المنسيّون
تصوّر وجه صبيّ صغير يسير ماسكا ً بيد والده، وفجأة ً يسقط الأب على الأرض مدرّجا ً بدمائه من رصاصة ٍ في رأسه، ويصرخ الطفل من الفزع:”يا إلهي، يا إلهي ! بابا، بابا.. لا تتركني..لا، لا .. أرجوك، أرجوك لا تتركني بهذه الطريقة !”. وتفجّر في هذه اللحظة رصاصة أخرى رأس الطفل، ويسقط فوق جثة والده الهامدة. لقد توحّد الإثنان الآن في هذا الموت المأساوي الرهيب، غير أنّ الموت أفضل من الجحيم الذي خلّفاه وراءهما.
هذا مشهد من مئات الآلاف من المشاهد أو القصص لأطفال من سوريا .. قصص تمرّ عبر أبواب الجحيم تنتظر من يرويها للناس: التجويع حتّى الموت، والحرق حتّى التفحّم، والقتل خنقا ً بالغازات السامّة المميتة، والإعدام الجماعي والقتل بالرّصاص والتعذيب والتيتيم والتشريد، والمحظوظون منهم يصبحون لاجئين مشرّدين يواجهون مستقبلا ً أكثر قتامة من أيّ وقت ٍ مضى.
وجزّار دمشق، بشّار الأسد، جالس على عرشه معتقدا ً أنّه ورث شرعا ً البلد بأكملها وأنّ أبناء الشعب السّوري عبيد ٌ فقط تابعون له يأتمرون بإمرته ويجب عليهم الخضوع لنزواته وعدم التجرّؤ على رفع رؤوسهم والوقوف بشموخ. لقد سحق الأسد مطلبهم للحريّة ولحقوق الإنسان الأساسيّة بدون رحمة، فإمّا أن تطيع أو تموت. وكثيرون فضّلوا الموت على العبوديّة وعلى العيش حياة بذلّ ٍ ومهانة.
سيُذكر بشّار الأسد، مثله مثل والده، في الصفحات السّوداء من تاريخ البشريّة كحاكم مستبدّ متعطش للدّماء وعديم الشفقة والرّحمة. أجل، كحاكم تعطّشه لمزيد من الغنى والسلطة لا ينطفىء أبدا ً.
عدم القيام منذ البداية بأي شيء تقريبا ً لإنهاء نزيف الدمّ في سوريا لم يكن أبدا ً خيارا ً. فالتلكّؤ بسبب الحرب المضلّلة في العراق التي قتلت عشرات الآلاف من العراقيين وآلاف أيضا ً من جنودنا، أو الخوف من أن تقع الأسلحة في الأيدي الخاطئة هي أعذار واهية لعدم العمل على وقف مذابح أعداد لا تحصى من الأطفال السوريين الأبرياء.
تصوّر، يا فخامة الرئيس أوباما، عائلة بأكملها تُحصد برمي الرّصاص وطفل صغير ملقى ً على الأرض بجوار أمّه يلفظ أنفاسه الأخيرة ويناديها بصوت ٍ خافت:”ماما، ماما، ساعديني !”، ولكن لا حياة لمن تنادي ! وصوت الطفل يخفت شيئا ً فشيئا ً ..ثمّ يستسلم لجروحه ويموت.
محاولة التوصّل لاتفاقيّة مع روسيا لم تكن سوى مهزلة من اليوم الأول. فالرئيس فلاديمير بوتين حاكم مستبدّ، فظّ لا يرحم ومنافق ولا يتردّد أبدا ً عن فعل أيّ شيء ويفتقر لأي إحساس من آداب السلوك الإنساني، فطموحاته في الشرق الأوسط تفوق حياة كلّ طفل سوري. هو أخلاقيّا ً مفلس ولا يلتزم بأية قواعد أو قوانين أو نظام معيّن. وكونه فاسد في الصّميم، فالشعب السّوري بالنسبة له ليسوا سوى عبيدا ً يمكن الإستغناء عنهم وبدون عواقب. فماذا تقول يا سيّد بوتين للطيم ٍ شاهد لتوّه والديه يُذبحان أمامه ذبح النّعاج..حناجر مقطوعة وجثث شوّهتها كلاب الأسد المسعورة ؟ بنحيب ٍ يسألك العالم وبيأس لا حدود له:”لماذا لم تمنع قتل هؤلاء بهذه الفظاعة ؟”.
يا إلهي كيف أصبح الرّئيس أوباما مجرّد لعبة في أيدي بوتين، وهذا الأخير يضحك ملء شدقيه ومن قلبه عليه. لقد وقع أوباما في مصيدة خطة بوتين حول نزع الأسلحة الكيميائيّة السوريّة في حين بقي الأسد في السلطة وهو يستعيد حاليّا ً المزيد من الأراضي والمواقع. وأثناء ذلك تمّ تشريد المزيد من عشرات الآلاف من الأطفال السوريين عن ديارهم، كثيرون منهم بإصابات ٍ خطيرة، ومنهم من مات جوعا ً أو قُتل، هذا ناهيك عن البلد التي أصبحت خرابة. والأسد ينظر لذلك كلّه وابتسامة خبيثة قذرة على شفتيه.
