يجب على نتنياهو التخلي عن الإيديولوجية العمياء ومواجهة الواقع
لا يزال نتنياهو بعيد المنال بشأن نهاية اللعبة في غزة، لكن الوقت يقترب منه ويحاصره. لديه التزام مقدس بإخبار مواطنيه بما سيكون عليه مصير غزة بمجرد انتهاء الحرب وما هي خططه لحل الصراع الإسرائيلي -الفلسطيني
لقد أدى هجوم حماس في أكتوبر 2023 والانتقام الإسرائيلي الهائل إلى تمزيق كل سيناريو كتبه رئيس الوزراء نتنياهو وأتباعه في مسرحيتهم الخيالية التي تصور الفلسطينيين كعدو لا يمكن إصلاحه، مستشهدين بهجوم حماس كدليل لدعم ادعائهم المثير للجدل. ومن هذا، استنتجوا أنه لن يُسمح لحماس بإعادة تشكيل نفسها في غزة، وهو أمر مبرر بالنظر إلى التهديد الوجودي العنيد الذي تشكله حماس لإسرائيل، لكنهم بعد ذلك يتمسكون بنصوصهم القديمة ويصرون على أنه لا ينبغي لأي سلطة فلسطينية من أي نوع أو توجّه أن يكون لها رأي في الحكم المستقبلي لغزة. ولكن في حين يستبعد نتنياهو حتى احتمالات قيام سلطة فلسطينية معتدلة جديدة تحكم غزة، فإنه لا يقول من ينبغي أن يحكم غزة أو ما هو الحل النهائي الذي يمكن أن يخفف من حدة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بدلاً من تكثيفه.
وهنا تصطدم الإيديولوجية العمياء والمعتقدات المشكوك فيها بشكل مباشر مع العقل والواقع. ويبدو أن نتنياهو، الذي شكل حكومة مسيانية ويشارك شركائه المتطرفين في الرغبة الشديدة في امتلاك الأرض بأكملها من البحر الأبيض المتوسط إلى نهر الأردن، قد فقد ليس طريقه فحسب، بل وفقد روحه أيضاً. فقد وضع مصالحه ومنافعه السياسية قبل بقاء بلاده في المستقبل. وعلى هذا، وبصرف النظر عن مدى خطورة فرض إسرائيل الحكم العسكري غير المحدود في غزة بعد الحرب، كما يطالب العديد من وزرائه المضطربين، يبدو أن نتنياهو يستسلم لأهوائهم. ومن المناسب له أن يكون محمياً بحكومة وحشية من صنعه، في محاولة لتجنب ما لا مفر منه. ومع ذلك، لا الوقت ولا الظروف سوف تستوعب افتقاره إلى الشجاعة أو التصميم.
وبصرف النظر عن المدة التي قد يتمكن نتنياهو بها من إطالة أمد معاناة عدم اتخاذ القرار، فإنه لابد وأن يواجه الحقيقة المرة عاجلاً وليس آجلاً. ولم يكن زعيم حزب الوحدة الوطنية، غانتس، الذي انضم إلى حكومة الحرب، ليعبر عن الأمر بشكل أكثر إيجازًا عندما خاطب نتنياهو مؤخرًا، قائلاً: “بدأت الاعتبارات الشخصية والسياسية في غزو قدس أقداس أمن إسرائيل. يا رئيس الوزراء نتنياهو، الاختيار بين يديك. إذا أعطيت الأولوية للوطني فوق الشخصي، فستجدنا شركاء في المعركة، ولكن إذا اخترت طريق المتعصبين وقدت البلاد بأكملها إلى الهاوية – فسنضطر إلى ترك الحكومة”. كما التزم غانتس بهذا الرأي من خلال تقديم مشروع قانون في 30 مايو لحل الكنيست وعقد انتخابات مبكرة. بالإضافة إلى ذلك، دعا وزير دفاع نتنياهو يوآف غالانت نتنياهو أيضًا إلى “اتخاذ قرار والإعلان عن أن إسرائيل لن تنشئ سيطرة مدنية على قطاع غزة”.
