العقيدة الجيوستراتيجية الجديدة للسعوديين
إن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران والمبادرات الدبلوماسية السعودية تجاه الرئيس السوري بشار الأسد هي جزء لا يتجزأ من إعادة التقييم الشامل للسعوديين لمصالحهم الجيوستراتيجية التي تقوم على ثلاثة أهداف مميزة هي: الإستقرار الإقليمي ، ممارسة نفوذ إقليمي ودولي أكبر واستمرار الصادرات النفطية بدون إنقطاع. هذه الأهداف الأساسية الثلاثة مرتبطة بإحكام وهي في مقدور السعوديين.
الإستقرار الإقليمي: كان لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإيران بوساطة الصين دورًا محوريًا في استراتيجيتها. لقد توصل كلا البلدين إلى نتيجة مفادها أنه على الرغم من العداء والتنافس الإقليمي، كلا البلدين يجب أن يتعايشا بشكل أو بآخر. لقد أدركا أن الحرب التي استمرت ثماني سنوات في اليمن لم تفعل شيئًا لتحسين مكانتهما الإقليمية. لقد كانت الحرب قضية خاسرًة للجانبين. فقد فشلت إيران في إقامة موطئ قدم قوي ودائم في شبه الجزيرة العربية على الرغم من استمرار إيران في دعم الحوثيين ، غير أنه لا يساورها أي وهم في احتمال تحويل اليمن إلى قمر إيراني يوما ما.
ومن ناحية أخرى، بعد أن منعت المملكة العربية السعودية إيران من الهيمنة على اليمن ، لم تعد تشعر السعودية أن استمرار الحرب سيحقق أي فائدة إضافية بغض النظر عن مقدار الأموال والموارد البشرية التي تنفقها في المجهود الحربي. وهذا ما يفسر سبب اتفاقهما على وقف إطلاق النار ومدده إلى أن يتمكنا من إيجاد حل مقبول من الطرفين. ومن شأن استئناف العلاقات الدبلوماسية تسريع عملية المصالحة هذه.
وغني عن القول أن هذا ليس أمرا مضمونًا لأن العلاقات العدائية بين البلدين عميقة ، لكن مصلحتهما الوطنية الناتجة عن تنافرهما تتخطى هذه المخاوف في الوقت الحالي. يعلم كلا الجانبين أن الأمر سيستغرق وقتًا لتطبيع العلاقات تمامًا مع اختبار النوايا الحقيقية لكل منهما وكذلك سلوكهما.
وللسبب نفسه ، قرر السعوديون أن الرئيس السوري الأسد لن يذهب إلى أي مكان. لقد نجا من الحرب الأكثر تدميراً منذ الحرب العالمية الأخيرة ، وإن كان ذلك على حساب تدمير نصف البلاد بينما تسبب في معاناة هائلة لما يقرب من نصف سكان سوريا. لا يزال الملايين من اللاجئين السوريين يقبعون في مخيمات في العديد من بلدان المنطقة ، وخاصة في تركيا ، ولا يزال ملايين آخرون نازحين داخليًا. وبالتالي ، فإن إصلاح العلاقات مع سوريا سيكون مكسبًا للسعوديين لأن هذا لن يؤدي إلا إلى تعزيز نفوذهم.
التأثير الإقليمي: يدرك السعوديون تمامًا أنهم لا يستطيعون تعزيز نفوذهم الإقليمي بالبقاء منفصلين عن جيرانهم. فبالنظر إلى برنامج الأسلحة النووية الإيراني والمخاوف الشديدة للسعوديين ، فإن استئناف العلاقات الدبلوماسية يمكن أن يخفف من تلك المخاوف. ولكن كيف يمكن للسعوديين المساعدة في تغيير ديناميكية برنامج إيران النووي، يبقى محلّ تساؤل. ومع ذلك ، هناك شيء واحد مؤكد: لقد وضع السعوديون أنفسهم حيث يمكنهم باحتمال كبير إعادة إيران إلى التفاوض مع الولايات المتحدة ، وإن كان ذلك بشكل غير مباشر. وسواء نجحوا أم لا ، فلا يزال بإمكانهم ممارسة نفوذ أكبر في هذه المنطقة من خلال إشراك إيران ، وهو ما لم يكن بإمكانهم من قبل.
ولمزيد من ممارسة النفوذ الإقليمي ، قرر السعوديون بحكمة دعوة الأسد السوري إلى قمة جامعة الدول العربية التي تستضيفها الرياض في شهرمايو/ أيار. تم تعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية في عام 2011 ، وفرضت عليها عقوبات من قبل العديد من القوى الغربية والدول العربية بسبب هجوم الأسد العنيف ضد المتظاهرين الذي أدى إلى حرب أهلية منهكة وطويلة الأمد قتل خلالها أكثر من 600 ألف شخص.