وأنت يا آية الله خامئني ! أنت رجل دين بمعتقدات وقناعات عميقة راسخة، غير أنك ترسل آلات قتل وسفّاحين لتشويه وقتل الأطفال السوريين، فكيف تجرؤ على الحطّ من مجد وعزّة الإسلام بقتل أطفالٍ أبرياء باسم الله ؟!! هل رأيت في عينيّ طفل ٍ يموت جوعا ً ويحدّق بدون هدف ٍ بعينين غائرتين وصوته يبهت قبل أن يستطيع التفوّه بهمس:”لماذا عليّ أن أموت بهذه الطريقة ؟ ولأيّ هدف ؟ ولماذا ولدت أصلا ً على هذه الأرض ؟”.
عندما تصبح حياة الإنسان بدون قيمة يستمرّ الشرّ في زحفه ويلتهم المزيد من الأرواح في صحوته. ويصبح موت الأطفال مجرّد أرقام.. إحصائيّات لا قيمة لها ولا تترك أثرا ً في ضمائر المسئولين. فماذا عن ضميرك يا آية الله خامئني ؟!! هل تعلم بأن عدد الأطفال المتضررين من هذه الحرب قد ارتفع إلى أكثر من الضعف خلال عام ٍ واحد ٍ فقط، أي منذ شهر مارس/آذار عام 2013، وبالتحديد من 2.3 مليون إلى أكثر من 5.5 مليون طفل ؟ وأنّ عدد الأطفال الذين شرّدوا من ديارهم داخل سوريا نفسها قد فاق الثلاثة أضعاف، أي من 920.000 لحوالي 3 ملايين طفل ؟ أمّا عدد الأطفال اللآجئين فقد ازداد أربعة أضعاف، أي من 260.000 إلى ما يزيد عن 1.2 مليون طفل، منهم 425.000 طفل ما دون الخامسة من العمر ؟!!
بأية كلمات تصف الفظاعات والمذابح والقسوة والبربريّة التي تقترف في سوريا ؟ وهذه كلّها تُقابل باللآمبالاة وبالسّخافة. لا يستطيع القادة والزّعماء الغربيّون أن يرفعوا رؤوسهم بعد اليوم لأنهم نسوا التاريخ وفقدوا المبادىء الأساسيّة للسلوك الإنساني.
سيادة الرئيس أوباما، ليس من الحكمة والبصيرة أن تقول بأنك كنت قادرا ً على إنهاء المأساة السوريّة بعد أسابيع فقط من اندلاع أعمال العنف. إنّ التقاسع في اتخاذ أيّ إجراء قد أدّى إلى الكارثة الحاليّة المتفاقمة وسوريا في طريقها إلى التفكّك التامّ كدولة. فعواقب عدم فعل أيّ شيء يفوق بكثير عواقب أن تدع الحرب الأهليّة تلتهم ما تبقّى من سوريا وشعبها.
ما زال هناك على أية حال فرصة واحدة أخيرة. لا تهين، سيادة الرئيس، الشعب السّوري وتعلّق آماله ومستقبله على مؤتمرات جنيف 3 أو 4 للبحث عن حلّ سياسي غامض كتغطية لاستمرارك في عدم فعلك أي شيء. وتسليح الثوار فقط (الذين تمّ التدقيق مسبّقا ً في هوياتهم) لم يعد يجدي نفعا ً. يجب على الولايات المتحدة بالتنسيق مع حلفائها الغربيين أن تفرض فورا ً منطقة حظر جوّي وتدمّر مدرجات مطارات الأسد وتعطّل العدد الأكبر من منشآته العسكريّة وأنظمة دفاعه الجوّي وتفكّك قوات مشاته وتفتح ممرّات لإدخال المواد الغذائيّة والأدوية للأحياء والمدن المحاصرة، وهذا كلّه دون الحاجة إلى إرساء قارب ٍ أمريكيّ واحد على الشواطىء السوريّة.
هناك في إدارة أوباما من يقول بأنه ولمنع ضرر أكبر من اجتياح البلد، قد تكون سوريا الآن بوجود الأسد أفضل من عدم وجوده. هؤلاء عميان لا يبصرون، فالفوضى التي قد تلحق الإطاحة بالأسد ستبهت مقارنة ً بما سيحدث لسوريا إن استمرّت الحرب الأهلية مدة عامين أو ثلاثة أخرى، إن لم يكن لعقد ٍ من الزّمن أو أكثر.
لا تنسوا أبدا ً صور البنات الصغار، المصابات والمشوّهات، واللواتي يتضوّرن جوعا ً ويمتن موتا ً بطيئا ً. على الجميع مواجهة الأطفال الباكين وأؤلئك الذين يبكون بدون دموع، لأنّ الدموع جفّت في مآقيهم، واللذين جفّت أجسادهم أيضا ً وصدى نحيبهم وعويلهم يدقّ كالناقوس في عالم ٍ أصابه الجنون.
حان الوقت لأكبر قوّة في العالم أن تضع نهاية لهذه الأعمال الوحشيّة والبربريّة وللآمبالاة الصارخة لحياة الإنسان. فيا سيادة الرئيس أوباما، إن لم تنه ِ الآن مأساة الشعب السوري، ستلاحقنا لعنة هذه المأساة لسنوات ٍ قادمة. فالمسئولية تقع بالدرجة الأولى على كاهلك.
سيقطّر الموت الفاجع لأطفال سوريا المنسيين دما ً في ضمائرنا، وعلينا أن نطيق ذلك بألم لحين أن نرتقي ونتحمّل مسئوليتنا الأخلاقيّة.