غياب الإلتزام الحقيقي بالسّلام
بغض النظر عمّا صرّح به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس في كلماتهما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، لا أحد منهما ملتزم حقّا ً بالتفاوض على إتفاقيّة سلام على أساس حل الدولتين. لقد انشغل كلّ من الزعيمين في الكلام الفارغ والشعارات المخصصة للإستهلاك المحلي بدلاً من اقتراح مبادرات جديدة وبناءة وقابلة للتصديق لاستئناف المفاوضات التي يمكن أن تؤدي إلى اتفاق سلام، الأمر الذي كان ينبغي أن يكون فحوى ظهورهما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. هذا، على أية حال، لم يحدث.
لقد أصبح السلام أكثر تنصّلا ً من أي وقت مضى مع استمرار كلا الجانبين بالتمسك بما يبدو بأنها مواقف لا يمكن التوفيق بينها، في حين أن التعايش الإسرائيلي الفلسطيني هو في الواقع أمر ٌ لا مفرّ منه. وبغض النظر عن مدى استمراريّة هذا الصراع، فإنهما سيجدان أنفسهما يوما ًعالقين معاً، وعليهما أن يختارا ما بين السلام والأعمال العدائية العنيفة المدمّرة التي تتصاعد في وقت كتابة هذه المقالة.
فلو كان كلّ من الطرفين ملتزما ً حقّا ً بالتوصل إلى اتفاق سلام، لكانا قد قاما بالتنازلات اللازمة لصنع السلام قبل سنوات، إن لم يكن قبل عقود. فقيام نتنياهو بالإعلان على أنه مستعدّ لاستئناف مفاوضات السلام دون شروط لا يعني شيئاً، وبالنسبة لمحمود عبّاس المطالبة بالإفراج عن عدد قليل من السجناء، ووضع نهاية لتوسيع المستوطنات، والإعتراف الدولي يعني حتى أقل من ذلك.
يدعو نتنياهو وشركاؤه في الإئتلاف الحكومي علناً بأن الأرض كلها الممتدة من البحر الأبيض المتوسط إلى نهر الأردن هي أرض إسرائيل، وأن إسرائيل ليست قوة احتلال، الأمر الذي يعطيهم الحق – حسب زعمهم – لبناء المستوطنات في أي مكان على أرض إسرائيل التوراتية.
وبالمقابل، ففي حين يصرح الرئيس الفلسطيني محمود عباس بأنه يسعى لتحقيق السلام على أساس حل الدولتين، فإنه ضعيف ويداه مربوطتان، ذلك لأنه يوجد داخل الجسم السياسي الفلسطيني جمهور مهمّ بقيادة حركة حماس وغيرها من الجماعات المتطرفة التي لا تزال تطالب بكل فلسطين الإنتدابية لتصبح دولة فلسطين.
وعلاوة على ذلك، بدلاً من تحضير الشعب للتنازلات الضرورية اللازمة للتوصل إلى اتفاق، فإنّ عبّاس لا يزال يرفع مطالب لا يمكن الدفاع عنها، مثل “حق العودة”، التي تعمل على زيادة تصلّب موقف الجمهور الفلسطيني.
ولإظهار التزامهم الحقيقي بالسلام، يجب على القادة الإسرائيليين والفلسطينيين إعادة التفكير في واقعهم الذي لا مفر منه. يجب أن يتحلوا بالشجاعة ليخرجوا ويعلنوا جنبا ً إلى جنب أنه نظراً لرغبة شعوبهم في العيش في سلام ولحتمية التعايش السّلمي بينهم، فهم ملتزمون تماماً بالتوصل إلى اتفاق سلام، وسوف يفعلون ذلك تحت أي ظرف من الظروف.
وتحقيقاً لهذا الهدف، يجب أن يكونوا على استعداد لاتخاذ العديد من التدابير الهامة قبل وأثناء عمليّة التفاوض للبدء في بناء دعائم السلام المستدام، بما في ذلك:
أولاً، وضع قواعد التفاوض والعمل التي بإمكانها أن تدفع عمليّة التفاوض إلى الأمام بحيث ييسّر أو يؤدي حلّ قضية مُختلف عليها إلى حل قضيّة أخرى. وفي هذا الصدد، فإنه من الأهمية بمكان أن تبدأ المفاوضات من خلال إنشاء أول معالم الدولة الفلسطينية المستقبلية (مع ترك الحدود النهائية للقدس حتى يتم تحديد وضعها النهائي) لإعطاء الفلسطينيين رؤية واضحة بهذا الخصوص، والثقة بأنهم يتحركون نحو اقامة دولة فلسطينية. وهذا سيؤدي من ناحية منطقيّة وعمليّة إلى تسهيل المفاوضات حول مستقبل الكثير من المستوطنات على طول حدود عام 1967، هذا فضلاً عن معالجة جوانب هامة من المخاوف الأمنية الإسرائيليّة التي يربطها نتنياهو بالملامح النهائيّة للحدود.
