كارثة إنسانيّــة وانخداع سياسي
تتحدّى المذبحة المستمرّة والفظائع التي تجتاح سوريا والوحشيّة التي تُرتكب ضدّ رجال ونساء وأطفال أبرياء أفظع أعمال التجريد من الإنسانيّة التي قد يقترفها بشر ٌ ضدّ بشر في كابوس ٍمرعب. وحكومة تذبح شعبها وتشوّه جيلا ً بأكمله ليست حكومة جديرة بالتفاوض. وإنها لمهزلة أن تبقى إدارة أوباما غاطسة ً في وهمها بإمكانيّة إيجاد حلّ سياسي في الوقت الذي ُيقتل فيه عشرات الآلاف من السوريين بسبب الحذر الذي ليس في محلّه وفقدان الرؤية الأخلاقيّة والمعنويّة.
لا شكّ في أنّ الإتفاقيّة الأخيرة ما بين الولايات المتحدة وروسيا التي أعلنها وزير الخارجيّة جون كيري لعقد مؤتمر دولي “كمتابعة لمؤتمر جنيف الأخير المنعقد في الصيف الماضي” بهدف إيجاد حلّ سياسي سيلقى نفس المصير الذي لقيته جميع الجهود السابقة.
بالتأكيد يمكن القول بأن الحلّ السياسي هو الحلّ المفضّل لأنّ إدخال المزيد من الأسلحة المتطورة في الصّراع والضروريّة لترجيح كفّة الثوار في القتال قد تزيد من تصعيد الصّراع وقد تغلق نافذة أي أمل لحلّ سياسي.
ومن الجدير أيضا ً بالتصديق هو القول بأن للرئيس أوباما مخاوف مشروعة أن تقع هذه الأسلحة في أيادي متطرّفين إسلاميين قد يستخدمونها بدورهم ضد أهداف الولايات المتحدة وحلفائها. ولكن هذه الحجج تغفل عن الحقيقة وهي الواقع الموجود على الأرض والذي يتحدّى حلآًّ سياسيّا ً في هذه المرحلة المتأخّرة.
أوّلا ً, بشّار الأسد لم يرث فقط كرسي الرئاسة عن والده بل نظاما ً كاملا ً للحكم يشمل طلائع مدنيّة موالية له من حزب البعث وآلة عسكريّة قويّة على رأسها قادة عسكريّون علويّون وقوّات قويّة من الأمن الداخلي وجهاز استخبارات محلّي واسع الإطّلاع ومنتشر في كلّ مكان. ويترأس كلّ هذه الأجهزة والمؤسسات علويّون بالدرجة الأولى مرتبط مصيرهم بمصير نظام الأسد.
وبصرف النّظر عمّا إذا سُمح للرئيس الأسد بمغادرة البلاد سالما ً أو قُتل, فليس هناك مستقبل لآلاف كبار الموظفين والمسئولين في النظام – اللذين نفّذوا أوامر الأسد القمعيّة والوحشيّة – للإفلات من العقاب, وستتمّ مطاردتهم إن هم بقوا في البلد بصرف النّظر عمّن سيحكم سوريا بعد الأسد. هؤلاء يقاتلون من أجل البقاء أحياءً وسيقاومون أيّ حلّ سياسي لا يمنحهم الحصانة من المقاضاة أو الملاحقة ويحميهم بشكل ٍ دائم من العقاب. ونظرا ً للوضع الحالي في سوريا, لا يستطيع أحد أن يقوم بمثل هذا الإلتزام.
ثانيا ً, هناك ثقافة الثأر والعقاب المؤسفة التي لن يتخلّى عنها أي سوري فقد أحد أفراد أسرته أو حامولته فيطلب الثأر لفقدان أحبّائه. لن يكون هناك ما يسمّى “الحقيقة والمصالحة” على غرار ما حدث بجنوب إفريقيا, كما وليس هناك شخصيّة مرموقة ومعروفة عالميّا ً أمثال نلسون مانديلا تتجمّع حوله جميع الفصائل وتتصالح فيما بينها وتنهي أعمال القتل الرهيبة التي تستمرّ في تمزيق قلوب ملايين السوريين.
