ماذا نتوقّع من الرئيس حامل جائزة نوبل للسّلام ؟
استند منح الرئيس باراك أوباما جائزة نوبل للسلام في بداية فترة رئاسته الأولى إلى شرط التزامه بالسعي وراء السّلام وإنهاء الصراعات الدامية الحاليّة لجعل العالم مكانا ً أفضل وأكثر أمنا ً لجميع البشر. وجهود الرئيس في إنهاء الحرب في العراق وتقليص الحرب أيضا ً في أفغانستان لهو أمر ٌ يستحق الإعجاب بصرف النّظر عمّا قد تُبتلى به هذه البلدان في السنوات القادمة, غير أنّ الرئيس قصّر على أية حال في مجهوده أثناء فترة رئاسته الأولى في صنع سلام ٍ ما بين إسرائيل والفلسطينيين وهي قضيّة تبقى في منتهى الأهميّة بالنسبة للإستقرار الإقليمي. فالصراعات المحتدمة في جميع أرجاء الشرق الأوسط, مثلا ً الحرب الإهليّة المروّعة في سوريا والعنف الذي لا ينتهي في العراق وعدم الإستقرار في مصر والأردن والبحرين وليبيا والصراع الذي يغلي ببطء فوق نار ٍ هادئة مع إيران قد تبدو ظاهريّا ً بأن ليس لها علاقة تُذكر مع الصّراع الفلسطيني – الإسرائيلي, ولكن العكس هو الصّحيح, فقد اتضح بأنها مرتبطة بعضها ببعض وتؤثّر على بعضها البعض. وايجاد حلّ لهذا الصراع المستمرّ عقود طويلة والقابل للإنفجار سيكون له تأثيرا ً فوريّا ً ومباشرا ً على استمرار المنطقة بأكملها وسيعطي الرئيس أوباما الإستحقاق لأن يُمنح جائزة نوبل للسّلام.
على إدارة أوباما بعد اعتماد جون كيري وزيرا ً للخارجيّة أن تطوّر استراتيجيّة شاملة تؤدي إلى ترسيخ استقرار المنطقة وتبقى منشغلة ً بالمنطقة للحفاظ على نطاق نفوذها ولضمان استمرار الإستقرار في الوقت الذي تحافظ فيه على مصالحها الإستراتيجيّة. لا يوجد دولة عربيّة واحدة لا تطلب الدّعم الأمريكي لإنهاء الحرب الأهليّة في سوريا, ولن يكون هناك حلّ لبرنامج إيران النووي بدون التدخّل الأمريكي المباشر أو حلّ الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني بدون المشاركة الأمريكيّة المباشرة والفعّالة. قد يكون الرئيس أوباما في البداية متردّدا ً – وبالأخصّ بعد الحربين الدمويتين في العراق وأفغانستان – في توريط أمريكا في صراعات ٍ أخرى قد تتطلّب تدخّلا ً عسكريّا ً مباشرا ً أو غير مباشر. ولن يكون للولايات المتحدة الأمريكيّة سوى مجالا ً ضئيلا ً للخيار غير عرض قواتها المتعدّدة الجوانب – الإقتصاديّة والسياسيّة والعسكريّة – للتأثير على نتيجة هذه النزاعات أو تغيير مجراها قبل أن تنفجر في وجه أمريكا وتدفع المنطقة بأكملها خارج نطاق السيطرة.
