور الحرب الأهلية بين السنة والشيعة التي ما زالت مستعرّة حتى بعد 14 عاما، الأمر الذي أدى إلى بزوغ “داعش” وزعزعة إستقرار المنطقة بأسرها.
تم إنفاق ما يقرب من تريليوني دولار والتضحية بحياة 4500 جندي أمريكي لهدف وهمي بعيد المنال مع مئات الآلاف من العراقيين. تم التخلي عن سوريا لنزوات إيران وروسيا الإجراميّة في حين شهد العالم ذبح عدد لا يحصى من المدنيين الأبرياء برباطة جأش. ولا تزال أطول حرب في أفغانستان مستمرة بلا هوادة، ولا نهاية في الأفق. لقد أطحنا بحكومة القذافي في ليبيا وأجبروا الرئيس المصري مبارك على الخروج من السلطة بمفهوم سخيف، ألا وهو إدخال الديمقراطية، متجاهلين طبيعة مجتمعاتهم وثقافاتهم وتوجهاتهم السياسية. لا يمكن لأمريكا أن تقود عندما تترك الفوضى وعدم الإستقرار في أعقابها.
وسياستنا الخارجية، التي يفترض أنها تسترشد بقيمنا ومصالحنا الوطنية، يبدو أنها غير متسقة وغالبا ما تأتي بنتائج عكسية. وفي حين نبذل جهودا جبارة لتصدير نظامنا السياسي الديمقراطي كما لو كان علاجا شافيا لجميع الأمراض السياسية في جميع أنحاء العالم، فإننا نساند طغاة، رؤساء دول قساة القلوب ووحشيين يحكمون شعوبهم بقبضة حديدية، ونتحالف مع أنظمة فاسدة باسم “المصلحة الوطنية”.
ويبدو أن الدبلوماسية والحس السليم يفسحان المجال للخطابات العسكرية الطنّانة، مما يترك أصدقاءنا وأعدائنا متحيّرين. ماذا حدث لقيادة أمريكا التي يحتاجها الكثير من العالم ؟ لا يمكننا ببساطة التخلي عن هذا الدور؛ لا يمكننا أن نتخلى عن مسؤوليتنا الأخلاقية، ويجب ألا نخضع رؤوسنا أبدا لأي شخص بمن فيهم الرئيس. لقد نحتت أمريكا دورا خاصا في العالم، ويجب عليها الآن أن ترقى إليه، لأنه لا توجد قوة أخرى يمكن أن تحل محل أمريكا.
إن الخطر الأكبر الذي تواجهه أمريكا اليوم هو ليس تعرضها لهجوم من كوريا الشمالية أو أي عدو آخر يرغب الشرّ لأمريكا. الخطر هو من الداخل: الجمهوريون مقابل الديمقراطيين، الأغنياء مقابل الفقراء، والمتعصبون مقابل المواطنين الملتزمين بالقانون، والتمييز المتفشي، والإنتهاكات الشائعة لحقوق الإنسان (وخاصة ضد الأقليات)، واتساع هوة عدم المساواة الإجتماعية، وفشل قادتنا في القيام بواجباتهم لأنهم أصبحوا على نحو متزايد منشغلين بمصالحهم الذاتية وغير مبالين بمستقبل أمريكا.
إن الإنجازات السياسية والإقتصادية والثقافية والعسكرية والتكنولوجية لأمريكا بقيت بدون منازع لا مثيل لها. وعلينا الآن أن نعيد البناء على هذه القوة ونكافح من أجل روح أمريكا. هذا هو ما يريده الشعب الأمريكي وما يتوقعه العالم منا.