هل سيدفع تحرّك الفلسطينيين إلى الأمم المتحدة عملية السلام إلى الأمام أم سيعيقها؟
يجري مسؤولون كبار من الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل وكذلك السلطة الفلسطينية مباحثات وتعليقات صاخبة حول حكمة محاولة الفلسطينيين الرّفع من مستوى تمثيلهم في الأمم المتحدة من كيان مراقب إلى دولة مراقبة غير عضو. والعواقب الناتجة عن مثل هذا التحرك بالنسبة للفلسطينيين أنفسهم وعملية السلام ما زالت غير معروفة. وبصرف النظر عن الآراء المؤيدة أو المعارضة لهذه الخطوة، يجب تحريك عملية السلام المجمّدة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ويبقى السؤال عمّا إذا كانت المرحلة الحالية هي الفرصة المناسبة للطلب الفلسطيني أم لا خاضعاً للعديد من التخمينات. وعلى أية حال، شيء واحد يجب أن يكون واضحاً وهو أن الوضع الحالي غير ثابت وغير مستقرّ ويجب إدخال دينامية جديدة لمنع عواقب وخيمة على كلا الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني.
إن الجهود الرامية لتأجيل أو منع الطلب الفلسطيني للأمم المتحدة بحجة أن مثل هذه الخطوة ستقوّض مفاوضات السلام المستقبلية لا تصمد كثيراً للنقد حيث أن مفاوضات السلام مجمدة منذ عام 2010 وإمكانية استئنافها ليست في المدى المنظور. ففي مقابلة مع صحافيين في تل أبيب ناشد السفير الأمريكي لدى إسرائيل، دان شبيرو، الفلسطينيين للذهاب إلى طاولة المفاوضات بقوله:”هذه هي الطريقة الوحيدة لمعالجة الصراع وأنا متأكد بأننا سنستمر في البحث عن فرص لجلب الطرفين معاً لطاولة المفاوضات والعمل على حلّ الصراع بينهما من خلال المفاوضات المباشرة.” ولكن السخرية أنه لم يحدث أي تقدّم لتهدئة الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني في السنوات الثلاث الماضية والقول” بالبحث عن فرصٍ لجلب الطرفين معاً على طاولة المفاوضات” يبدو قولاً أجوفاً حيث أن المرء يتساءل عن أية فرص يتكلم السفير في الوقت الذي تستمر فيه عملية السلام في الإضمحلال.
إن حلّ الدولتين إبان ذلك يتخذ المزيد من الطابع الكلامي المنمق فقط ويفقد زخماً جوهرياً كل يوم يمرّ يحرن فيه الإسرائيليون والفلسطينيون، هذا في حين يكسب “حلّ” الدولة الواحدة لشعبين – الذي يزحف يوماً بعد يوم على حساب حلّ الدولتين- المزيد من التصديق والإعتماد. لقد أصبح الإسرائيليون يوماً بعد يوم أكثر اقتناعاً بوضعهم وحياتهم راضيين بالعيش مع الوضع الحالي: لا سلام ولا عنف، هذا في الوقت الذي تتحوّل الأرض تدريجياً تحتهم باتجاه حل الدولة الواحدة مع ما ينتج عن ذلك من عواقب مشئومة لكلا الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني. ومن الناحية الأخرى يعوّل الفلسطينيون على الدعم الدولي المتنامي لقضيتهم في حين يتحوّل الطابع الديمغرافي للنزاع لصالحهم. على الحكومات الإسرائيلية الحالية والمستقبلية أن تختار، عاجلاً قبل آجلاً. ما بين ديمقراطية حقيقية بهوية وطنية يهودية ثابتة أو دولة تمييز عنصري. ويعتبر الكثير من الإسرائيليين الآن سياسات حكومة نتنياهو تجاه الفلسطينيين بسياسات شبه عنصرية لا تتماشى كلياً مع القيم الأخلاقية اليهودية التي كانت أساسية لبقاء دولة إسرائيل.