إنّ إيجاد حلّ للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي هو أكثر الأمور إلحاحاً لأن المسألة الفلسطينية مستمرّة في تغذية “الجنون” العربي، وبالأخص في صحوة الربيع العربي. وبالرغم من أن الإسرائيليين والفلسطينيين لا يتناحرون كل يوم، غير أن هذا لا يعني بأن الهدوء النسبي قد يستمر مع استمرار الصراع فوق نارٍ هادئة تحت السطح. ومع وجود الاضطرابات الإقليمية وازدياد ضعف الموقف الفلسطيني، أعتقد بشدة أنه ما لم تطلق الولايات المتحدة حملة سلام جديدة سيكون انفجار الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني مسألة وقت فقط تاركاً وراءه أصداء إقليمية بعيدة المدى. لقد قال الرئيس أوباما في أول زيارة أوروبية له في شهر ابريل/نيسان 2009 في مدينة براغ بطريقة معبرة وملفتة للنظر:”إن فشلنا في السعي وراء السلام فسيبقى للأبد خارج قبضتنا.” لا يستطيع أي فرد، فما بالك الرئيس، أن يتجاهل صراعاً امتدّ لأكثر من ثلاثة أجيال في مثل هذه المنطقة الحيوية عندما تكون المخاطر بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها عالية إلى هذا الحدّ.
والجدير بالذكر أنه خلال الحملات الانتخابية الإسرائيلية ركّزت جميع الأحزاب السياسية في إسرائيل من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين وبشكلٍ رئيسي على القضايا الاجتماعية والاقتصادية المحلية في حين لم يحظى الصراع مع الفلسطينيين إلاّ باهتمامٍ ضئيل. وقد قال جون كيري في خطاب اعتماده وزيراً للخارجية أمام مجلس الشيوخ:” كان هناك بالأمس انتخابات في إسرائيل ولا نعرف حتى الآن أية حكومة ستكون … أصلّي أن تكون هذه لحظة تسمح لنا بتجديد الجهد في السنوات الماضية. أود أن أجرّب وأفعل ذلك.” وجهود السيد جون كيري “لجلب الأطراف إلى طاولة المفاوضات والسّير في خط مختلف عما مضى” يجب ألاّ تكون فقط مجرد تفكير رغبي. على الولايات المتحدة أن تقيّم بشكل واقعي أين يقف نتنياهو بالفعل – الذي سيشكّل على الأرجح حكومة الإئتلاف الإسرائيلي القادمة – من إمكانية حلّ الدولتين ونوع الإجراءات التي ستكون الولايات المتحدة على استعدادٍ لاتخاذها إذا أرادت أن تقود إسرائيل والفلسطينيين نحو تسوية سلمية. ستجبر نتائج الانتخابات الإسرائيلية على الأرجح نتنياهو لدعوة يائير لبيد، زعيم حزب “يش عتيد” (يوجد مستقبل) الذي يقف إلى يسار الوسط (والذي جعل من القضايا الإقتصادية والعدالة الإجتماعية قضاياه السياسية المركزية) إلى الإنضمام لحكومته. يجب ألاّ يوهم ذلك أي شخص للتفكير على أية حال بأن نتنياهو سيقوم بشكلٍ تلقائي بتعديل آرائه حول الفلسطينيين وأنه سيعمل بالفعل للدفع بحل الدولتين إلى الأمام كالخيار العملي الوحيد لإنهاء الصراع. سيقوم ظاهرياً بشكلٍ عام بتأييد مثل هذا الحلّ لتهدئة الولايات المتحدة ولكنه سيبقى بالتأكيد موجهاً بقناعاته الشخصية ويلعب من أجل كسب الوقت لإنه لا يعتقد بأن إسرائيل قوة محتلة بل أن الضفة الغربية هي جزء لا يتجزأ من أرض أجداد الشعب اليهودي.
