All Writings
أبريل 30, 2018

التنعم في ظلال الحقبة العثمانية

من الصعب فهم السبب الذي دفع الرئيس التركي أردوغان – الذي شرع في أكثر الإصلاحات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية إثارة للإعجاب خلال السنوات العشر الأولى له في المنصب – إلى الإنفلاب والتدمير المنهجي لكل ما حقّقه. لقد حوَّل البلاد بذلك إلى دولة بوليسية حيث القومية الإسلامية هي العليا. ليس سراً أن أردوغان رجل طموح يطمح لأن يصبح قائد العالم الإسلامي السني ويحلم باستعادة “مجد” الإمبراطورية العثمانية. وهو لا يدخر جهدا لتوسيع أجنحة تركيا فوق الدول التي يمكنه التأثير فيها واستغلالها في الشرق الأوسط والقوقاز.

حتى استعراض سريع لأفعاله في الداخل والخارج يثبت بشكل لا لبس فيه أن هناك نمطًا لجنونه لإحياء ليس فقط الصور ولكن تأثير الإمبراطورية العثمانية المتلاشية التي ماتت بشكل مخزٍ في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وسيتمّ دوما ً تذكّرها بآخر فصل ٍ سيّء السمعة وفاضح من تاريخها، ألا وهو الإبادة الجماعية للشعب الأرمني.

وهكذا ، عندما يعيد اردوغان سرد روعة العصر العثماني المزعومة، ينبغي أن يكون له تأثير مروعاً على أي بلد يسعى أردوغان إلى علاقات ثنائية نشطة معه ، لأن هناك دائما نوايا شريرة وراء مبادراته.

ولتوسيع نفوذه الإقليمي ، اتبع أردوغان آثار العثمانيين من خلال اتخاذ إجراءات قسرية غير عادية لتعزيز سلطاته المطلقة في بلاده. ففي أعقاب الإنقلاب العسكري الفاشل في يوليو / تموز 2016 ، قام بلا رحمة باتخاذ إجراءات صارمة ضد خصومه السياسيين الحقيقيين والمزعومين ، بما في ذلك أي شخص يشتبه في انتمائه إلى عدوه اللدود فتح الله غولن الذي اتهمه بالوقوف وراء الإنقلاب. وتولى السيطرة على المؤسسات المدنية والحكومية من خلال تمديد قوانين الطوارئ مرارا وتكرارا.

وبدلاً من الإستمرار في تعزيز الحريات وحقوق الإنسان لتشجيع الإبداع والقدرة التنافسية ، فإنه يخنق روح الإبداعات الطبيعية في الشعب التركي وقدراته على التفوق.

ومع وجود معارضة ضئيلة أو معدومة في الداخل ، تحرك أردوغان لتعزيز قواعده العسكرية العثمانية في قطر والصومال والعلاقات العسكرية مع تونس. والآن هو يخطط لبناء منشأة عسكرية أخرى على جزيرة سواكن السودانية التي تقع في موقع استراتيجي. ويريد أردوغان إستغلال الجزيرة كموقع عسكري بالطريقة التي إستُغلت بها خلال العهد العثماني. وتعتقد مصر والسعودية أن مغامرة أردوغان العسكرية سوف تزعزع توازن القوى الإقليمي الذي هو وصفة لعدم الإستقرار والعنف المتواصل.

وهكذا ، وبدلاً من تخفيف محنة حوالي 20 مليون تركي تحت خط الفقر ، ينفق أردوغان المليارات على مآثره الأجنبية.

ولاستغلال الظروف الفوضوية في سوريا ، قرر أردوغان القيام بهجوم عسكري لسحق القوة الديمقراطية السورية (YPG) التي يتهمها بأنها تدعم حزب العمال الكردستاني (PKK) الذي يخوض حرب تمرّد ضده منذ 34 عاما ً. وعلى الرغم من أن أردوغان يؤكد أن هدفه هو القضاء على جميع العناصر الإرهابية لحماية شعبه ، فإن أهدافه الحقيقية هي : إقامة موطئ قدم دائم في سوريا التي كان يحكمها العثمانيون، الحفاظ على دعم دائرته الإنتخابية الوطنية، وإظهارعلى أنه مستقل وحرّ في استخدام جيشه كما يراه مناسبا ً. والأهم من ذلك كلّه ، منع الأكراد السوريين من ترسيخ حكمهم الذاتي.

