حقائق لا يمكن لا لإسرائيل ولا للفلسطينيين أن يمحونها عن الوجود
بعد 76 عاماً من الصراع المحمّل بالأخطاء الكارثية المتبادلة وسوء التقدير والفرص الضائعة، خلقت إسرائيل والفلسطينيون حقائق سياسية وواقعية لا يمكن دحضها ويجب عليهم الآن مواجهتها.
في مقال الأسبوع الماضي بعنوان “الأبعاد النفسية الأربعة وراء هجوم حماس ورد إسرائيل الانتقامي”، استكشفت كيف أثرت الأبعاد التاريخية والدينية والأيديولوجية والإنسانية على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والذي بلغ ذروته في أعنف حريق منذ إنشاء إسرائيل في عام 1948. نشأت خلال هذه الفترة حقائق جديدة لا جدال فيها ولم يتمكن أي من الطرفين من تغييرها بشكل كبير دون تكبد انتكاسات كبيرة، إن لم تكن نتائج كارثية. إنني أعتقد أنه لا توجد سيناريوهات مضادة ذات مصداقية لإظهار كيف وتحت أي ظروف يمكن تغيير الحقائق السياسية والواقعية التسعة التالية بشكل جوهري والاستمرار في تحقيق تعايش سلمي إسرائيلي – فلسطيني دائم.
العامل الديموغرافي
لقد أصبح الإسرائيليون والفلسطينيون متداخلين بعضهم ببعض على نحو متزايد، وبات فصلهم إقليمياً أمراً مستحيلاً بكل بساطة. هناك ما يقرب من 3 ملايين فلسطيني في الضفة الغربية، وأكثر من مليونين في غزة، ومليوني نسمة في إسرائيل. وبالمقابل، هناك أكثر من 700.000 إسرائيلي في الضفة الغربية، بما في ذلك 230.000 في القدس الشرقية. ويساوي العدد الإجمالي لليهود الإسرائيليين تقريبًا إجمالي عدد السكان الفلسطينيين في المناطق الثلاث مجتمعة، أي ما يقرب من 7 ملايين لكل منهما. ولن يتمكن أي من الطرفين تحت أي ظرف من الظروف من اقتلاع الآخر أو محاولة التطهير العرقي بأي وسيلة، بما في ذلك العنف. وفي الواقع، فإن عدد سكانهما المتداخلين بعضهم ببعض قد زاد ولم ينقص على مدى العقود القليلة الماضية.
عدم استدامة الإحتلال
لم تكن العلاقة بين الجانبين بعد 57 عاماً من الإحتلال أسوأ مما هي عليه اليوم. إن نجاح إسرائيل في بناء وتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية لم يؤد إلا إلى تعميق المقاومة الفلسطينية للاحتلال وتصميمها على إنهائه بأي وسيلة، بما في ذلك العنف. وإن أعمال العنف المكثفة في السنوات الأخيرة، وخاصة منذ اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس (التي قُتل خلالها ما يقرب من 600 فلسطيني في الضفة الغربية)، تثبت مدى هشاشة الاحتلال وعدم استدامته. واستمرار القمع والمعاناة والتهجير الذي يتعرض له الفلسطينيون تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية لم يضمن شيئا ً أبدا ً سوى عدم قبولهم للإحتلال كأسلوب حياة.
صمود حركة حماس
بعد ما يقرب من العام من الحرب الشرسة في غزة، فقدت حماس أكثر من 17 ألفاً من مقاتليها، بما في ذلك العديد من كبار قادتها، في حين عانت من دمار هائل في بنيتها التحتية. وعلى الرغم من تحطيم حماس عسكرياً، فإن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية قد تفشل في إلحاق الهزيمة بها بالكامل. والأهم من ذلك أن حماس بقيت حركة مقاومة وطنية غير قابلة للتدمير. وبغض النظر عما إذا كانت إسرائيل ستخرج من غزة عن طريق ترتيبات عبر الوساطة أو احتفظت بسيطرتها العسكرية، فإن إسرائيل غير قادرة على تدمير حماس كحركة. تتمتع حماس بحضور كبير في الضفة الغربية وستواصل مقاومة إسرائيل بعنف وستتلقى الدعم السياسي والمادي من إيران ووكلائها.
الطموح الوطني للفلسطينيين
لقد كان الطموح الوطني الفلسطيني لإقامة دولة هو القوة الدافعة وراء مقاومتهم لإسرائيل، ولم تقم السنوات الأخيرة إلاّ بالمزيد من تعزيزه. صحيح أن الفلسطينيين أضاعوا العديد من الفرص لتحقيق السلام مع إسرائيل على أساس حل الدولتين. ومع ذلك، فإن حقهم في إقامة دولتهم يرتكز على أسس تاريخية وقانونية وواقعية، لا يمكن لأي طرف أن ينكره، بما في ذلك إسرائيل. وتقدم لنا الأعوام السبعة والخمسين الماضية من الإحتلال درساً مقنعاً: فالفلسطينيون لن يتنازلوا أبداً عن حقهم، ولا تستطيع أي قوة أن تجبرهم على التخلي عن تطلعاتهم الوطنية، بصرف النظر عن حجم الخسارة واليأس الذي قد يتكبدونه. وتحظى فلسطين حاليًا باعتراف 146 دولة، بما في ذلك عدة دول أوروبية.