إن النصر الفلسطيني في الحصول على مكانة دولة مراقب غير عضو في الجمعية العامة للأمم المتحدة لم يجلب أي تحسّن حتى الآن في وضع الفلسطينيين على الأرض، لا بل عكس ذلك، فالسلطة الفلسطينية تواجه الآن مشاكل مالية صعبة جداً. فمعارضة إدارة أوباما للطلب الفلسطيني للحصول على عضوية في الجمعية العامة للأمم المتحدة قد شجع بالفعل نتنياهو للإسراع في توسيع المستوطنات وفي نفس الوقت حجز الإيرادات الضريبية المستحقة للفلسطينيين، الأمر الذي زاد من حدّة أزمتهم المالية ولو أنه قام أخيراً بتحويل 100 مليون دولار للسلطة الفلسطينية. وإضافة إلى مشاكلهم المالية، فإن انقسام الفلسطينيين إلى فصائل والإقتتال الداخلي بينهم (مثلاً الصراع بين فتح وحماس) يزيد تعقيد أمل التوصل إلى مفاوضات سلام حقيقية وبالأخص لأن حماس مستمرة في السعي علناً وراء تدمير إسرائيل. وهنا يجب على إدارة أوباما إعادة النظر في موقفها بالنسبة للفلسطينيين وكيفية تعاملها مع حماس التي لا يمكن في النهاية استثناءها من العملية السلمية إذا أرادت الولايات المتحدة السعي وراء سلامٍ دائم.
وفي حين أنه يبدو منطقياً ضرورة أن يقوم الإسرائيليون والفلسطينيون بفرز ومعالجة مشاكلهم، غير أن التاريخ قد بيّن لنا بأنهم ببساطة كانوا غير راغبين أو قادرين على فعل ذلك. وبالفعل، فالصراع يتجاوز الأرض والأمن واللاجئين والمستوطنات أو مستقبل القدس. إنه صراع عاطفي لأبعد الحدود مكسوّ بغطاءٍ من الكراهية العميقة وعدم الثقة ومقيّد علاوة على ذلك بمشاكل سيكولوجية منبعثة من تجارب وخبرات تاريخية ومعتقدات دينية عميقة.
وفي خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر أيلول/سبتمبر 2011 قال الرئيس أوباما:”في النهاية هم – الإسرائيليون والفلسطينيون – اللذين عليهم العيش جنباً إلى جنب. وفي النهاية أيضاً هم الإسرائيليون والفلسطينيون – ولسنا نحن – اللذين عليهم التوصل إلى اتفاق حول القضايا التي تفرّقهم: حول الحدود والأمن، وحول اللاجئين والقدس.” وإذا شعر الرئيس الأمريكي اليوم بنفس الشعور الذي شعر به بالأمس، عليه ألاّ يتوقع اختراقاً في العملية السلمية في وقتٍ قريب، ولكن دور الولايات المتحدة كان وما يزال أمراً لا غنى عنه أبداً كما يُستمدّ من خطاب جون كيري في شهر آذار/ مارس 2009 في مؤسسة بروكينغز حين قال:”في الوقت الذي أومن به بضرورة وجود دور قوي ومعزّز للاّعبين السياسيين الإقليميين، لا شيء يستطيع أن يحلّ محلّ دورنا المهم جداً كعاملٍ نشط وخلاّق لصنع السلام.”
ومع وجود الإضطرابات والثورات الإقليمية الحاليّة والخطر الإيراني في الهيمنة على المنطقة بأكملها, إذا بقي الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني بدون حلّ على مدى السنوات القليلة القادمة, فإنه قد يشعل حربا ً هوجاء تقوّض كلّ أمل ٍ في التوصّل لتسوية ٍ وتلحق ضررا ً شديدا ً بمصالح الولايات المتحدة الإستراتيجيّة ومصداقيتها في المنطقة. وبصرف النظر عن إخفاق الرئيس أوباما في التوصّل إلى اختراق ٍ في العمليّة السلميّة خلال الفترة الأولى من رئاسته, فإنّ لديه الآن الفرصة الأخيرة للدّفع باتفاقيّة إلى ألأمام. وقد ينجح جون كيري – الملمّ تماما ً بجوانب الصّراع – بمساندة الرئيس حيث فشل آخرون.
في صحوة الربيع العربي على أية حال في وقت ٍ يرى فيه الفلسطينيّون الشباب والشابات في مختلف الأقطار العربيّة يناضلون ويموتون من أجل حرياتهم,ولذا من المتوقّع أن سلبيتهم النسبيّة وهمود عزيمتهم لن يستمرا للأبد. ففي خطابه بعد منحه جائزة نوبل للسّلام في شهر ديسمبر (كانون أول) 2009 قال الرئيس أوباما:” .. لأن السّلام ليس مجرّد غياب الصراع الظاهر. فقط السّلام الذي يعتمد على أساس الحقوق والكرامة المتأصلة لكلّ فرد هو الذي بإمكانه أن يكون حقّا ً سلاما ً دائما ً وثابتا ً”. أجل, على الرئيس أوباما الآن أن يفي بذلك الوعد. لا يستطيع أن يركل الكرة في الملعب إشعارا ً ببدء اللعب ثمّ ينسحب تاركا ً المنطقة لنزوات قوى أخرى مثل روسيا وأيران اللتين على استعداد ٍ لفعل أي شيء لتقويض المصالح الأمريكيّة وتعميق الفرقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين دون العمل على أية إمكانيّة أو رؤية للمصالحة.
ولهذه الأسباب, ما سيفعله الرئيس أوباما ووزير خارجيته خلال الأشهر القليلة القادمة سيكون له تأثير واضح ومباشر على الطريقة التي سيتعامل بها الإسرائيليون والفلسطينيّون مع بعضهم البعض في توقّع مبادرة أمريكيّة جديدة لحلّ الصراع. والقول بأنه يجب ألاّ يكون للولايات المتحدة رغبة ً أكبر في السّلام من أطراف الصراع أنفسهم هو قول خاطىء إذ أنّ الإفتقار للسّلام سيستمرّ في تآكل المصالح الأمريكيّة والنفوذ الأمريكي في المنطقة وتقويض دور الولايات المتحدة في التأثير على نتائج الثورات المتعددة التي تجتاح المنطقة في صحوة الربيع العربي. على الولايات المتحدة أن تنقذ الإسرائيليين والفلسطينيين من شرّ أنفسهم وأن تستخدم لهذا الغرض إجراءات ترغيبيّة وقسريّة على حدّ سواء عند الضرورة.
ولدفع الفرصة الحقيقيّة للسّلام إلى الأمام ما بين إسرائيل وفلسطين, على الرئيس أوباما اتخاذ عددا ً من الخطوات المهمّة التي أوجزها على النحو التالي:
أوّلا ً, على الرئيس خلال الأشهر القليلة القادمة أن يقوم بزيارة للمنطقة ويخاطب الشعبين, الإسرائيلي والفلسطيني, بشكل ٍ مباشر. وبالنسبة لمعظم الإسرائيليين لم يكن تقصير أوباما في القيام بزيارة ٍ لبلدهم إسرائيل – عندما سافر ثلاث مرات للمنطقة خلال فترة رئاسته الأولى زار خلالها أربع دول إسلامية – سوى صفعة في الوجه. وبالفعل, لقد بدا تخطّي إسرائيل والفلسطينيين شيئا ً غريبا ً, وبالأخص على ضوء الحقيقة أنّ الرئيس أوباما قد جعل حلّ الصراع بينهما على رأس أولويات مهامه في فترة رئاسته الأولى بتعيينه الزعيم السابق للأغلبيّة في مجلس الشيوخ جورج ميتشل مبعوثا ً خاصّا ً له للمنطقة بعد بضعة أيام ٍ فقط من مراسم تنصيبه رئيسا ً. قد تحدث زيارة الرئيس بشكل ٍ خاص لإسرائيل تغييرا ً جوهرياً في اللعبة يتمكّن الرئيس من أن يشرح خلالها بأن السلام هو الضامن فقط في النهاية أمن إسرائيل القومي ونظامها الديمقراطي والهويّة الوطنيّة اليهوديّة للدولة. على الرئيس أن يشدّد على التزامه بحلّ الدولتين ويؤكّد بما لا يترك أي مجال ٍ للشكّ بأن الولايات المتحدة ستستخدم كلّ الوسائل المتاحة لها للدفع بالعمليّة السلميّة إلى الأمام في حين تحافظ على تعهدها الذي لا يهتزّ تجاه أمن إسرائيل القومي. وستزيد زيارة الرئيس أوباما لإسرائيل من تعزيز الإيمان الذي يضمّ جميع الإسرائيليين تقريبا ً وهو أنّ الولايات المتحدة هي الحليف الوحيد الذي بإمكانهم الوثوق به والإعتماد عليه كليّا ً بدون أيّ تحفّظ. وقد يوسّع الرئيس الإتفاقيّة الإستراتيجيّة الحالية مع إسرائيل إلى معاهدة دفاع ٍ مشترك معها في حالة التوصّل لاتفاقيّة مع الفلسطينيين. وقد تتطوّر معاهدة الدفاع الثنائيّة هذه وتصبح جزءا ً من مظلة أمن إقليميّة ما بين إسرائيل وكلّ دولة ٍ عربيّة تعقد سلاما ً معها.
ثانياً, على الرئيس أن يحمل معه إطارا ً شاملا ً لسلام يعتمد على تفاهمات مسبقة تمّ التوصل اليها بالتفاوض بين الطرفين, وبالأخصّ بنود التفاهم أو الإتفاق تلك التي تمّ التوصّل اليها في عام 2000 (في كامب ديفيد بين ياسر عرفات وايهود باراك) وخلال الفترة 2007/2008 (ما بين ايهود أولمرت ومحمود عبّاس). لقد تمكّن الطرفان في كلتا دورتي المفاوضات الشاملة من حلّ الأغلبيّة العظمى من القضايا المتنازع عليها. فبعد الدورة الأخيرة مباشرة ً صرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت بأن الجانبان قد أصبحا “قريبين جدّا أكثر من أي وقت ٍ مضى لإنجاز اتفاقيّة مبادىء قد تؤدي إلى إنهاء النزاع”. لذا يجب أن توضع هذه الإتفاقيّات السابقة من جديد على الطاولة ويتمّ تعديلها بما يتماشى مع الظروف المتغيّرة على الأرض بحيث تشكّل قاعدة واضحة للتفاوض على اتفاقيّة شاملة وذلك باشتراك الولايات المتحدة المباشر والفعّال. وعلى الولايات المتحدة أن تستخدم جميع الوسائل المتاحة لها, بما في ذلك الإجراءات السياسيّة والإقتصاديّة والقسريّة حتّى للحصول على التنازلات اللازمة من كلا الجانبين للوصول إلى اتفاقيّة.
ثالثا ً, لزيادة فعالية الإطار التفاوضي هذا, يجب تعيين مبعوث جديد حيادي بتفويض ٍ رئاسي واضح للعمل بدون هوادة في دفع عمليّة التفاوض إلى الأمام, وفي نفس الوقت الإبقاء على مسئول أمريكي رفيع المستوى في المنطقة للحفاظ على الزّخم والضغط في حالة غياب المبعوث الرئاسي. ومثالا ً على ذلك, قد يكون الرئيس السابق بيل كلينتون أو وزيرة الخارجيّة السابقة هيلاري كلينتون خيارا ً جديرا ً بالإعتبار لهذه المهمّة, أو شخص آخر من عيارهما, وبالتحديد شخصيّة معتبرة ومعروفة على نطاق ٍ واسع وتكون مرحّبا ً بها من كلا الطرفين. وعلى المبعوث هذا أن يكون متواجدا ً في كلّ جلسة ٍ تفاوضيّة ليتأكّد من مدى جديّة الإسرائيليين والفلسطينيين في البحث عن السّلام ولأي مدى هما مستعدّان للقيام بالتنازلات المؤلمة والضروريّة للتوصّل لاتفاقيّة. وادعاء الإسرائيليين والفلسطينيين بأنه لا يوجد شريك للتفاوض معه من الجانب الآخر, أو أنه لا يمكن الوثوق بالطرف الآخر للتفاوض بنيّة مخلصة إمّا سيُنبذ أو سيتأكّد في هذه المفاوضات وجها ً لوجه, ولكن – على أية حال – بحضور ٍ أمريكي.
