أروا قادتكم الطريق للسلام
إذا كان هناك فرصة نجاح بسيطة في المفاوضات الإسرائيليّة – الفلسطينيّة، يجب أن تعتمد هذه على ثلاثة شروط أساسيّة. أوّلاً، يجب أن تصل هذه المفاوضات لاتفاقيّة حول قضيّة الحدود الحرجة وأن تفصل هذه القضيّة عن قضايا أخرى صعبة متنازع عليها (مثل قضيّة القدس واللآجئين) وتبقى ملتزمة ً بذلك بدلا ً من التطلّع لتحقيق سلام ٍ شامل الذي يتعذّر الوصول اليه في هذه المرحلة. وثانيا ً، يجب أن تبقى الولايات المتحدة مرنة ونشطة وتقدّم أفكارها الخاصّة وتستخدم نفوذها على كلا الجانبين لإبقائهما في مسار التفاوض. وأخيرا ً، يجب تنمية الثقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين من خلال نشاطات التواصل واللقاء من شعب لشعب. وهذه الأخيرة موضوع هذه المقالة.
تشير استطلاعات الرأي المتكررة بأن أغلبية واضحة من الإسرائيليين والفلسطينيين يريدون السّلام. والآن وقد بدأت المفاوضات الرسميّة، يجب ألاّ يبقى الشعبان راضيين عن أنفسهم، إذ هم من يستطيعون البدء بنشاطات التواصل من شعب ٍ لشعب والتي يجب أن تجرى بالتزامن مع مباحثات السّلام. هذه هي الطريقة الوحيدة لبناء الثقة بين الجانبين والسماح لهم مع مرور الوقت برؤية بعضهم البعض بنظرة ايجابيّة مختلفة تماما ً، هذا بدلا ً من الشعور السائد بالتسلّط الذي يتمتّع به الإسرائيليّون والشعور بالإنهزاميّة الذي يعاني منه الفلسطينيّون.
النقاط التالية ليست أفكارا ً ثوريّة، بل أنّ بعض هذه النقاط والإجراءات قد أتّخذ في الماضي ولا تزال تعمل حتّى اليوم ولو على نطاق ٍ ضيّق. غير أنّ هذه الإجراءات والخطوات لم ُتتّخذ أو تُستخدم بطريقة متماسكة وهادفة وثابتة لغرس وتنشئة مجموعة مختلفة من القيم الإيجابية التي ستغذي بدورها الثقة بين الجانبين.
أوّلا ً، الزيارات المتبادلة: يجب أن يطالب الشعبان بأن تسمح لهم حكوماتهم بزيارة بعضهم البعض بسهولة. والقلق أو المخاوف بشأن الأمن يمكن بالتأكيد تسكينها، فإسرائيل في وضع ٍ ممتاز ومميّز في قيامها بالفحوصات الأمنيّة على خلفيّة الزوار مسبقا ً ومنع تسرّب متطرفين إسلاميين وأسلحة. بإمكان إجراء الفحوصات الأمنية عند المعابر على غرار الإجراءات الأمنيّة المتبعة في المطارات، فهذه سريعة ودقيقة. أجل، من الصعب المبالغة بقيمة وأهميّة مثل هذه الزيارات المتبادلة عندما يلتقي الناس العاديّون مع بعضهم البعض ويتبادلون الخبرات والتجارب ويكسبون شعورا ً حقيقيّا ً بإنسانيّة كلّ منهم.
ثانيا ً، النشاطات والفعاليّات النسائيّة: على النساء الإسرائيليّات والفلسطينيّات، وهنّ المتضررات بشكل ٍ خاص من هذا الصراع المستمرّ، أن يستخدمن نفوذهن الهائل في المطالبة بإنهاء الصراع. بإمكانهنّ الإصرارعلى قيام حكوماتهنّ بتسهيل تجمعاتهنّ، سامحين لهنّ بتبادل خبرات الماضي المؤلمة وآمال مستقبل ٍ أفضل. والمعروف أنّ للنساء سلطة أكبر بكثير من الرجال إذا تلاحمت أياديهنّ وخرجن للشوارع بقوّة وبقين متماسكات ومثابرات على المضي قدما ً برسالة التوقّف عن جميع أعمال العنف وإنهاء الإحتلال تدريجيّا ً. ويقدّم دور المرأة في إنهاء الصّراع في ايرلندا الشماليّة وخلال فترات حروب البلقان صورة ً حيّة حول مقدرة النساء على التأثير على مجريات الأحداث.