إيران و”محور المقاومة” التابع لها
كانت إيران تسعى منذ الثورة في عام 1979 إلى أن تصبح القوة المهيمنة في المنطقة. وللمضي قدماً في طموحاتها، اختارت دعم القضية الفلسطينية مع تهديد وجود إسرائيل. قدمت طهران الدعم المالي والمعدات العسكرية للعديد من جماعات المقاومة ضد إسرائيل، وخاصة حماس وحزب الله، “محور المقاومة”. وبغض النظر عن مدى التدهور العسكري لحماس وحزب الله، فإن إيران باقية وستساعدهما على إعادة بناء أنفسهما. لا تستطيع إسرائيل تدمير إيران، لكن إنهاء الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني من شأنه أن يسحب البساط من تحت طهران ويقلل من قدرتها على استخدام القضية الفلسطينية كصرخة حاشدة ضد إسرائيل والولايات المتحدة، ويخفف من التهديد الوجودي المتصور لإسرائيل من قبل إيران.
موقف الولايات المتحدة من حل الدولتين
لقد دعمت كل إدارة أمريكية منذ نشأة إسرائيل السلام الإسرائيلي – الفلسطيني على أساس حل الدولتين. وعلى مدى العقود الثلاثة الماضية، حاولت الولايات المتحدة التوسط للتوصل إلى اتفاق بينهما لكنها فشلت، ويرجع ذلك أساسًا إلى رفض كل جانب تقديم بعض التنازلات التي يطالب بها الطرف الآخر. ورغم أن الولايات المتحدة لم تتراجع قط وأصرت على أن يقدم كلا الجانبين تنازلات للتوصل إلى اتفاق، إلا أنها لم تنحرف أبدًا عن مبدأ أن حل الدولتين يظل الحل العملي الوحيد الذي أكّد عليه الرئيس بايدن بقوة في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. ويجب على إسرائيل، على وجه الخصوص، أن تفهم أنه لا يوجد أي احتمال لتغيير أي إدارة أمريكية مستقبلية لموقفها.
موقف الدول العربية
وعلى الرغم من أن الدول العربية سئمت من تعنت الفلسطينيين، إلا أنها أصرت أيضًا طوال الوقت على أن اتفاقية السلام الإسرائيلية – الفلسطينية القائمة على حل الدولتين تظل الخيار الوحيد القابل للتطبيق. وكان هذا الموقف في صميم مبادرة السلام العربية في عام 2002 وسيظل محوريًا للسلام العربي – الإسرائيلي الشامل. وعلى الرغم من أن أربع دول عربية، بالإضافة إلى مصر والأردن، قامت بتطبيع العلاقات مع إسرائيل من خلال اتفاقيات إبراهيم، إلا أن المملكة العربية السعودية جمدت مفاوضاتها بشأن تطبيع العلاقات مع إسرائيل في أعقاب حرب غزة. وأصر السعوديون على أنه لن تكون هناك محادثات أخرى ما لم تنشئ إسرائيل مسارًا واضحًا من شأنه أن يؤدي إلى إنشاء دولة فلسطينية.
حتمية حلّ الدولتين
وعلى الرغم من أن عددًا متزايدًا من الإسرائيليين يشعرون بقوة بأن حلّ الدولتين لم يعد قابلاً للتطبيق، هذا إذا كان قابلاً للتطبيق يوما ما، ولكن لا يوجد خيار آخر قابل للتطبيق من شأنه أن ينهي الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. لقد وقع عدد كبير من الإسرائيليين ضحية للرواية الكاذبة القائلة بأن الدولة الفلسطينية تشكل خطرًا وجوديًا على إسرائيل، بينما في الحقيقة الأمن القومي الإسرائيلي النهائي يكمن في إنشاء دولة فلسطينية مع تعاون كامل في جميع مسائل الأمن القومي.
مخاطر الأحلام الوهميّة
إن الإسرائيليين المسيانيين والفلسطينيين الإسلاميين المتعصبين الذين ما زالوا يعتقدون أنهم قادرون على الانتصار من خلال اغتصاب أرض وحقوق الآخر مخطئون بشكل خطير ويجعلون الصراع أكثر صعوبة وعنفا. لقد أظهرت الحرب بين إسرائيل وحماس والعنف المستمر في غزة ولبنان والضفة الغربية بشكل صارخ أن الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني لن يشتد إلا بمرور الوقت وسيصبح شرسًا وغير إنساني بشكل تدريجي.
إن البعد المأساوي الأكبر للصراع هو أن الدورة المفرغة المستمرة من العنف تسمم جيلًا تلو الآخر من الإسرائيليين والفلسطينيين. لقد أصبح الموت والدمار وإزالة الإنسانية أمرًا طبيعيًا، الأمر الذي يعزز العداء المميت والدائم تجاه الآخر كما تجلى ذلك في الهجوم المروع الذي شنته حماس والإنتقام الإسرائيلي. ومع ذلك، فإن هذا التطور المرعب لن يغير شيئًا في جوهر واقع التعايش الإسرائيلي والفلسطيني، بغض النظر عن عدد الحروب والحرائق العنيفة التي سيواجهونها في المستقبل. إن الطرفين عالقان الآن ويجب عليهما أن يختارا طبيعة تعايشهما.
من المؤسف أن القيادتين الإسرائيلية والفلسطينية الحاليتين غارقتان في سياساتهما الفاسدة أخلاقياً والخطيرة سياسياً والتي تمنعهما من تقييم الحقائق السياسية والواقعية المذكورة أعلاه بشكل موضوعي والتي لا يمكن إخفاؤها. إننا بحاجة إلى قيادة جديدة على الجانبين لديها فهم أفضل لحتمية التعايش وتدرك أن حلّ الدولتين ليس هدية يمنحانها للآخر بل ضرورة متبادلة بين الحياة والموت من شأنها أن تشكّل مصير الأجيال الإسرائيلية والفلسطينية المستقبلية.