رابعا ً, من الضروري جدّا ً أن تستعين الولايات المتحدة بدول عربيّة وإسلاميّة هامّة مثل المملكة العربيّة السعوديّة وقطر وغيرهما ممّن تستطيع أن تمارس ضغطا ً على السلطة الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة للقيام بالتنازلات اللازمة. وعلى نحو مماثل, على مصر وتركيا – اللتين تتمتعان بنفوذ ٍ كبير على حماس – أن تقنعا قيادة هذه الحركة بتغيير تصريحاتها العلنيّة الحادّة ضدّ إسرائيل وكذلك عدائها وسياستها المتشدّدة تجاهها. على حماس بشكل ٍ خاصّ أن تنبذ العنف كأداة لتحقيق أهدافها السياسيّة المتمثلة بإقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة, وحذف تلك المادة من ميثاقها التي تدعو لتدمير إسرائيل. هذا كلّه مقابل وعد الإعتراف الأمريكي بها. يجب معاملة حماس كحزب سياسي لا يحتاج في البداية للإعتراف بإسرائيل أو قبول اتفاقيّات سابقة, وهذه مبادىء نصّت عليها الرباعيّة الدوليّة, بل يُطلب منها ذلك كشرط مسبق لتصبح شريكا ً شرعيّا ً في المفاوضات في حالة ما أصبحت جزءا ً من السلطة الحاكمة لجميع الفلسطينيين. وتكون الدول العربيّة, وبالأخصّ مصر تحت حكم الإخوان المسلمين أو تحت أي نظام ٍ آخر, مهتمّة بشكل ٍ جدّي في ايجاد حلّ للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني وبإمكانها أن تلعب دورا ً قياديّا ً في إقناع حماس بتغيير مسارها. وبالفعل, حكومة مصر قد لعبت عدّة مرات دور الوسيط ما بين حماس وإسرائيل في الماضي في عهد الرئيس حسني مبارك. وقد رتبت في الآونة الأخيرة الحكومة المصريّة هدنة ً بين حماس وإسرائيل بمشاركة أمريكيّة. وبالفعل, فقد أجرى المسئولون الإسرائيليّون في القاهرة اتصالاً مباشرا ً مع حماس للتفاوض حول بنود وشروط الهدنة الأخيرة بعد الحرب الأخيرة ما بين الجانبين في منتصف شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي 2012.
خامسا ً, من خلال تواصله مع العالمين العربي والإسلامي على الرئيس أوباما أن يساعد في إعادة تفعيل مبادرة السّلام العربيّة التي ما زالت تمثّل في نظري أكثر الحلول شمولاً للصراع العربي – الإسرائيلي. يبقى “إنعاش” مبادرة السّلام العربيّة من أهمّ الأمور التي يجب القيام بها. لقد وافق على مبادرة السّلام العربيّة هذه وبشدّة حتّى كبار المسئولين الإسرائيليين أمثال الرئيس شمعون بيرس والرئيس السابق لجهاز الإستخبارات “الموساد” مئير داغان واعتبروها ركنا ً مركزيا ً لحلّ الصراع العربي – الإسرائيلي. وسيكون في صحوة الربيع العربي لمبادرة السلام العربية دفعا ً من نوع خاصّ. فنظرا ً لأن المنطقة بأكملها تمرّ بمرحلة تغيير ثوري, تمثّل مبادرة السلام العربيّة عاملا ً أساسيّا ً في الحفاظ على الزّخم وتعزيزه تجاه تغيير إقليمي ايجابي وبنّاء. ففي خطابه في مؤسسة بروكنغز أطرى السيد كيري علىمبادرة السّلام العربيّة عندما قال:”لم تحظى أبدا ً هذه الخطوة الجريئة بالتركيز الذي تستحقّه عندما اقترحها الملك السعودي عبدالله في عام 2002. لا نستطيع أن نستخفّ بأهميّة موافقة جميع البلدان العربيّة (ومعها جميع الدول الإسلاميّة) من خلال مبادرة السلام على الصيغة الأساسيّة :”الأرض مقابل السّلام” والإعتراف بدولة إسرائيل وتطبيع العلاقات و “خلق دولة فلسطينيّة مستقلّة وذات سيادة” التي تدعو لها مبادرة السلام العربيّة ستساهم بشكل جذري في استقرار المنطقة. وبالفعل, ستباشر معظم الدول العربيّة, إن لم يكن كلّها, بتطبيع العلاقات مع إسرائيل, وتعزيز سلام ٍ دائم سيحسّن بشكل ٍ نهائي حياة ملايين المواطنين العاديين في جميع أرجاء المنطقة.
