أمن إسرائيل القومي بين الأسطورة والحقيقة

يستمر أمن إسرائيل القومي ولأسباب وجيهة في كونه من دواعي القلق الرئيسية ليس فقط لمواطني إسرائيل فحسب، بل ليهود العالم ولكثير من أصدقاء وحلفاء إسرائيل في العالم. لإسرائيل كل الأسباب أن تكون ضجرة من أعدائها اللذين لديهم الوقت وأثبتوا أكثر من مرة بأنهم ليس أهلاً للثقة ويبقوا ملتزمين بتدمير إسرائيل قولاً وفعلاً. ولهذا السبب يصبح الإسرائيليون أكثر تشاؤماً وتشككاً يوماً بعد يوم حول إمكانية إحلال السلام وحتى استمراره في حالة التوصل إليه، غير أن هذا الجدل – رغم قوة إقناعه – قد فقد الكثير من جوهره وأهميته مع تغير الوقت والظروف. وللتأكيد، بالرّغم من بقاء قوة إسرائيل العسكرية العامل المركزي لأمنها القومي، غير أنه لا عمق إقليمي ولا استمرار تعزيز القوة العسكرية يستطيعان أن يوفرا لإسرائيل الأمن المطلق الذي تحتاجه. ففي التحليل النهائي، يعتمد أمن إسرائيل على السلام مع الدول العربية ويجب أن تستغل الآن قوتها العسكرية الهائلة لضمان هذا السلام مهما بدا ذلك محيّراً.

هناك من يقول بأن انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية سيجعل إسرائيل أكثر عرضة للهجمات الصاروخية من الجبال المطلة على سكان إسرائيل والمراكز الصناعية في الشريط الساحلي تحتها, الأمر الذي سيجعل الدفاع عن البلد أمراً مستحيلاً على حد زعمهم. وقد كتب أحد النقاد مستشهداً بخبير عسكري أمريكي قال:”إذا نصبت أنظمة أسلحة حديثة – معظمها من أجزاء تتطلب وضع خط البصر – في جبال اليهودية والسامرة، فإن عرض إسرائيل الحالي في الجزء الأوسط من البلاد سيتقلص من 40 – 55 ميلاً إلى 9 – 16 ميلآً، الأمر الذي سيجعل من الدفاع عن البلد أمراً مستحيلاً.” ولتأييد هذا الجدل هناك من يستند ببساطة إلى التصريحات التي يدلي بها مسؤولون إسرائيليون من الجناح اليميني اللذين يربطون العمق الإقليمي بالأمن القومي بدون فحص الأهمية الحقيقية ما بين الإثنين، وبالأخص في سياق الضفة الغربية والعمق الجغرافي المعني بالبحث.

ومقابل هذا “الخبير العسكري الأمريكي” هناك مئات الخبراء العسكريين الإسرائيليين اللذين يعارضون هذا القول. لا أحد يعتقد بأن اتفاقية سلام بحد ذاتها ستوفر لإسرائيل الأمن الفوري. وبالفعل، يجب تنفيذ أية اتفاقية سلام على مراحل (تتطلّب تعويض أو بدل) وتستلزم من كلا الطرفين الإلتزام تماماً بجميع شروط الإتفاقية، وبالأخص في موضوع قضايا الأمن القومي لإسرائيل. ولذا، فإن الإجراءات الأمنية يجب أن تكون موضع التنفيذ، مثلاً تمركز قوة سلام دولية تحت قيادة الولايات المتحدة على طول الحدود مع الأردن تكون مجهزة بإمكانيات وقدرات تعزيزية. والأهم من ذلك هو قوة الردع العسكرية لدى إسرائيل التي بإمكانها أن تمنع أي إخلال بأية اتفاقية مع الفلسطينيين.

وبالنظر إلى التكنولوجيا العسكرية المعاصرة وانتشار الصواريخ القصيرة والمتوسطة الأمد (التي يتراوح مداها ما بين 3 أميال و100 ميلاً) التي بحوزة حماس وحزب الله، بإمكان “أنظمة الأسلحة الحديثة” هذه وبصرف النظر عن مكان تنصيبها أن تضرب أي تجمع سكاني في إسرائيل. ولذا، لن يكون هناك أي اختلاف أكانت المسافة من جبال الضفة الغربية تتراوح ما بين 40 إلى 55 ميلاً أو تقلصت إلى مدى 9 إلى 16 ميلاً. ما يجعل هناك اختلافاً حقيقياً بالتحليل النهائي هو إمكانيات إسرائيل وقدراتها على الرد على أي عدوان وحجم الخسائر الفادحة التي بإمكانها أن تسبّبه. وهذه بدورها كفيلة لأن تقتع الأعداء بألاّ يستفزوها.

إسأل نفسك لماذا امتنع الفلسطينيون في الضفة الغربية وحماس في غزة من استفزاز إسرائيل بشكل جدي وخطير؟ الجواب على ذلك هو أن الفلسطينين في الضفة الغربية قد عانوا من الغزوات الإسرائيلية الضارية في صحوة الانتفاضة الثانية في عام 2000، وحزب الله كذلك في عام 2006 وحماس في 2009. لم تتعافى حماس وحزب الله حتى الآن من التدمير الذي عانوه من إسرائيل، وإعادة استفزاز إسرائيل عسكرياً بالنسبة لهم يعني الإنتحار. هذا هو السبب الذي جعل السلطة الفلسطينية تتخلّى عن العنف وتسعى لتحقيق أهدافها السياسية بالوسائل السلمية وهو السبب أيضاً وراء الهدوء النسبي السائد في الضفة الغربية. وإذا أضفنا إلى ذلك عنصر اتفاقية السلام، سيصبح حدوث مواجهة جديدة أقل احتمالاً بكثير.