أضف إلى ذلك, يغذّي الصراع الطائفي دائرة العنف والثأر في الشرق الأوسط, فالعراق يقدّم مثالا ً مقنعا ً على ذلك: فبالرّغم من الإنتخابات الحرّة والنزيهة تستمرّ السنّة والشيعة في قتل بعضهم البعض حتّى بعد عشرة أعوام من بداية نشوب الحرب في العراق. وقد يكون الوضع في سوريا حتّى أسوأ من العراق وستتحدّى أعمال القتل بدافع الثأر أية تدابير سياسيّة.
ثالثا ً, سوريا مجزّأة فصائليّا ً على طول عدّة خطوط ٍ طائفيّة وهي: السنّة, العلويين, المسيحيين, الأكراد, الشيعة والدروز. هذا علاوة ً على عشرات المجموعات المسلّحة التي ستبدأ منافساتها على المزيد من النفوذ السياسي عند الإطاحة بالأسد أو قتله. ومن الوهم الإعتقاد بأنه من الممكن أن يكون هناك مرحلة انتقال سياسيّة سلميّة, تماما ً كما هو من الخطأ الإعتقاد بأنّه من الممكن لممثّلي حكومة الأسد والمعارضة أن يشكّلوا معا ً الحكومة الإنتقاليّة كما اقترحت الولايات المتحدة وروسيا.
إنّ لدى جميع الثوّار وأحزاب المعارضة, بصرف النظر عن انتماءاتها أو توجهاتها السياسيّة أو الدينيّة, مصالح في الإطار السياسي المستقبلي. وفي حالة انتهاء دور العامل الموحّد لجميع هذه الفصائل وهو خلع الأسد من السلطة سُتترجم سريعا ً المنافسة السياسيّة بينها إلى عنف ٍ متجدّد.
رابعا ً, يتمتّع الأسد بتحالفات قويّة, وبالأخصّ مع إيران وحزب الله الذي له مصالح قويّة في الإبقاء على نظام الأسد. وبالنسبة لإيران, يعتبر الحفاظ على نفوذها في سوريا ذو أهميّة استراتيجيّة قصوى لضمان سيطرتها على الهلال ذات الأغلبيّة الشيعيّة الذي يمتدّ من البحر الأبيض المتوسّط للخليج العربي.
سيبذل حزب الله, الذي يعمل وكيلا ً لإيران في المنطقة, كلّ ما بوسعه لتقويض أية حكومة سوريّة جديدة لا تستمرّ في تقوية قاعدته السياسيّة بحيث يبقى رائد المقاومة العسكريّة ضدّ إسرائيل.
أضف إلى ذلك, فقد أصبحت سوريا أرض المعركة ما بين الدّول السنيّة المذهب وفي مقدمتها المملكة العربية السعوديّة وقطر وتركيا وآخرون يساندون الثوّار, هذا من ناحية, وإيران الشيعيّة ومعها حزب الله اللذين يقاتلون جنبا ً إلى جنب مع الموالين للرئيس بشّار الأسد من الناحية الأخرى. لا يستطيع أي حلّ سياسي أن يرضي كلا الطرفين حيث أنّ الصّراع بين السنّة والشيعة متأصّل تاريخيّا ً مع تعقيدات خطيرة قد تؤدي إلى حرب ٍ إقليميّة.
ستطيل مخاطر منع تسليم الأسلحة للثوار أو زيادة التأخير في تسليمها لهم – وهم بأمسّ الحاجة اليها الآن – مدى القتال وستزيد من عدد القتلى والجرحى بعشرات الآلاف وستؤدي باحتمال ٍ كبير إلى تفكك سوريا بالكامل على طول الخطوط الطائفيّة. وما يزعج أكثر هو الخوف من أن تقع بعض مخزونات الأسلحة الكيماويّة في أيدي مجموعات ٍ متطرّفة, الأمر الذي سيكون له عواقب وخيمة.