إن كل مراقب حريص لتاريخ الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني سوف يتفق على أن هناك الآن فرصة تاريخية لتحقيق اختراق لإنهاء الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، وإن كان الطريق إلى السلام طويل ومتعرج ومحفوف بالمخاطر. إن كيفية انتهاء حرب غزة وما هي السلطة الحاكمة التي ستتولى السلطة سوف تشكل مستقبل إسرائيل لأجيال. ويتعين على نتنياهو، الذي لا يريد الاستقالة أو الإجبار على الرحيل ويتوق إلى إنهاء الحرب منتصراً وترك منصبه كبطل، أن يتحرك الآن. وبدون منصب رئيس الوزراء، سوف يواجه لجنة تحقيق حول كيفية وقوع الهجوم المروع الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول تحت ولاية حكمه، فضلاً عن احتمالات السجن بتهمة ارتكاب ثلاث تهم جنائية لا تزال معلقة.
إن السؤال المطروح الآن هو: ماذا يستطيع نتنياهو أن يفعل، وما الذي قد يتطلبه الأمر لإنهاء حرب غزة على النحو الذي يلبي الأهداف الوطنية النهائية لإسرائيل فضلاً عن خدمة المصالح الفضلى للفلسطينيين؟
من الواضح أن إسرائيل إذا كانت راغبة في الخروج منتصرة من الحرب وتبرير التكلفة المروعة التي دفعتها هي وكذلك الفلسطينيون، فيتعين عليها أولاً منع حماس من إعادة تشكيل نفسها في غزة والاستبعاد القاطع لحكم عسكري وإداري طويل الأمد، وتسهيل تولي سلطة فلسطينية منتخبة حديثاً للسلطة في غزة، وأخيراً تمهيد طريق واضحة تؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية.
تشكيل حكومة جديدة
نظراً لتكوين الحكومة الإسرائيلية الحالية التي تضم العديد من الوزراء المسيانيين الذين يصرون بشدة على فرض الحكم العسكري في غزة مع استمرار احتلال الضفة الغربية، يتعّين على نتنياهو حلّ حكومته وتشكيل حكومة جديدة تدعم الخطوط العريضة العامة المذكورة أعلاه، وذلك قبل الثامن من يونيو/حزيران، وهو الموعد النهائي الذي حدده غانتس للاستقالة من الحكومة. وكما ذكر غانتس، “استولت أقلية صغيرة على ظهر السفينة الإسرائيلية وهي تبحر بها نحو جدار من الصخور”. إن الحكومة الائتلافية الجديدة التي سيقى نتنياهو يقودها سوف تشمل حزب الليكود بـ 32 مقعدًا، وحزب يش عتيد بزعامة لابيد (24 مقعدا ً)، وشاس بزعامة درعي (11 مقعدا ً)، وحزب الوحدة الوطنية بزعامة غانتس ( مقاعد8)، وحزب الأمل الجديد بزعامة ساعر (4 مقاعد) وحزب العمل (4 مقاعد). سوف يحظى هذا الائتلاف بأغلبية ساحقة تبلغ 83 مقعدًا في الكنيست الإسرائيلي. ومن المحتمل أن ينضم أيضًا حزب “إسرائيل بيتنا” بزعامة ليبرمان بستة مقاعد.
من المسلم به أن تحقيق هذا قد يكون بالغ الصعوبة، حيث توجد العديد من التحفظات من جانب زعماء الأحزاب المختلفة، وخاصة يش عتيد، الذي استبعد الجلوس في حكومة مع نتنياهو. ومع ذلك، سيتعين على كل عضو في مثل هذه الحكومة الائتلافية، بما في ذلك نتنياهو نفسه، إظهار قدر كبير من المرونة ويجب أن يقدم كل التنازلات اللازمة لمواجهة ساعة إسرائيل التاريخية المصيرية إذا أرادوا إنقاذ البلاد، حيث أن الوضع في إسرائيل اليوم يبرّر الابتعاد الكامل عن مواقفهم القديمة. إن نجاح نتنياهو في إدارة هذه المرحلة الانتقالية قد يسمح له بالخروج من هذا الوضع المزري ببعض النزاهة والكرامة من خلال إظهار أنه وضع مصلحة البلاد فوق مصلحته الخاصة، التي يُتهم بارتكابها، بل وربما يكسب لنفسه العفو عن الجرائم الثلاث التي وجهت إليه الاتهامات بارتكابها.