ومن ثم ، فبدلاً من حل النزاع مع جاليته الكردية التي تسعى فقط للحفاظ على ثقافتها ، فإنه يغزو سوريا تحت ذرائع زائفة لضمان أهدافه الأخرى التي تتفق مع رؤيته العثمانية.

وفي البلقان ترسخ تركيا نفسها بشكل منهجي عن طريق زيادة وجودها التجاري والثقافي الذي يستحضر الحكم العثماني. ففي ألبانيا تقوم تركيا ببناء خط أنابيب عبر البحر الأدرياتيكي عبر البلاد لتزويد أوروبا بالغاز ، ويقوم إتحاد شركات تركية ببناء ثاني مطار في البلاد. وهو يستثمر في البنية التحتية لكوسوفو ويبني مطارها الدولي الوحيد ، ويدير طاقة البلد. وتقوم وكالة التعاون والتنسيق التركية (TIKA) بمساعدة دول البلقان والقوقاز في مجالات الصناعة والزراعة والبنية التحتية والمالية والرعاية الصحية والتعليم.

بالإضافة إلى ذلك ، يتدخل أردوغان بشكل صارخ في دول مجاورة أخرى – بما في ذلك أفغانستان وألبانيا وجورجيا وكوسوفو – حيث يمارس ضغوطاً مفرطة على حكومات هذه الدّول لإغلاق جميع المدارس التابعة لحركة غولن ، مهدداً باستخدام نفوذه الإقتصادي والسياسيي ضد هذه الدول ما لم تطرد المعلمين المشتبه بانتمائهم لهذه الحركة وتستبدلهم بآخرين يوافقون على توجهه الديني الإسلامي.

وبدلاً من الإستثمار في البنية التحتية والإسكان والتعليم والرعاية الصحية في الجنوب الشرقي من بلاده (أفقر المناطق في تركيا) ، يقوم بتمويل مشاريع أجنبية تهدف إلى التأثير والحفاظ على التراث الثقافي الذي يعود إلى الإمبراطورية العثمانية ، مما يزيد من تعزيز التواصل الإقليمي لتركيا.

وعلى الرغم من أن تركيا لا تزال تسعى نظريًا إلى عضوية الإتحاد الأوروبي ، فإن عملية الإنضمام مجمدة أساسًا ويفضل أردوغان بالتأكيد أن يتركها بهذه الطريقة لأنه غير راغب في عكس مساره وإعادة حرية الصحافة وحقوق الإنسان التي يصر الاتحاد الأوروبي على أنها شرط مسبق لمناقشة إنضمامه للإتحاد بجدية. وهكذا ، وبدلاً من جعل تركيا نموذجاً للديمقراطية الإسلامية التي تلبي المتطلبات الأساسية للإتحاد الأوروبي ، حوّل تركيا إلى دولة إسلامية استبدادية تشبه أسلوب الحكم العثماني.

يبدو أن دور تركيا في حلف الناتو يتضاءل على نحو متزايد مع استمرار أردوغان في الانجذاب نحو روسيا التي تعتبر خصم الغرب الأكثر صرامة، الأمر الذي يريح بوتين الذي أعلن الحرب على الديمقراطية الأمريكية. ومؤخراً توصل إلى اتفاق مع موسكو لشراء نظام S-400 للدفاع الجوي وبناء ثلاث محطات نووية – التي بالرغم من أنها للأغراض المدنية، إلاّ أنه من السهل تحويلها إلى إنتاج أسلحة نووية – هذا التطور يضعف بشدة مصداقية تركيا كعضو في حلف الناتو وكحليف غربي.

يجب على الغرب ألا يتذرع بعد الآن بأهمية تركيا الجيوستراتيجية كذريعة لعدم القيام بأي شيء لإيقاف روح المغامرة لدى أردوغان. لا ينبغي استبعاد أي إجراء عقابي لمنعه من زيادة زعزعة استقرار المنطقة بسبب طموحاته السيئة لإحياء بعض مظاهر الدولة العثمانية وتلبية نهمه لمزيد من السلطة.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE