الحماقــة المزدوجـــــــــــــــــــة
لقد أظهرت الحرب الدائرة ما بين حماس وإسرائيل حماقة كلا الطرفين. فهدف حماس طويل الأمد لتدمير إسرائيل قد ارتدّ على حماس نفسها وقد يقضي أخيرا ً عليها. وبالعكس، فإن عدم استعداد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لإنهاء الإحتلال والحصار قد كشف أيضا ً عن حماقة سياسته.
والسخرية المحزنة هي أنّ قادة حماس يعلمون بأنهم لن يستطيعوا يوما ً تهديد وجود إسرائيل. وكلّ مرّة يتحدّون فيها إسرائيل يجلبون على الفلسطينيين في القطاع أهوال الحرب والدّمار والموت.
وعلى نحو مماثل، فإن نتنياهو لا يدرك بأن استمرار الإحتلال والحصار لا يمكن أن يدوم وليس هناك ما يسمّى “حدود آمنة” في عصر الصواريخ، مهما كانت هذه الحدود محصّنة.
دعوني أقول أوّلا ً بأنني أميّز ما بين حركة حماس المتعصّبة والعنيفة والمضلّلة من ناحية وبين الأغلبيّة الساحقة من الفلسطينيين في غزّة والضفّة الغربيّة اللذين يريدون العيش بسلام ٍ وكرامة.
الحرب الحاليّة تبيّن بوضوح قساوة حماس وأخلاقها المنتكسة باستخدامها الرّجال والنّساء والأطفال كدروع بشريّة لحماية مخابىء صواريخها وتعريض الفلسطينيين الأبرياء للفقر المدقع واليأس. وهذا وحده يشهد لحكم حماس المستبدّ الذي يضع نزعتها الدينيّة المنحرفة فوق أرواح أولئك الناس الذين من المفترض أنها ترغب في حمايتهم.
إنّ قادة حماس، مندفعين بالتعصّب الأعمى، يضحّون بسهولة بأرواح الأطفال الثمينة ويمنعون بقسوة الفلسطينيين العاديين المذعورين من مغادرة بيوتهم لتجنّب الموت والإصابات لهدف وحيد وهو جذب المزيد من الإدانة الدوليّة على إسرائيل. لقد جعلت حماس من استفزاز إسرائيل عادة ً لإنهاء الحصار عليها. وبدلا ً من تحقيق ذلك، تجد نفسها متورّطة في مواجهة ٍ دمويّة ٍ أخرى في حين تدفع الأغلبيّة العظمى من الفلسطينيين في القطاع ثمنا ً باهظا ً نتيجة ذلك.
كنت أدافع بعد قيام حكومة الوحدة الفلسطينيّة مباشرة ً بأن تمنح إسرائيل حماس فرصة ً لبيان استعدادها في الإلتزام، ولو بطريقة ٍ غير مباشرة، بشروط الرباعيًة الدوليّة الثلاثة، وهي بالتحديد: الإعتراف بإسرائيل، قبول الإتفاقيات السابقة ونبذ العنف وهو ما أكّدت عليه مرّة أخرى حكومة الوفاق الوطني. لكن حماس آثرت بدلا ً من ذلك أن تفوّت عليها فرصة تاريخيّة كانت ستسمح لحكومة الوفاق الوطني أن ترسم نهجا ً جديدا ً لرفع الحصار وتهيئة الظروف والأوضاع التي على أساسها يُقام تدريجيّا ً سلام دائم.
فبدلا ً من البناء على تنازلات إسرائيل في اتفاقيّة الهدنة عام 2012، اختارت حماس أن تتحدّى إسرائيل مرّة أخرى في محاولة ٍ لتعزيز شرعيتها السياسيّة الواهنة بين الفلسطينيين الذين لم يحصدوا حتّى الآن من تشدّد حماس سوى المزيد من الألم والكآبة. ففي حين كانت حماس قادرة على كسب تعاطف من الدول العربيّة في أوقات الأزمات، تجد حماس نفسها اليوم أكثر عزلة ً وفي ضائقة ٍ ماليّة أكثر من أيّ وقت ٍ مضى.