ثالثا ً، المناسبات الرياضيّة المشتركة: بإمكان فرق كرة القدم وكرة السلّة وفرق رياضيّة أخرى أن تلتقي بالتناوب في إسرائيل وفلسطين للتدريب أو الإشتراك في مباريات وديّة أو لإقامة وتطوير زمالة أو صداقة حميمة. سيدرك الفلسطينيّون أنّ ليس كلّ إسرائيلي يحمل بندقيّة ومتأهب لإطلاق النار على الفلسطينيين، وسيرى الإسرائيليّون أيضا ً الوجه الإنساني المشرق للفلسطينيين وحسن ضيافتهم وسيتوقفون عن مساواة الشباب الفلسطيني بالإرهابيين.
رابعا ً، التبادل الطلابي: حان الوقت للطلبة الفلسطينيين من جميع المراحل (المدارس الإبتدائية والثانويّة والجامعات) أن يختلطوا بأقرانهم الإسرائيليين وأن ينظر الطلبة الإسرائيليون في أعين أقرانهم الفلسطينيين ويتحدّثون معا ً عن طموحاتهم وآمالهم المستقبليّة، متحررين من التشنجات اليوميّة والخوف. لن يُسمح بعد اليوم أن يتغذّى الأطفال الإسرائيليّون والفلسطينيّون بالأفكار السامّة ورفض بعضهم البعض، بل عكس ذلك، يجب تشجيع الطلاب على استعمال أحدث تقنيات التواصل الإجتماعي للتواصل مع بعضهم البعض وتبادل القصص والخبرات ولعب الألعاب. إنّ مستقبل الإسرائيليين والفلسطينيين بأيدي هؤلاء الشباب. وما يتعلمونه اليوم قد يرتدّ على مجتمعاتهم سلبا ً أو يقود إلى مستقبل ٍ يعمّه السّلام والرّخاء.
خامسا ً، المعارض الفنيّة: هناك العشرات من الفنانين الإسرائيليين والفلسطينيين اللذين لم يلتقوا أبدا ً من قبل ويتبادلوا آراء بعضهم البعض لمعرفة مدى انعكاس أعمالهم الفنيّة على حياتهم ومجتمعاتهم. ولذا يجب القيام بمعارض فنيّة مشتركة في إسرائيل وفلسطين تجوب مختلف المدن للسماح للناس، لعامة الشعب، شبابا ً وشيوخا ً، بإحساس ما يجيش في خواطر وعواطف الطرف الآخر من مشاعر. وقد تتسع هذه التبادلات الثقافيّة لتشمل الإحتفالات الموسيقيّة والعروض المسرحيّة وأشكال فنيّة أخرى.
سادسا ً، اللقاءات والندوات الشعبيّة: يجب على الجامعات والمؤسسات الفكريّة وغيرها من المعاهد التعليميّة أن تشجّع الإسرائيليين والفلسطينيين على الإشتراك في مناقشات الطاولات المستديرة حول حتميّة التعايش السلمي والكيفيّة التي بإمكان الطرفين القيام بها لإزالة الحواجز والعوائق بينهما. وبإمكان الطبقة الأكاديميّة التي تلعب دورا ً محوريّا ً في تغيير المفاهيم الشعبيّة أن تقوم بتسجيل مثل هذه اللقاءات والندوات – التي تكون بداية ً على نطاق ٍ محدود – على أشرطة فيديو ونشرها أو إذاعتها بنقل ٍ مباشر (أون لاين) عبر وسائل الإعلام المتعددة لمئات الآلاف من المواطنين. هذا ويجب أن يصبح شعار “حتميّة التعايش السّلمي” شعارا ً منزليّا ً يحتضنه الجميع.