سادسا ً, إنّ القول بأنّ الكونغرس الأمريكي أكثر مساندة ً لإسرائيل من الرئيس هو قول خاطىء يجب نبذه ولا يستطيع أحد أن يفعل ذلك أفضل من الرئيس نفسه. لقد زوّد الرئيس أوباما إسرائيل خلال فترة رئاسته الأولى بدعم ٍ سياسي واقتصادي وعسكري أكثر من أيّ ٍ من أسلافه. وقبل أن يشرع الرئيس في مبادرة سلام ٍ جديدة, عليه أن ينتهز فرصة إلقاء خطابه حول “وضع الإتحاد” أو انتهاز أية فرصة أخرى لكي يشرح للشعب الأمريكي وللكونغرس مدى أهميّة أن تصنع إسرائيل سلاما ً مع جيرانها العرب وأنّ في صميم مصلحة الولايات المتحدة أن تستلم القيادة في صنع السّلام مهما بدت هذه الفرصة محفوفة بالخطر وذلك لمساعدة إسرائيل في التوصّل لسلام ٍ مع أمن ٍ في نفس الوقت. ومن الضروري أن يقوم الرئيس بشرح أنّه في حالة عدم اتخاذ خطوات عمليّة الآن, فإن مستقبل إسرائيل كدولة يهوديّة ديمقراطيّة قد يصبح في خطر. وكونه صديقا ً موثوقا ً به لإسرائيل, يستطيع وزير الخارجيّة, السيد جون كيري, أن يشرح لزعماء الكونغرس ويؤكد لهم ضرورة العمل الآن وفي الحال لأن سلام إسرائيل مع جيرانها الفلسطينيين هو جزء لا يتجزأ من التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل القومي وقضية أساسيّة للإستقرار الإقليمي.
سابعا ً, من أكبر العوائق بين الإسرائيليين والفلسطينيين هو عدم الثقة المتبادلة والمعضلة السيكولوجيّة للصراع. ولذا فمن المهمّ جداً أن تقوم الولايات المتحدة بممارسة كلّ ضغط ٍ ممكن على كلا الجانبين, الإسرائيلي والفلسطيني, للشروع في تغيير رواياتهما الشعبيّة, كلّ عن الطرف الآخر, والتوقّف عن التصريحات اللاذعة وعبارات الكراهيّة والتشكّك. أضف إلى ذلك, على الولايات المتحدة أن تصرّ بأن تقوم حكومات الطرفين بتشجيع الجامعات والمؤسسات الغير حزبيّة ووسائل الإعلام وأهل الفكر بالبدء في عمليّة تغيير العقليّات أو الأفكار “الموروثة” منذ عشرات السنين حول قضايا لا يمكن تجنبها للوصول إلى اتفاقيّة.
