وماذا بعد أن أُخرست أصوات المدافع ؟
لقد أثارت الهدنة الجديدة بين إسرائيل وحماس نفس السؤال القديم بشكل ٍ عفويّ: هل ستدوم هذه الهدنة، أم أنها مجرّد استراحة أخرى تتيح للطرفين فرصة الإستعداد للجولة القادمة من القتال كسابقاتها من اتفاقيّات وقف إطلاق النار ؟ إنّ قراءتي للوضع الذي أجبر الطرفين لقبول وقف العنف على أساس هدنة مفتوحة تقول عكس ذلك، فأنا أعتقد بأن الهدنة الحاليّة مختلفة عن غيرها لأنه تمّ التوصّل إليها تحت ظروف مختلفة كليّا ً وقد تدوم طويلا ً.
دعني أؤأكّد منذ البداية بأنّه لم يكن هناك لا فائزين ولا خاسرين، فقد أحرزت حماس نصرا ً سياسيّا ً هامّا ً حيث أبقت على قدرتها في إطلاق الصواريخ على إسرائيل حتّى اللحظة الأخيرة قبل دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، ولكنها تكبّدت أيضا ً خسائر جسيمة، بشرية ومادية.
وإسرائيل من الناحية الأخرى ربحت بشكلٍ حاسم العملية العسكرية بإنزالها معاناة ودمار فظيعين لا يقاسان بالمواجهتين العسكريتين السابقتين مع حماس، ولكنها خسرت من الناحية السياسية بخلقها الإحساس لدى الناس بأن حماس قد حققت أهدافها حتى ولو كانت هذه أدنى بكثير من مطلباتها الأصلية برفع الحصار كلياً.
وبالإشارة إلى ما تقدّم، فإن ما جعل الهدنة ممكنة هو أن كلا الطرفين استنتجا بأن استمرار القتال لن يحسّن شيئاً من مواقفهما بل قد يزيدها سوءاً بشكل ملموس. وتأثير الإحتجاجات الشعبية الإسرائيلية والفلسطينية والضغوطات الهائلة على حكوماتهم التي لا يمكن التّغلب عليها كانت مهمّة في وضع نهاية لهذه الحرب التي بدت وكأنها لن تنتهي.
لم يرد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن يبقي على قصف غزة وتكبد أضرار جانبية ضخمة وتعريض إسرائيل لإدانات دولية متزايدة مع تصاعد عدد القتلى المدنيين بشكلٍ غير مقصود.
قد ينهي غزو وإعادة احتلال قطاع غزة استفزازات حماس بشكل نهائي وكذلك مقدرتها على إطلاق المزيد من آلاف الصواريخ، هذا إضافة إلى ترويعها الإسرائيليين، ولكن ثمن ذلك سيكون باهظاً بالأرواح والمال.
لقد كان نتنياهو على صواب في رفضه الدعوات من عدة أعضاء متطرفين ومضلّلين من الجناح الأيمن لحكومته الإئتلافية لغزو غزة، وبالأخصّ نفتالي بينيت وأفيغدور ليبرمان، العاجزين عن إدراك العواقب الجسيمة لمثل هذه المغامرة الطائشة. لقد تجاهلا بغباء حقيقة أن إسرائيل لا تستطيع الإبقاء على الإحتلال للأبد، لا بل إنها بدلاً من ذلك ستساعد في الدّفع لصعود جيلٍ جديد من المتطرفين الفلسطينيين وتضع الأساس لمزيد من الدماء وذرف الدموع.
وعكس ذلك، فعدا عن استنزاف ثلثي مخزون حماس من الصواريخ، فقد تمّ تدمير عشرات الآلاف من البيوت وسُوّيت أحياء كاملة بالأرض، هذا في حين قتل ما يزيد عن 250 مقاتل فلسطيني وأكثر من 1400 مدني.
أرى على أية حال بأن هذه الجولة الأخيرة من الأعمال العدائية قد أدخلت، من المفارقات، تأثيراً إيجابياً من حيث أن كلا الجانبين قد أدركا بأنه لا يمكن لأي منهما أن يهزم الآخر لا سياسيّا ً ولا عسكريّا ً بدون عقاب، وبأنه يجب الآن سبر الخيارات الأخرى لإنهاء هذه الحلقة المفرغة من العنف.
ومن المعطيات التي تبشّر بالخير للمستقبل هو أنّ السلطة الفلسطينيّة بقيادة محمود عبّاس قد لعبت دورا ً هامّا ً في التوصّل لوقف إطلاق النار والتخطيط لوضع قواتها الأمنية لمراقبة معبر غزّة من الجانب الإسرائيلي والمصري على النحو الذي تتطلّبه شروط اتفاقية الهدنة بين الطرفين.
لقد نفخت السلطة الفلسطينيّة حياة ً جديدة في حكومة الوحدة الوطنيّة وعزّزت أصوات الفلسطينيين المعتدلين، الأمر الذي سيكون له أصداء ً ايجابيّة هامّة على مباحثات السّلام الإسرائيليّة – الفلسطينيّة في المستقبل.