والدّول العربيّة المضجرة من التطرّف الإسلامي في الوقت الحاضر تهتف في الواقع بصمت لضربات القوات الإسرائيليّة على حماس. فلا غرابة في ذلك، فمصر كانت شامتة للجراح التي كبّدتها حماس لنفسها لأن الحكومة المصرية مشمئزّة من حماس التي لها ارتباطات قويّة بجماعة الإخوان المسلمين المحظورة في الوقت الحاضر.
ونتنياهو – من الناحية الأخرى – لم يحقّق نجاحا ً أفضل، فهو يصرّ على أنّ إسرائيل ليست قوّة محتلّة وأنها بحاجة على أيّة حال لحدود “قابلة للدفاع”. والحرب الحاليّة مع حماس قد أظهرت بوجه الخصوص مرّة أخرى غباء حجَته هذه مع إمطار آلاف الصواريخ على إسرائيل محدثة ً أضرارا ً ومجبرة ً آلاف الإسرائيليين على التدافع بذعر ٍ إلى الملاجىء.
والحجّة التي يطرحها السياسيّون من الجناح اليميني في إسرائيل هي أنّ الإنسحاب من غزّة في عام 2005 يبيّن بأنه لا يمكن الوثوق بالفلسطينيين لأنّ حماس تستخدم الأرض لشنّ هجومات على إسرائيل بدلا ً من بناء البنية التحتيّة لدولة. ولكن لو لم يكن الإنسحاب من غزّة متهوّرا ً وأحاديّ الجانب ومنفّذا ً بدون ترتيبات أمنيّة مسبقة وخطط تنمية اقتصاديّة وليس على مرحلة ٍ واحدة بل على مراحل، لكانت الصّورة مختلفة تماما ً اليوم. أجل، لو لم يحدث ذلك كلّه، لما استطاعت حماس أن تُطيح بالسلطة الفلسطينيّة – التي كانت آنذاك سيّدة الوضع في غزّة – وتمسك بزمام حكم القطاع.
وعلى أية حال، فإن قرار الإنسحاب من قطاع غزّة قد اتُّخذ على أساس فرضيّة تقول بأن فلسطين مقسّمة أكثر نفعا ً، أو بالأحرى أقلّ ضررا ً لإسرائيل وأنّ التخلّص من قطاع غزّة سيعفي إسرائيل من مسئولية إدارة منطقة ذات كثافة سكانيّة عالية ليس لإسرائيل في الواقع أطماعا ً إقليميّة فيها وليس لها صدى ً عقائديّا ً لدى اليهود أو أهميّة جيوإستراتيجيّة.
ويتمثّل قصر نظر الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة بوضوح في الإبقاء على الوضع الراهن الذي يعتبر غير مستديما ً وغير مستقرّا ً على ضوء الحصار المستمرّ على قطاع غزّة وعدم استعداد إسرائيل لتخفيفه في فترات الهدوء وعلى ضوء احتلال الضفّة الغربيّة أيضا ً والتوسّع المتواصل للإستيطان. وعليه كان من المتوقّع حدوث انفجار عنيف كما هو الحال في الحرب الحاليّة. وهنا أيضا ً تظهر الحماقة الإسرائيليّة على أشدّها إذ نرى مجموعة إسلاميّة متشدّدة وصغيرة الحجم نسبيّا ً قادرة على إلحاق دمار ٍ لا يُصدّق في جميع أرجاء إسرائيل وتواجه في نفس الوقت بجرأة أعظم قوّة عسكريّة شراسة ً في الشرق الأوسط.
ويجد الآن نتنياهو نفسه في مأزق. فهو ممزّق ما بين رغبته في سحق حماس وتدمير بنيتها التحتيّة من ناحية والضغط الدّولي المتنامي عليه لإنهاء العمليّات الحربيّة من الناحية الأخرى. ويشاهد العالم بأسره مرّة أخرى مأساة إغريقيّة، غير أنها هذه المرّة مأساة حقيقيّة ولا تُغتفر.
إنّها مأساة فعلا ً لأنّ كلا الطرفين، حماس وإسرائيل، مجرمتان بغطرستهما التي تجاوزت كلّ حدود وتتحدّى الحقيقة والواقع. أمّا الدّليل على الغطرسة الإسرائيليّة منذ أمد ٍ وحتّى يومنا الحاضر هو هذا الإحتلال الذي لم ينته ِ وإنكار إسرائيل على الفلسطينيين حقّ إقامة دولتهم المستقلّة. وأمّا بالنسبة لحماس، فهو إصرارها الشبيه بالإنتحار في السّعي وراء تدمير إسرائيل.
من الواضح بأنه يجب الآن فرض وقف فوري لإطلاق النار لتقديم المساعدات الإنسانيّة العاجلة من قبل مؤسسات الأمم المتحدة، ثمّ يجب أن يتبع الهدنة مفاوضات حول اتفاقيّة أكثر ديمومة ً، ولكن لن يكون لمثل هذه الإتفاقيّة أي معنى إلاّ إذا عالجت أسباب ونتائج هذا الصّراع المزمن من جذوره. والأزمة الحاليّة تعطي فرصة ً لاختراق ٍ جذري يتلخّص في النقاط التالية:
أوّلا ً، يجب عدم القيام بأية تنازلات لحماس إلاّ إذا قامت أوّلا ً بتسليم مستودعات ومخابىء أسلحتها لمجموعة ترعاها وتشرف عليها الأمم المتحدة مقابل تخفيف الحصار على القطاع ورفعه تدريجيّا ً.
ثانيا ً، يجب أن يشمل التنسيق الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينيّة قطاع غزّة أيضا ً وتحت إشراف حكومة الوحدة الفلسطينيّة، سامحا ً لقوّات الأمن الفلسطينيّة أن تكون مسئولة ً عن جميع المعابر من الجانب الغزّاوي.
ثالثا ً، يجب أن تتعهّد إسرائيل باستئناف مفاوضات السّلام بشكل ٍ جدّي وأن تلزم نفسها مرّة أخرى بحلّ الدولتين لتعطي جميع الفلسطينيين الأمل بأن الإحتلال سينتهي أخيرا ً.
أنا لست ساذجا ً لأفترض بأن حماس وإسرائيل ستقبلان فورا ً مثل هذا العرض، ولكن حان الوقت لعصر كلا الطرفين لأنّه لا يجوز لهما بعد اليوم “أخذ كلّ شيء” أو “اللعب على الحبلين”، بمعنى أنّه لا يجوز لحماس الحصول على حريّة الحركة للناس والبضائع من وإلى قطاع غزّة في الوقت الذي تستعدّ فيه للمعركة القادمة. وبالنسبة لإسرائيل، لا يجوز لها الإستمرار في التوسّع بالإستيطان وإبقاء الإحتلال في الضفة الغربيّة والحصار على قطاع غزّة.
فإذا أراد المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة أن يتجنّب تكرار هذه السيناريوهات الكارثيّة، عليه أن يصرّ على هذه الشّروط مهما بدت عسيرة. وبالفعل، ما لم تتغيّر هذه الديناميّات جذريّا ً سيدفع الإسرائيليّون والفلسطينيّون الثمن باهظا ً، فقد حان الوقت فعلا ً لكشف حماقة الطرفين.
سيكتشف كلا الطرفين بأن حماقتهما ستقودهما إلى مصير ٍ وصفه الكاتب التراجيدي الإغريقي أشيلوس بقوله:” ستكون التضحيات الجديدة عظيمة يشهد لها تخثّر الدّماء … وأكوام ضخمة من العظام ستُرى حتّى الجيل الثالث بالعين البشريّة كتحذيرات ٍ صامتة تقول بأن أولئك الذين كُتب عليهم الموت يجب ألاّ يتجاوزوا حدود أنفسهم: عندما يزهر الزّهو العنيد فإنّه ينضج خداع الذات والغلّة الوحيدة ستكون فيضا ً من الدّموع”.