سابعا ً، ندوات لمناقشة القضايا المختلف عليها: يجب إقامة ندوات مشتركة تتألف من أفراد مؤهلين بمختلف الخبرات الأكاديميّة والتجارب الشخصيّة واللذين يتمتّعون باحترام وتقدير المجتمع لهم في مجال تخصّصهم ويكونوا مفكّرين مستقلّين ولا يتقلّدون وظائف أو مناصب رسميّة في حكوماتهم ولديهم المعرفة العميقة حول قضايا النزاع. مثلا ً، عند معالجة مستقبل القدس، يجب أن ينضمّ للمشاركين بشكل ٍ خاص علماء دين وأئمّة وحاخامات وكهنة يمثّلون الديانات السماويّة الرئيسيّة الثلاثة، هذا إضافة ً إلى مؤرّخين. وبالرّغم من أنّ القدس قد تصبح عاصمة الدولتين، غير أنّ البحث في إمكانيّات وحلول أخرى أمر مهم، إن لم يكن لأيّ سبب ٍ آخر فعلى الأقلّ لإظهار سبب جدوى أو عدم جدوى خيارات أخرى.
ثامنا ً، تغيير الروايات الشعبيّة: على المسئولين الإسرائيليين والفلسطينيين دور مهمّ جدّا ً ليلعبوه وذلك بتغيير رواياتهم حول القضايا المتنازع عليها. والآن وقد استؤنفت المفاوضات، لزاما ً على الجانبين الحفاظ على موقف شعبي ايجابي ومتفائل. وبصرف النّظر عما إذا كانت هذه المفاوضات ستنجح أو ستفشل، سيواجه الإسرائيليّون والفلسطينيّون بعضهم بعضا ً عاجلا ً أم آجلا ً على طاولة المفاوضات. وكلّما كان الجوّ الذي يخلقانه بينهما أقلّ حدّة ً، يكون من الأسهل عليهما الإجتماع ثانية ً والإستمرار في بناء بلوكات سلام ٍ دائم.
تاسعا ً، دور وسائل الإعلام: على وسائل الإعلام الإسرائيليّة والفلسطينيّة أن تبدأ بالحديث عن التطورات الإيجابيّة بين الطرفين لإعلام الناس بأنّ العلاقات الثنائية ليست جميعها محزنة ومظلمة، بل فيها جوانب ايجابيّة مشرقة. مثلا ً، يمكن أن تتحدّث وسائل الإعلام عن التجارة الجارية والتعاون الأمني والصحّي بين الطرفين وعن الطلبة الفلسطينيين الذين يدرسون في الجامعات الإسرائيليّة وغيرها من الجوانب. بهذا المفهوم يصبح دور وسائل الإعلام مهمّا ً في نشر المعلومات حول الحاجة إلى مزيد ٍ من التواصل بين الشعبين. وعلى وسائل الإعلام أن تذيع الأحداث الإيجابيّة حال وقوعها وعلى المحررين والمعلّقين تشجيع المزيد من هذه النشاطات.
أجل، تستطيع وسائل الإعلام أن تلعب دورا ً محوريّا ً في تشكيل العلاقات الثنائيّة الإسرائيليّة – الفلسطينيّة مؤكدة على حقيقة أنّ هناك شعبان سيعيشان للأبد جنبا ً إلى جنب، رضوا أم أبوا، ولذا فإن التعاون بينهما أمر ٌ لا بدّ منه لخيرهما وازدهارهما مستقبلا ً.
إنّ طموحات الإسرائيليين والفلسطينيين نحو السّلام صادقة ويمكن تحقيقها. ولكن أصاب قادتهم الصّمم وفشلوا مرارا ً في الإستجابة لدعوة الشعب. والآن هي مسئولية الشعب لأخذ زمام المبادرة والتأشير لقادتهم الطريق نحو السّلام.