القضية ليس أين سترسم الحدود بشكل نهائي. لقد روّجت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة للجمهور الإسرائيلي أسطورة ربط الحدود بالأمن القومي في حين أن بناء المستوطنات، مثلاً مستوطنة آريل، في عمق الضفة الغربية محفّز عقائدياً وليس له أية علاقة بالأمن القومي. وبالفعل، ما يجعل الحدود ما بين إسرائيل ودولة فلسطينية مستقبلية قابلة للدفاع ليس أين ستكون الحدود النهائية بشكلٍ نهائي ولكن قوة الردع الإسرائيلية الثابتة وبالأخص عند إقامة سلام شامل وعلاقات طبيعية يطوّر الجانبان من خلالها مع الوقت مصلحة حقيقية. وأي ادعاء خلافاً لذلك لا أساس له من الصحّة مهما كانت نوايا الفلسطينيين النهائية سيّئة كما يدّعي الإسرائيليون.

من المعتقدات السائدة في إسرائيل أنه لا يمكن الوثوق بالعرب، وبالأخص الفلسطينيين. أضف إلى ذلك، يدّعي الإسرائيليون أنه حتى لو تمّ التوصل لاتفاقية سلام إسرائيلي – فلسطيني اليوم، فإن الفلسطينيين سينقضون هذه الاتفاقية حالما شعروا أن حلها سيكون لصالحهم. ويصرّ الكثير من الإسرائيليين بأن الفلسطينيين ملتزمون من حيث الفطرة بتدمير إسرائيل وأن إبرام اتفاقية سلام بالنسبة للفلسطينيين ليس سوى خطوة تكتيكية في حين ينتظرون يوماً أفضل لتحقيق هدفهم النهائي وهو تدمير إسرائيل. والسؤال هو، من ذا الذي سيضع سلاماً على أساس الثقة فقط ؟ فالثقة تنمو وتترعرع فقط من خلال علاقة بناءة ومستمرة يعززها فقط السلام.

دعونا نفترض للحظة بأن الإفتقار للثقة هو العقبة الرئيسية أمام صنع السلام. السؤال هو: متى سيأتي اليوم الذي سيبدأ فيه الطرفان بالوثوق ببعضهما البعض؟ هل سيأتي ذلك بعد تطوير التجارة وتنمية العلاقات التجارية والثقافية والعلمية والدبلوماسية، أم سيأتي مع استمرار الاحتلال وتوسيع المستوطنات والإبقاء على مئات الحواجز وآلاف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية؟ إن تحدي السلام اليوم لا يأتي من المعتقدات الدينية ولو أن حماس وآخرون يرون أنّه من السهل خلق مثل هذه الرابطة لتوصيل معتقداتهم للغير. وبالفعل، بصرف النظر عن الجانب الديني للصراع يريد الناس، بما فيهم الفلسطينيون، أن يعيشوا بكرامة. هم يدركون الآن أن الموت عبثاً ليس بفضيلة، وبالأخص أن إمكانية تدمير إسرائيل ليست موجودة في الواقع. والأهم من أي شيء آخر عندما يكون لهم شيئاً يتمسكون به، مثل دولة مستقلة خاصة بهم.

إسرائيل قوة عسكرية لن تتمكن أية دولة عربية بمفردها أو مجموعة من الدول على مدى المستقبل المنظور أن تتغلب عليها عسكرياً، وإذا حاولت ذلك، فلن تجني سوى هلاكها وتعرّض وجودها للخطر. لم تكن إسرائيل في تاريخها أقوى عسكرياً ممّا هي عليه اليوم. ولكن من الضروري ألاّ تستغلّ هذه القوة العسكرية الهائلة سوى لأغراض الردع أو الدفاع أو شن هجوم فقط في حالة تعرّض أمن إسرائيل للخطر. لهذا السبب لا تستطيع إسرائيل أن ترهن أمنها لأطرافٍ ثالثة. عليها أن تبقى دائماً يقظة وقوية ومستعدة في أي وقت لاتخاذ أي إجراء عسكري مشروع يتضح بأنه ضروري لضمان بقائها.

وبإمكان مثل هذه القوة العسكرية على أية حال أن تُستخدم، لا بل يجب أن تُستخدم للتواصل مع الفلسطينيين وبقية الدول العربية من مركز القوة، وإلاّ ما فائدة هذه القوة العسكرية الهائلة إن لم تدفع بالسلام إلى الأمام؟ ستزداد عزلة إسرائيل يوماً بعد يوم وستتحوّل تدريجياً إلى دولة عسكرية يتقلّص أصدقاؤها وحلفاؤها بسرعة. وكما هو عليه الحال، ليس هناك دولة واحدة في كلّ العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة، تدعم الإحتلال ولا تدعو إسرائيل لإنهائه من أجل إسرائيل نفسها.

وتفقد إسرائيل إبان ذلك وبشكلٍ تدريجي الروح والبريق اللذين كانا يتصورهما مؤسّسوها. وحان الوقت الآن لحكومة نتنياهو لكي تكون صادقة مع الشعب وتكفّ عن التوسع وبناء مستوطنات جديدة باسم الأمن القومي.