ترامب لا يجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى، بل إنه يفكّك عظمتها لبنة لبنة
إن الأوامر التنفيذية التي أصدرها ترامب في عاصفة ثلجية خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من رئاسته غير دستورية وغير إنسانية وتتجاوز حدود العبث. إنها تدمّر القيم التي تمسّك بها الأمريكيون وضحّوا بأنفسهم من أجلها، والتي يعتزم ترامب تدميرها الآن.
إنه لأمر مفجع أن نشاهد ترامب يوقّع بلا مبالاة على عشرات الأوامر التنفيذية غير الدستورية والتي تتحدى القوانين القائمة وتؤثر سلبًا على حياة الملايين من الناس، وخاصة الشباب. من الواضح تمامًا أنه يريد أن يثبت مدى قوته وأن لا شيء سيقف في طريقه لتشكيل أمريكا على صورته. ولكن من الواضح أيضًا أنه لا يهتم كثيرًا بالعواقب والتداعيات المترتبة على أفعاله الخبيثة، والتي إن وجدت، فإنها تخون ما كانت أمريكا تمثله لمدة قرنين ونصف.
لحسن الحظ تعمل السلطة القضائية في هذا البلد العظيم إلى حد كبير يفوق النزاع. لقد أصدر العديد من القضاة الفيدراليين أوامر قضائية تمنع العديد من أوامر ترامب. وقد عبّر المدعي العام لولاية أوريجون عن الأمر بإيجاز عندما صرّح مؤخرًا: “لا ينبغي لأي رئيس أن يكون قادرًا على إعادة كتابة أكثر من 120 عامًا من تفسير الدستور بضربة قلم. هذا هو التهديد الوجودي”.
تجميد المساعدات الخارجية
إن مشاهدة التأثير المدمّر لأمر ترامب التنفيذي بتجميد كل المساعدات الخارجية تقريبًا أمر مفجع. لقد ترك قراره ملايين الأطفال المعرّضين للخطر دون الوصول إلى الغذاء المنقذ للحياة في جميع أنحاء العالم. أكثر من 1.2 مليون شخص في السودان كانوا مدعومين ببرامج ممولة من الولايات المتحدة أصبحوا الآن دون الوصول إلى الغذاء والأدوية الأساسية والمياه النظيفة، والتي يحتاجون إليها للبقاء على قيد الحياة.
والعواقب مدمّرة بنفس القدر في مخيمات اللاجئين في إثيوبيا، حيث اعتمد 3000 طفل يعانون من سوء التغذية على الجهود التي تدعمها الولايات المتحدة من خلال مؤسسة “العمل ضد الجوع”
(Action Against Hunger). إن قرار ترامب اللإنساني ليس قاسي القلب فحسب؛ بل إنه يحطم المثل العليا للتعاطف والقيادة التي كانت تعرّف الولايات المتحدة ذات يوم. إن الأمة التي قادت في وقت ما حملة مكافحة الجوع وإنقاذ الأرواح، أصبحت الآن، تحت هجوم ترامب الوحشي، تتخلى عن ملايين الأطفال الأبرياء للجوع والموت المحتوم. إن تصرّفه المتعمّد يقلّل من عظمة أمريكا بدلاً من الحفاظ عليها.
حرية التعبير
إن الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب والذي استهدف الطلاب الدوليين الذين شاركوا في الإحتجاجات ضد الحرب في غزة وترحيلهم بتهمة دعم منظمة حماس الإرهابية أمر مقلق للغاية. هذا الأمر التنفيذي لا يتعلق فقط بترحيل الطلاب الأجانب؛ بل يتعلق بإسكات المعارضة. قد يخشى الطلاب الآن الترحيل لمجرد ممارستهم لحقهم في التحدث ضد الظلم والفظائع. ووصف الإحتجاجات السلمية بأنها دعم محتمل للإرهاب يقوّض القيم الديمقراطية ويخنق حرية التعبير حول القضايا الحرجة لحقوق الإنسان والعدالة، وهي السمة المميّزة للدكتاتورية، ولا ينبغي لأي أمريكي أن يتسامح مع ذلك.
وعلاوة على ذلك، من الضروري توضيح أن ليس كلّ الطلاب الذين احتجّوا هم طلاب أجانب. فقد شارك العديد من المواطنين الأمريكيين والطلاب اليهود وغير اليهود في هذه الإحتجاجات وتحدثوا ضد الحرب في غزة، فهل سيتم ترحيلهم هم أيضًا ؟ وإلى أين ؟ إن حقوق حريّة التعبير والصحافة والإحتجاج السلمي متجذّرة في الدستور الأمريكي. والآن، لدينا ديكتاتور مبتدئ يريد اغتصاب هذه الحقوق الأساسية التي تدعم راية عظمة أمريكا.
الهجرة
إن تصرّفات ترامب لإغلاق مسارات الهجرة الآمنة والقانونية هي هجوم مباشر على حقوق وكرامة الأشخاص الفارين من الحرب والإضطهاد والفقر. ومن خلال تعليق إعادة توطين اللاجئين وإنهاء برامج الإفراج المشروط وإلغاء جهود بايدن لإنشاء عمليات لجوء منظمة، يعرّض ترامب حياة أناس لا حصر لهم للخطر ويدفع الأفراد اليائسين إلى أيدي المتاجرين بالبشر والرحلات الخطرة. هذا لا يتعلق بالأمن؛ إنها استراتيجية سياسية قاسية وغير إنسانية تتجاهل الإلتزامات الإنسانية وتحط من قيمنا الأخلاقية.
والواقع أن سياسات ترامب القاسية في التعامل مع الهجرة هي أكثر من مجرد قضية محلية. إن حملة الترحيل الجماعي التي يشنها ترامب لا تمزّق الأسر في الولايات المتحدة فحسب، بل إنها تتسبب أيضًا في سلسلة من ردود الفعل المروعة في البلدان التي ينحدر منها هؤلاء المهاجرون، مثل زيادة الفقر بسبب انخفاض التحويلات المالية وإرهاق الخدمات العامة مثل المدارس بسبب أعداد كبيرة من المهاجرين العائدين.
وتحذّر منظمات مثل معهد سياسة الهجرة من الضغوط التي ستفرضها هذه السياسة على الموارد وحياة الأشخاص الضعفاء الذين يسعون إلى اللجوء. ولا يتعلق الأمر بالحدود فحسب؛ بل يتعلق أيضًا بمعاملة الأرواح البشرية كرهائن سياسيين. إن المهاجرين هم من جعلوا أمريكا عظيمة، وترامب يحطم هذا الإرث الأمريكي الفريد.
المواطنة بالميلاد
في أول يوم له في منصبه، وقّع ترامب على أمر تنفيذي معادٍ للأجانب في محاولة لإلغاء المواطنة بالميلاد المنصوص عليها في التعديل الرابع عشر للدستور. وتزعم محاولته لإعادة تعريف معنى التعديل الرابع عشر من جانب واحد أن المواطنة بالميلاد لا تمتد إلى أولئك الذين ولدوا في الولايات المتحدة وكانت أمهاتهم حاضرات بشكل غير قانوني أو مجرد زائرات أو على تأشيرة طالب أو عمل وقت ولادتهم.
هذا التفسير غير عادي بشكل خاص ويتناقض مع السابقة الراسخة التي أرساها قرار الولايات المتحدة ضد وونغ كيم آرك عام 1898 والذي وجد أن أي شخص يولد داخل الولايات المتحدة يحقّ له الحصول على الجنسية. وفي حين أنه من المرجح للغاية أن ينهار الأمر التنفيذي لترامب في ظل التحديات القانونية، فإن الحقيقة هي أن هذا لا يهمّ تقريبًا. والنتيجة الحقيقية لهذا الأمر الخارج عن الحدود والمشؤوم هي زرع التعصّب والإرتباك وتمزيق الشعب الأمريكي أكثر. يجب أن يتذكر ترامب أن حقّ الميلاد مقدّس؛ لا يستطيع هو ولا أي شخص آخر التلاعب به باسم فكرته الزائفة عن جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى.