الاتفاق على وقف إطلاق نار فوري
يتعين على الحكومة أن تتفق على وقف إطلاق نار مؤقت لمدة ستة أسابيع لتحقيق عدة أهداف حاسمة. أولاً، تسهيل تدفق الغذاء ومياه الشرب والأدوية والوقود بكميات وسرعة لمنع الأزمة الإنسانية من التحول إلى كارثة كاملة. ثانياً، إطلاق سراح أكبر عدد ممكن من الرهائن، وثالثاً، بذل جهد كبير لتوفير ممر آمن ومأوى لأكثر من مليون فلسطيني فروا إلى رفح ويسعون إلى الانتقال إلى وسط وشمال غزة. إنها مهمة ضخمة. وإذا رفضت حماس قبول هذه الشروط، فلابد أن تنفذ إسرائيل التدابير الأولى والثالثة.
منع حماس من إعادة بناء نفسها
إن التضحيات الهائلة التي قدمتها إسرائيل والفلسطينيون سوف تذهب سدى ما لم تضمن إسرائيل عدم السماح لحماس بإعادة بناء نفسها في غزة أو تمكينها من ذلك. لا ينبغي لإسرائيل أن توافق على وقف إطلاق نار دائم إلا بعد هزيمة حماس بشكل كامل في رفح وتحقيق ذلك جراحياً لمنع الأضرار الجانبية، حتى لو كان ذلك على حساب المخاطرة بحياة بعض الإسرائيليين.
إن منع حماس من إعادة حكم غزة ليس أفضل نتيجة لإسرائيل فحسب، بل وأيضاً للفلسطينيين الذين استُغِلوا وأُسيئت معاملتهم وحُرِموا من العيش الكريم لمدة تقرب من عشرين عاماً تحت حكم حماس القاسي.
ولكي تزيل إسرائيل صورة حماس عنها التي طبعتها في أذهان الفلسطينيين على أنها العدو الأكثر شراسة والسبب وراء معاناتهم، يتعين على إسرائيل أن تظهر التعاطف والرعاية الحقيقية مع توضيح أنها تقاتل حماس، وليس الشعب الفلسطيني. وفي النهاية، وكما قال ديفيد بن غوريون، مؤسس إسرائيل وأول رئيس وزراء لها، “لن يُحكَم على دولة إسرائيل من خلال ثروتها، ولا من خلال جيشها، ولا من خلال تكنولوجيتها، بل من خلال شخصيتها الأخلاقية وقيمها الإنسانية”.
التوصل إلى اتفاق بين الولايات المتحدة وإسرائيل بشأن نهاية اللعبة
يتعين على إسرائيل وحليفتها الأكثر أهمية، الولايات المتحدة، أن تتفقا على نهاية اللعبة. وليس من السابق لأوانه التخطيط للحل الوحيد القابل للتطبيق على المدى الطويل، والذي يتلخص في تولي السلطة الفلسطينية المنتخبة حديثاً السلطة في غزة بعد عام واحد على الأقل وذلك بالسماح للفلسطينيين بالتنظيم السياسي. لابد وأن يتفقا الجانبان أيضا ً على حجم قوة حفظ السلام الدولية وتكوينها ومدتها، في حين تتولى السلطة الفلسطينية المسؤولية الإدارية. ولابد أن يقتصر طول مدة الوجود العسكري الإسرائيلي في غزة على عام واحد كحد أقصى، في حين تستعد السلطة الفلسطينية لتولي المسؤولية الأمنية بالتنسيق الكامل مع الجيش الإسرائيلي وهو ما لابد وأن يستمر بعد انسحاب كافة القوات الإسرائيلية.
جمع المليارات لإعادة إعمار غزة
إن الجهود الدولية الكبرى التي تقودها الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية لجمع المليارات لإعادة إعمار غزة وإعادة تأهيلها لابد وأن تبدأ الآن، حتى قبل أن تنتهي الحرب. وهذا من شأنه أن يشير إلى الفلسطينيين بأن الأمل موجود وأن الخسائر والمعاناة التي تحملوها سوف تنتهي، وسوف تخلق مستقبلاً جديداً واعداً ومزدهراً.