تستمرّ روسيا في تزويد الأسد بأسلحة متطوّرة جدّا ً, بما في ذلك منظومات دفاع جوّي, بذريعة أنها “عقود قديمة”, وتشكيلة من الأسلحة الهجوميّة الأخرى والذخائر التي تصبّ في سوريا من إيران, هذا ولم تفعل الولايات المتحدة شيئا ً يذكر لمنع تدفّق هذه الأسلحة وترفض رفع حظر توريد الأسلحة للثوّار.
يتطلّب حلّ عملي للأزمة في سوريا بالتأكيد التعاون التامّ بين الولايات المتحدة وروسيا. ولكن أخذا ً بعين الإعتبار موجة الرّعب التي تجتاح سوريا, لا الولايات المتحدة ولا روسيا تستطيعان جمع الشتات للتوصّل إلى حلّ سياسي يرضي جميع اللاعبين السياسيين. لقد فشلت هذه الجهود في الماضي حتّى مع دعم الأمم المتحدة وجامعة الدول العربيّة ومع روسيا والولايات المتحدة. لقد كان هذا الحلّ السياسي حلا ً وهميّا ً خادعا ً كما هو عليه الآن, لا بل أصبح خادعا ً وبعيد المنال على نحو ٍ مضاعف عمّا كان عليه لأنّ الحرب الأهليّة في سوريا قد تجاوزت نقطة اللارجوع.
وإبّان ذلك, ومع كلّ شهر ٍ يمرّ يُقتل آلاف السوريين ومئات الآلاف من اللاجئين يتدفقون للدول المجاورة, هذا ناهيك عن الهجرة الداخليّة لأعداد ٍ مماثلة. وخطر حرب ٍ إقليميّة يهدّد الآن المنطقة أكثر من أيّ وقت ٍ مضى. فلماذا تضييع الوقت والمرور في هذا “التمرين” العقيم إذا كان الفشل هو النتيجة الأكيدة ؟
قلب الرئيس أوباما في صيف عام 2012 رأسا ً على عقب التوصية التي تبنّاها بالإجماع طاقمه الأمني الوطني بتسليح الثوّار السوريين. ومنذ ذلك الحين قُتل أكثر من 40.000 سوري, معظمهم من المدنيين.
من ناحية أخرى أبقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأسد على رأس نظامه عن طريق تزويده علنا ً وبشكل ٍ فاضح بالدعم العسكري والمالي والسياسي ممكّنا ً إيّاه من قتل المزيد من عشرات الألوف من المدنيين الأبرياء. لقد أصبح يُنظر للرئيس أوباما في المنطقة بسبب تراخيه وتقاعسه – بشكل ٍ غير مقصود – على أنّه شريك متآمر مع روسيا وفي آليّة القتل التي يديرها الأسد.
لا يزال هناك بعض الوقت للتأثير, ولربّما حتّى للعب دور ٍ في تشكيل حكومة تمثيليّة جديدة إذا عجّلت الولايات المتحدة في انهيار حكومة الأسد عاجلا ً قبل آجلا ً لأن الوقت ينفذ. وللقيام بذلك, على الرئيس أوباما أن يستجيب لدعوة حلفائنا في المنطقة, أوروبا وتركيا والعديد من الزعماء في مجلس النواب ومجلس الشيوخ الأمريكيين الذين يحثّون البيت الأبيض أن يفعل شيئا ً الآن.
صحيح أنّه من الحكمة ألاّ يلقي الرئيس أوباما بالحذر جانبا ً, ولكن عليه أيضا ً أن يعلم بأنه لا يستطيع تغيير اتجاه الريح لمنع تلبّد العاصفة من اكتساح المنطقة وترك دمار ٍ لا يمكن تصوّره في صحوتها.