لقد ساندت في مقالة سابقة لي طلب الفلسطينيين للأمم المتحدة ليس فقط بسبب الإمكانية الضئيلة لاستئناف المفاوضات “بدون شروط” (كما يطالب بذلك رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو) – التي تعتبر بحد ذاتها شرطاً من جانبه – ولكن بالتحديد لأنه لن يكون هناك تقدّم بدون تغيير الطبيعة الدينامية للصراع، الأمر الذي سيلحق ضرراً بالطرفين. ولإقناع الفلسطينيين بالكف عن الذهاب للأمم المتحدة، يجب تزويدهم بفكرة عمّا يمكن أن يتوقعوا بشكلٍ فعليٍ وواقعيٍ إذا وافقوا إما على تأجيل أو على سحب طلبهم. وقد كان المبعوث الخاصّ للرباعية الدولية للشرق الأوسط، طوني بلير، على حق بقوله:”يجب أن نفهم الوضع الذي يجد فيه الفلسطينيون أنفسهم في الوقت الحاضر. الأمر يتعلق برمّته بمصداقية الخطوات باتجاه إقامة الدولة. والموضوع بدرجة كبيرة لصالحنا في عرضنا عليهم طريقة للأمام تسمح لنا بطريقة أو بأخرى للرجوع إلى طاولة المفاوضات”.
تلك الدول أو الأفراد اللذين يطلبون من الفلسطينيين الإنتظار لحين وقوف إدارة أوباما الجديدة على رجليها أو لبعد الإنتخابات الإسرائيلية كما اقترح في الآونة الأخيرة وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك لا يقولون للفلسطينيين ماذا سيحدث فعلاً إذا ما قرّر الفلسطينيون الإنتظار. وفشل إدارة أوباما في عرض أي خطط جديرة بالثقة خلال العامين المنصرمين لا يعطي الفلسطينيين أملاً بأنه سيكون هناك تقدّم ملموس على المدى القريب. وبصرف النظر عن إصدار البيانات المؤيدة لحلّ الدولتين وحثّ الطرفين على استئناف المفاوضات، تركت إدارة أوباما الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني يفعلان ما يشاءان حسب رغبتهما. وفي حين استمرت حكومة نتنياهو في التوسع في بناء المستوطنات، اشترط الفلسطينيون استئناف المفاوضات بتجميد المستوطنات، الأمر الذي زاد من تعقيد الوضع. وقد صرّح وزير الخارجية الألماني، غويدو فيستر فيلة (الذي تساند دولته إسرائيل) بقوله قبل بضعة أيام:”إن دول الإتحاد الأوروبي بأكملها تشاطر الرأي بأن سياسة الإستيطان هي عقبة أمام عملية السلام”.
هذا ويجب على الفلسطينيين أن يضعوا في اعتبارهم بأن طلبهم للحصول على مقعد دولة مراقبة في الأمم المتحدة يجب أن يرقى إلى عربة للتقدم بعملية السلام بدلاً من أن يكون أداة لتهديد أو تقويض مكانة إسرائيل الدولية. ففي تصريح ٍ لعبّاس زكي, عضو اللجنة المركزيّة لحركة فتح, لجريدة “جيروزلم بوست” (Jerusalem Post) قبل بضعة أيام قال:”في حالة رفع مكانة الدولة الفلسطينيّة في الأمم المتحدة إلى عضو ٍ مراقب, سيصبح بمقدور الفلسطينيين ملاحقة إسرائيل على جرائم الحرب في محكمة الجنايات الدوليّة” واستطرد قائلا ً:”سنذهب لجميع وكالات الأمم المتحدة لإجبار المجتمع الدولي على اتخاذ إجراءات قانونيّة ضد إسرائيل”. هذه بالتأكيد ليست الرسالة التي تريد السلطة الفلسطينيّة توصيلها للعالم الخارجي, وبالأخصّ إذا أرادت اكتساب دعم وتأييد الإتحاد الأوروبي.