التفاوض على تطبيع العلاقات السعودية – الإسرائيلية
بمجرد أن تبدأ هذه العملية، ولتشجيع إسرائيل على تبني ما سبق، لابد وأن تستأنف المملكة العربية السعودية المفاوضات بشأن تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وعلى الرغم من أن السعوديين كانوا في ذلك الوقت على استعداد لتبني حكم ذاتي معزز للفلسطينيين قبل إنشاء دولة مستقلة كاملة كخطوة وسيطة، يصرّ السعوديّون بعد اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس الآن على أنه لن يكون هناك تطبيع للعلاقات مع إسرائيل ما لم يتم إرساء مسار واضح يؤدي إلى حل الدولتين. ويتعين على إسرائيل والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر والأردن أن تبدأ في وضع الأساس لمفاوضات السلام التي تؤدي إلى هذه الغاية.
تركيا وقطر تلعبان دور الوسيط
سيكون وهماً أن نفترض بأن حماس بعد سحقها عسكرياً في غزة لن تبقى كحركة متطرفة ولن تلجأ إلى الإرهاب لتعطيل أي عملية سلام محتملة. ويتعين على تركيا وقطر، اللتين تربطهما علاقة خاصة بحماس ويمكنهما ممارسة الضغوط عليها، أن تبدآ حواراً مع حماس لمساعدتها على استيعاب حقيقة مفادها أن التعايش الإسرائيلي الفلسطيني أمر لا رجعة فيه وأنه لن تكون هناك دولة فلسطينية ما لم يقبل الفلسطينيون، بما في ذلك حماس، الواقع الإسرائيلي الذي لا يتزعزع ويتوقفوا إلى الأبد عن المقاومة العنيفة. إن خسارة حماس لسيطرتها على غزة والموت والدمار الهائل الذي لحق بها لن يضيع عليها.
مواجهة نقطة انطلاق تاريخية
لا توجد طريقة أنيقة لإنهاء حرب غزة وإرضاء رغبات وتطلعات جميع اللاعبين. يجب على إسرائيل أن تدرك أنها يمكن أن تفوز بألف معركة ومع ذلك تخسر الحرب. ويمكن للفلسطينيين أن يخسروا كل معركة ولا يفوزوا بحرب أبدًا، ولكنهم ما زالوا يتحملون وينهضون من جديد ويقاومون بعنف احتلال إسرائيل وإخضاعهم لها، بغض النظر عن مدى ارتفاع الثمن وكم من الوقت قد يستغرق ذلك. من المؤكد أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لن يُحلّ بالعنف أبدًا، والتعايش السلمي في ظلّ حلّ الدولتين يوفّر الحلّ المستدام الوحيد.
هذا هو الوقت الذي تكون فيه القيادة أكثر أهمية من أيّ وقت مضى. لدى نتنياهو فرصة تاريخية لاغتنام اللحظة والارتقاء إلى مستوى المناسبة إذا كان قادرًا فقط على حشد الشجاعة. قد يقول البعض إن ما اقترحته أعلاه أمر ساذج لأن نتنياهو لن يغير أبدًا خطوطه السياسية وقناعاته الإيديولوجية. صحيح، لا يسعنا مع إدراك خلفيته وموقفه السياسي على مر السنين إلاّ أن نوافق على ذلك. ولكن في قرارة نفسه، يهتم نتنياهو بشدة بمستقبل إسرائيل ومكانتها بين الأمم. والأزمة التي يجد نفسه فيها، والتي يرجع جزء منها إلى أفعاله الخاصة، قد توقظه للاستماع إلى نصيحة غانتس وجالانت ومواجهة الواقع.
قد تكون هذه هي الفرصة الأخيرة لنتنياهو ليس فقط لإنقاذ نفسه ولكن أيضًا لمنع إسرائيل من أن تصبح دولة ثيوقراطية ومنبوذة ودولة فصل عنصري، مكروهة من قبل مجتمع الأمم وتعيش بالسيف، دولة خانت رؤية مؤسسيها، ألا وهو تحقيق حلم اليهود الذي دام آلاف السنين في أن يعيشوا أحرارا ً وينمون ويزدهرون في دولة خاصة بهم تصبح منارة أمل دائم لجميع الناس الذين يتوقون إلى الحرية.