حقوق المتحولين جنسياً
إن هجمات ترامب المستمرة على وجود الأشخاص المتحولين جنسياً مخزية وقاسية بشكل واضح. يحدّد 1.6 مليون بالغ وشاب في الولايات المتحدة ممّن تبلغ أعمارهم 13 عامًا أو أكثر أنفسهم كمتحولين جنسياً (بما في ذلك الرجال المتحولون جنسياً والنساء المتحولات جنسياً والأفراد غير المطابقين للجنس) وهؤلاء يمثلون أقل من واحد في المائة من إجمالي السكان. والجدير بالذكر أن نسبة وعدد الأشخاص الذين يحدّدون أنفسهم كمتحوّلين جنسياً بقيا ثابتين بمرور الوقت وفقًا لمعهد ويليامز في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، مما يدحض الإدعاءات التي تزعم عكس ذلك. في الواقع، كان الأشخاص المتحولون جنسياً موجودين عبر التاريخ عبر العديد من الثقافات.
إن استهداف مثل هذا الجزء الصغير من السكان هو تعصّب واضح وبسيط، وهو ما يجسده ترامب عندما يحاول تشريع إبعادهم عن الوجود تمامًا، وإلزام أي هويات صادرة عن الحكومة بإدراج جنس ثنائي صارم بدلاً من الهوية الجنسية. إنه يتجاهل حقيقة أن الجنس البيولوجي نفسه ليس ثنائيًا صارمًا. إن هذا الأمر يهدف إلى تعريض المتحولين جنسياً لخطر شديد، حيث تعرّض العديد منهم بالفعل لاعتداءات لفظية وجسدية بسبب عدم تطابق تعبيرهم عن جنسهم مع ما يعتقده الآخرون بشكل صحيح أو غير صحيح عن جنسهم البيولوجي.
المتحوّلون جنسياً لديهم كلّ الحق في التعبير عن هويتهم الجنسية بالطريقة التي يرونها مناسبة، ولا يجوز لأي ّ حكومة أن تشرّع كيف ينبغي أن يعيش هؤلاء الأفراد حياتهم. إن حقوقهم، بل وسلامتهم، مهددة الآن كما لم تكن من قبل بفضل أوامر ترامب الفاحشة.
سوف يتم الطعن في العديد من أوامر ترامب غير الشرعية عن طريق القانون وستنتهي في المحكمة العليا. والسؤال هو، هل سيلتزم قضاة المحكمة العليا المحافظون بالأغلبية بنزاهتهم المقدسة لحماية والدفاع عن الدستور الذي أقسموا على حمايته ودعمه، أم ينحنون لأهواء مجرم استبدادي يستخدم أوامره التنفيذية لإشباع شهوته الشرهة للسلطة ؟ وعلى الرغم من أنه يحاول حاليًا تجاهل أوامر المحكمة الفيدرالية، فإن السؤال هو إلى أي مدى سيذهب ترامب، في الواقع، لفرض إرادته الإستبدادية.
إذا سُمح لترامب بمواصلة أجندته الكارثية، فإنه لن يجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى. أمريكا بالفعل أمة عظيمة لا مثيل لها. وما يفعله ترامب هو تفكيك عظمة أمريكا لبنة لبنة وهدم الحلم الأمريكي الذي يتوق عدد لا يحصى من الناس القريبين والبعيدين إلى تجربته.
يجب علينا أن نقف في وجه هذه الأعمال البغيضة وغير القانونية ونثبت أن الشعب الأمريكي متّحد في السعي الأكثر جدية لحماية ديمقراطيتنا والقيم التي تعتزّ بها هذه البلاد منذ ما يقرب من 250 عامًا.