ونقطة أخرى جوهريّة قد تقوّض مسودّة القرار الفلسطيني للأمم المتحدة هي النصّ أو العبارة المتعلّقة بالحدود المرسومة التي ستعتمد عليها المفاوضات. ففي ثلاث فقرات مختلفة تتكلّم الوثيقة عن”التأكيد على حقّ الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والإستقلال في دولته فلسطين على أساس حدود ما قبل 1967″. هذه العبارة بالذات تقلق بشكل ٍ خاصّ العديد من أعضاء الإتحاد الأوروبي حيث أنها قد تعني أيضا ً العودة إلى خطط تقسيم فلسطين عام 1947 من طرف الأمم المتحدة, وهو بند غير قابل للنقاش منذ البداية. ولقد أخبرني أحد كبار المسئولين الفلسطينيين بأنه يمكن تعديل هذه العبارة لكي تصبح:”…على أساس خط وقف إطلاق النار يوم الرابع من شهر يونيو (حزيران) 1967″ وهذه مقبولة دوليّا ً كالأساس الذي قد تستند إليه أية مفاوضات مستقبليّة للسّلام.
الإتحاد الأوروبي منقسم حاليّا ً ما بين أولئك المعارضين لطلب السلطة الفلسطينيّة (بقيادة ألمانيا) والذين يميلون لدعمه (بقيادة فرنسا) واللذين يحاولون تأخيره (بقيادة بريطانيا) ثمّ أولئك اللذين سيمتنعون عن التصويت لأنهم لا يريدون مضايقة لا الولايات المتحدة ولا إسرائيل. وبالرغم أنّه من الممكن للفلسطينيين نيل موافقة (115) دولة على الأقلّ, غير أنّ تأييد جوهري من طرف الإتحاد الأوروبي له بالطبع أهميّة بالغة, ولكن تصريحات طائشة مثل التي أدلى بها عبّاس زكي قد تنفر عدّة دول أوروبيّة مهمّة كانت ستؤيّد الطلب الفلسطيني.
يتطلّب حلّ الدولتين على أساس حدود عام 1967 بالضرورة إلى وضع نهاية لزحف إسرائيل المستمرّ على الأراضي الفلسطينيّة التي تعتبر الأساس لإقامة دولة فلسطينيّة, وإلاّ تفقد فكرة حل الدولتين ما تبقى لها من مضمون أو مصداقيّة. ورئيس السلطة الفلسطينيّة محمود عبّاس محقّ في الإصرار على أن يسبق تجميد جميع أعمال التوسّع في المستوطنات أيّ استئناف لمفاوضات السّلام. وفي حالة المطالبة بإسقاط هذا المطلب كما تطالب به حكومة نتنياهو, على نتنياهو أيضا ً التخلّي على أية حال عن شرطه “عدم وضع أية شروط مسبقة” والموافقة على وضع قواعد جديرة بالثقة ومعقولة لإقحام الطرفين في المفاوضات حيث لا يمكن إجراء مفاوضات جادّة على أساس “نهاية مفتوحة”.
ولذا, ولإقناع الفلسطينيين بتأجيل أو إسقاط طلبهم, يجب أن يتقدّم طرف ثالث أهل للثقة مثل الولايات المتحدة بإطار للمفاوضات. ويجب أن يتضمّن هذا الإطار جدول أعمال بقضايا الصّراع يتفق عليه الطرفان ويتم التفاوض حوله على أساس فترات ٍ زمنيّة محدّدة للتنفيذ مقترنة ً بإطار زمني لغرس الثقة في التداولات والتشاورات والسماح للطرفين بالقيام بالتنازلات المطلوبة للتوصّل إلى اتفاقيّة. هذا ويجب تحديد فترة المفاوضات مقدّما ً لإقناع الفلسطينيين أنّه بالرغم من استمرار إسرائيل في التوسّع ببعض المستوطنات خلال فترة التفاوض, فإن ذلك لن يغيّر الشيء الكثير من الواقع على الأرض. ويفضّل أن تبدأ المفاوضات حول الحدود التي ستحدّد المعالم المستقبليّة للدولة الفلسطينيّة.
وبصرف النّظر عمّا إذا سيقبل الفلسطينيّون بهذا الحلّ التوافقي أم لا, أم أنهم سيقررون متابعة طلبهم في الأمم المتحدة, فقد استطاعوا حتى الآن تغيير ديناميّة الصراع. وعلى إدارة أوباما انتهاز هذه الفرصة للخروج من هذا المأزق باستخدام نفوذها على كلا الطرفين والإصرار على مفاوضات سلام ذات جدوى تنهي صراعا ً استمرّ حتى الآن قرابة القرن.