ومن المؤكد أن الدعوة السعودية تشير إلى تطور بالغ الأهمية من شأنه أن يؤدي إلى إعادة اندماج سوريا في الحظيرة العربية – وهي خطوة من شأنها أن تؤدي إلى استئناف العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين البلدين. ولا شك أن دولاً عربية أخرى ستحذو حذوها ، الأمر الذي يعزز دور السعودية القيادي بين الدول العربية الشقيقة.
ومن خلال إعادة العلاقات الدبلوماسية مع كل من إيران وسوريا ، سيكون للسعوديين رأي في أي تسوية مستقبلية للصراع السوري ، حيث لا تزال إيران تمارس نفوذًا كبيرًا. وبالنظر إلى أن السعوديين لديهم جيوب عميقة وأن النظام السوري يعاني من ضغوط اقتصادية شديدة ويحتاج إلى عشرات المليارات من الدولارات لإعادة البناء ، يمكن للسعوديين أن يفعلوا أكثر بكثير من إيران لتقديم مساعدات مالية لسوريا. وبالطبع ، يأتي التأثير مع المساعدة المالية.
الرئيس الأسد أكثر من حريص على التعاون ليس فقط من أجل المساعدة المالية الهامة للغاية ، ولكن أيضًا لبدء عملية إنهاء عزلة دمشق ، حيث أن إعادة العلاقات الدبلوماسية بين سوريا والدول العربية الأخرى ستسهم بشكل كبير في تهدئة المنطقة وجعلها ممكنة على السعودية أن تحافظ على قدرتها على إمداد النفط بكميات ضخمة دون انقطاع.
تصدير النفط دون انقطاع: بالنسبة للسعوديين ، فإن الاستمرار في تصدير النفط بكميات هائلة والعائدات التي تدرها هو أمر أساسي لهدفهم في أن يصبحوا لاعبًا إقليميًا يحسب له حساب. إن امتلاك أكبر مخزون نفط يمنح السعوديين مزايا كبيرة ، حيث يعلم الكثير من عملاء النفط أنهم يستطيعون الاعتماد على السعوديين في إمدادات الطاقة لسنوات عديدة قادمة. وبالتالي، فإن استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إيران وسوريا ومساعدة الدول العربية الأخرى مالياً، مثل مصر ، ستساهم على الدوام في استقرار المنطقة وتسمح بدورها للسعوديين بمواصلة صادراتها النفطية بأقل قدر من الانقطاعات.
ومع ذلك ، لن يؤثر أي مما ورد أعلاه سلبًا على علاقة السعوديين بالولايات المتحدة ولا على علاقاتهم الضمنية مع إسرائيل. يدرك السعوديون تمامًا مدى أهمية دور الولايات المتحدة في كلاهما بصفتها المورد الرئيسي للأسلحة للمملكة والضامن الأمني النهائي للمنطقة. أضف إلى ذلك ، وبغض النظر عن خلافها مع إسرائيل فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني ، فإن تعاون المملكة العربية السعودية الضمني مع إسرائيل بشأن تبادل المعلومات الاستخباراتية ونقل التكنولوجيا الإسرائيلية هي جزء لا يتجزأ من هدفها الجيوستراتيجي وسيبقى كذلك.
تريد الرياض تطوير اختراق لكل من خصومها السابقين بما في ذلك إيران وسوريا مع الحفاظ على علاقاتها الحالية مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وهذا بغض النظر عن فترات الصعود والهبوط بينهما. وفي الوقت نفسه تعمل الرياض على تعزيز علاقاتها الثنائية مع الصين ، ثاني أكبر قوة عظمى في العالم التي تصدر لها المملكة العربية السعودية ربع إنتاجها النفطي السنوي (بقيمة 43.9 مليار دولار في عام 2021 من 161.7 مليار دولار من إجمالي الصادرات ككلّ) ، بينما أصبحت الزعيمة الفعلية للدول العربية. وللتأكيد، فإن السعوديين تمكنوا حتى الآن من استخدام ثروتهم بنجاح لصالحهم.
وغني عن القول ، مع ذلك ، أن العديد من الأحداث الخارجية والإقليمية يمكن أن تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على الحسابات الجيوستراتيجية الجديدة للمملكة العربية السعودية ، بما في ذلك حرب أوكرانيا والتوتر المتزايد بين الولايات المتحدة والصين وروسيا ، والصراع الإسرائيلي – الفلسطيني المستمر. ومع ذلك ، وتحت أي ظرف من الظروف ، سيستفيد السعوديون حيث أن الوقت والظروف إلى جانبهم.