ثانياً، وضع نهاية لتبادل الإتهامات العلنيّة وأية تحريضات مباشرة أو غير مباشرة من أجل الحفاظ على أجواء إيجابية أثناء وخارج عملية التفاوض.
ثالثاً، عدم السّماح لأي حادث عنف من أي جانب من عرقلة المفاوضات، عملا ً بما قاله يوما ً رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل، اسحق رابين:”حارب الإرهاب كما لو لم يكن هناك عمليّة سلام، واسعى وراء السّلام كما لو لم يكن هناك إرهاب”، بحيث لا يستطيع أي إستفزاز، مهما كان مصدره، أن يعرقل المفاوضات أو يخرجها عن مسارها.
رابعاً، مشاركة الجمهور في أي تقدم يتمّ إحرازه في المفاوضات وإطلاعهم كذلك عن بعض الصعوبات التي تواجهها عمليّة التفاوض دون توجيه أصابع الإتهام إلى أي طرف، وذلك حتى يتسنى للجمهور تنمية أو تطوير مصلحة في عملية التفاوض ويكون أيضا ً محضّرا ً للقيام بالتنازلات اللازمة من أجل التوصل إلى اتفاق .
خامساً، جعل التعاون الأمني شفافاً لإرسال رسالة واضحة مفادها أن التعاون الإسرائيلي الفلسطيني الكامل في جميع جوانب الأمن سيستمر، وسيتم التعامل مع أية مخالفات غيرمقصودة من أيّ من الطرفين بالتعاون التامّ بين أجهزة الأمن الداخلي.
سادساً، تزويد الصّحافة بأخبار دوريّة منتظمة لخلق حوار شعبي سيساعد في تنمية وتطوير إجماع وطني لدعم السلام ورفع التوقعات للتوصل إلى اتفاق.
سابعاً، زرع وتنمية الثقة، وذلك بالتأكيد على أن الحكومتين الإسرائيلية والفلسطينية، والمجتمعات المدنيّة لكل منهما، تلعب دورا ً بنّاءا ً طوال فترة المفاوضات لتعزيز الثقة المتبادلة التي لا غنىً عنها طوال فترة المفاوضات وما بعدها.
وتحقيقاً لهذه الغاية، يجب إتخاذ التدابير التالية بشكل ٍ منتظم من اليوم الأول الذي تبدأ فيه المفاوضات: تنظيم السياحة بين إسرائيل وفلسطين. تشجيع الفرق الرياضية الإسرائيلية والفلسطينية للتدريب وإجراء مباريات معاً. إعطاء الفرصة لطلاب إسرائيليين وفلسطينيين للإختلاط مع نظرائهم. استضافة المعارض الفنية المشتركة للفنانين الإسرائيليين والفلسطينيين. عقد ندوات مشتركة لمناقشة القضايا المتنازع عليها. دعم المجموعات النسائيّة في جهودها لإسماع صوتها للعالم والترويج للسّلام؛ وتنظيم وإدارة مناقشات عامة حول مائدة مستديرة بين علماء الدين والعلمانيين الإسرائيليين والفلسطينيين تهدف لتعزيز فهم أفضل للفروق الدقيقة في القضايا المختلف عليها.
ثامنا ً، تعديل الكتب المدرسية لتعكس الرواية التاريخية أكثر دقة لتخفيف الحاجز النفسي بين الجانبين، وخاصة تلك القضايا المرتبطة بتداعيات تاريخية أودينية، أو بالأمن الوطني، المترسّخة في أذهان ونفسيّة الجمهور.
تاسعا ً، إطلاع جميع الأحزاب أو الفصائل السياسية في إسرائيل وفلسطين حول عملية التفاوض لتخفيف بعض المعارضة الشديدة للكثير من التنازلات التي يتعين القيام بها.
وأخيراً، دعوة ممثلين رفيعي المستوى من الولايات المتحدة والدول العربية (وخاصة مصر والسعودية، والأردن)، فضلاً عن ممثلين أوروبيين من إنجلترا وفرنسا وألمانيا، لمراقبة وتسهيل وتشجيع فريقي التفاوض على المضي قدماً واستخدام مبادرة السلام العربية باعتبارها الإطار العام لسلام شامل.
وللتأكيد، حتى استعراض سريع للمفاوضات السابقة تبيّن بوضوح أن لا نتنياهو ولا عباس كان مستعدا ً أو على استعداد الآن لاتخاذ مثل هذه التدابير المهمّة، لا قبل ولا أثناء المفاوضات التي قد تتحدث مجلّدات كاملة عن افتقارها الكامل للإلتزام بالتوصل إلى اتفاق سلام.
فقط عندما يتبنّون هذه الشروط الأساسية سيثبتون التزامهم الحقيقي بصنع السلام. عدا ذلك، تعتبر كلّ خطبهم وتصريحاتهم العلنيّة جوفاء لأنها لا تزال تتخبط في نكران الذات وتحدي الواقع على حساب شعوبهم.