أمّا التطوّر الآخر المهمّ فهو الإدراك مجدّدا ً بأن دور مصر الآن وفي المستقبل لا غنى ً عنه. فبصرف النّظر عن العداء القائم ما بين حماس ومصر تحت رئاسة عبد الفتاح السيسي، يدرك قادة حماس الآن من جديد بأن أهميتهم السياسيّة في سياق الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني ومطمحهم بمستقبل ٍ أفضل يعتمد إلى حدّ بعيد على استعداد إسرائيل ومصر للتعاون بينهما.
أنا مقتنع بأن هذه الحرب وتوقيفها هو نداء يقظة يختلف صداه عن المرات السابقة. وللتأكيد، أعتقد أنّه في صحوة حرب غزّة والأساس الذي بني عليه اتفاق وقف إطلاق النار قد يكون برز زخم جديد لمفاوضات السّلام.
يدرك الآن نتنياهو والشعب الإسرائيلي بوجه ٍ خاصّ أنّه وبصرف النظر عن القوّة الهائلة للجيش الإسرائيلي فإنّ لاستخدام القوّة حدود. هم الآن أكثر ميلا ً على الأرجح للتفاوض بجديّة أكثر من أيّ وقت ٍ مضى منذ استلام نتنياهو زمام السلطة. ولكي يتمّ ذلك ويجلب معه تقدّم حقيقي، على اللاعبين الخارجيين بالنسبة للصراع، وهما الولايات المتحدة الأمريكيّة والدول العربيّة، أن تستخدما الآن نفوذهما على إسرائيل والفلسطينيين على التوالي لدفع عمليّة السّلام إلى الأمام.
وبدون إحداثر ضجة كبيرة، على إدارة أوباما ممارسة ضغط بشكل ٍ هادىء على حكومة نتنياهو للبدء بمفاوضات ثنائيّة جادّة مع الفلسطينيين. وبشكل ٍ لا يقلّ أهميّة عن ذلك، فقد برز بنظري الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس (أبو مازن) من الحرب الأخيرة الإسرائيليّة – الحمساويّة كالفائز النهائي. لقد أثبت عبّاس التزامه الثابت بالسّلام وبقي فوق الشبهات والخلافات طيلة فترة العمليّة العسكريّة.
موقف عبّاس وقوته السياسيّة المعزّزة بدعم ٍ محلّي ودولي يمدّاه بمزيد من السلطة والنفوذ في إقرار أجندة الفلسطينيين السياسيّة المستقبليّة التي تتمحور حول إقامة دولة فلسطينيّة بالوسائل السياسيّة.
قد يأخذ محمود عبّاس – بدعم من المملكة العربيّة السعوديّة ومصر – بنصيحة الولايات المتحدة بتأجيل قراره الذهاب للأمم المتحدة طالبا ً تأييدا ً دوليّا ً لإقامة الدولة الفلسطينيّة. إنّه الآن في وضع ٍ أفضل حيث أنّ بمقدوره الآن التفاوض مع إسرائيل من مركز قوّة في سياق مبادرة السّلام العربيّة، وذلك بإصراره على بدء المفاوضات حول الحدود. فبالنظر للثورات والإضطرابات التي تجتاح الآن جميع أرجاء الشّرق الأوسط والتي تؤثّر على كلّ دولة عربيّة في المنطقة، ليس هناك وقت لإعادة إحياء مبادرة ةالسّلام العربيّة أفضل من الوقت الحاضر.
إنّ أكبر تهديد يواجه الدّول العربيّة اليوم ليس إسرائيل بل هو التطرّف الإسلامي المتمثّل في تنظيم “داعش” وجبهة النصرة والقاعدة وإيران الشيعيّة التي تخشاها إسرائيل أيضا ً بدرجة كبيرة.
ما نحتاجه اليوم هو إيماءة كبرى من مصر التي فرضت من جديد دورها القيادي في العالم العربي وطوّرت علاقات وثيقة مع إسرائيل وقامت بنجاح بدور الوسيط لعقد اتفاقية الهدنة الأخيرة.
وحيث أنّ هناك تأييد هائل لمبادرة السّلام العربيّة في إسرائيل، على مصر والمملكة العربيّة السعوديّة أن تضعا مجدّداً بشكل ٍ رسمي المبادرة على الطاولة وأن تدعوا إسرائيل لاحتضانها والشّروع في مفاوضات شاملة لإنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي، جاعلين بذلك من حرب غزّة العامل المحفّز للسّلام.
إنّني سعيد لاتهامي بأضغاث أحلام وبآمال ٍ كاذبة من حين لآخر، ولكن ما لا يمكن مغفرته هو أن ندع ما يزيد عن 2.100 فلسطيني (بينهم حوالي 500 طفل) و 69 إسرائيلي يموتون سدى ً فقط لنستعدّ لحفر قبور ٍ جديدة لأولئك اللذين سيُقتلون مستقبلا ًعبثا ً.