وحتّى لو تمكّن القادة الفلسطينيّون والإسرائيليّون من التوصّل لاتفاقيّة خلف أبواب ٍ مغلقة, لا يمكنهم بكلّ بساطة الخروج بتصريحات حول التنازلات التي قاموا بها بدون تحضير جماهيرهم والرأي العام أولا ً لذلك. لنفترض أن اتفاقيّة حول مشكلة اللآجئين الفلسطينيين تنصّ على عودة جزء بسيط فقط إلى ديارهم الأصليّة في إسرائيل وذلك للحفاظ على الهويّة اليهوديّة للدولة, في حين أنّ الأغلبيّة العظمى من الفلسطينيين ما زالت تؤمن بحقّ العودة للجميع. أضف إلى ذلك, لن يكون هناك حلّ للدولتين بدون أن تصبح القدس الشرقيّة عاصمة لإسرائيل والفلسطينيين. وبالرغم من أنّ المدينة المقدّسة ستبقى موحّدة, غير أنّه من الصعب جدّا ً على الشعب اليهودي تقبّل هذا الأمر. ولهذا السبب, يجب أن يوضع الأساس بالتزامن مع إعادة استئناف المفاوضات, إن لم يكن قبل ذلك, لتغيير الرواية الشعبيّة وإعداد الرأي العام في كلا المعسكرين نفسيّا ً لقبول التنازلات اللازمة. وستبيّن الإرادة في تشجيع الحديث العام حول هذه القضايا الحساسة والشائكة وبشكل ٍ واضح مدى التزام أيّ من الطرفين أو كليهما في الوصول إلى اتفاقيّة تعود بالفائدة على كلا الطرفين. زد على ذلك, لتجنّب الوصول لطرق ٍ مسدودة يجب تنفيذ الإتفاقيّة على عدد ٍ من المراحل مع التأكد بأن إي تنازل يقوم به طرف يوجد ما يقابله من الطرف الآخر, وهذا كلّه مبنيّ على أساس اتفاقيّات أوليّة ومبدئيّة مسبقة لخلق ثقة تدريجيّا ً بين الطرفين.
لقد ألقت في الآونة الأخيرة الأحداث العالميّة ظلالها على الصّراع العربي – الإسرائيلي, منها مثلا ً المخاوف الدوليّة حول برنامج إيران النووي والحرب الأهليّة الدامية والمستعرة في سوريا إضافة ً إلى الثورات والأعمال الإرهابيّة التي لا تتوقّف في التسبّب بالبلاء والألم لأمم عديدة في المنطقة. وأثناء ذلك يغلي الصّراع بهدوء تحت السطح ويزداد سوءا ً باستمرار لقيام إسرائيل ببناء مستوطنات جديدة وتوسيع ما هو قائم منها, هذا فيما يبقى الفلسطينيّون منقسمين على أنفسهم بشكل ٍ ميئوس منه, عاجزين عن تشكيل جبهة موحّدة وإظهار الحزم اللازم لكي يؤخذ السّلام الذي يريدونه بصور جديّة.
يجب أن يكون الآن ايجاد حلّ للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني المزمن الذي مرّ عليه حتى الآن ما يزيد عن ستين عاما ً على رأس سلّم أولويات الرئيس أوباما لأنه يشكّل قضيّة مركزيّة للسّلام العربي – الإسرائيلي ويعزّز بشكل كبير الأمن والإستقرار الإقليميين. لا يمكن الإبقاء على الوضع الراهن الذي لن يؤدي سوى لحرب ٍ جديدة ومهلكة لن تترك وراءها منتصرين بل فقط دمارا ً مرعبا ً وفجوة ً أعمق مما هي عليه الآن بين الطرفين. ومن مصلحة, بل وأيضا ً من مسئولية الولايات المتحدة وضع نهاية ٍ لهذا الصّراع المدمّر في منطقة لا يمكن فيها المغالاة في تقدير المخاطر لجميع الأطراف المعنيّة.
قد يستحقّ الرئيس باراك أوباما جائزة نوبل للسّلام, ولكنه سيكون جديرا ً بها فعلا ً إن نجح في صنع سلام ٍ ما بين إسرائيل والفلسطينيين, وسيكون هذا السّلام أعظم تركة ٍ له.