لماذا تبقى هزيمة أوباما في سوريا في صميم الموضوع
أثارت مقالتي السابقة بعنوان: “هزيمة أوباما في سوريا” صدىً إيجابياً واسع النطاق من ناحية ونقداً ليس بأقلّ منه من الناحية الأخرى فيما يتعلق بالمنطق الكامن وراء حجتي بأن على الرئيس أوباما معاقبة الرئيس السوري بشار الأسد لاستخدامه أسلحة كيميائية ضد شعبه. كما وقلت بأنه في حالة تجنب الرئيس أوباما ضرب سوريا، فإن هذا الأمر سيقوّض بشدّة نفوذ أمريكا الإقليمي ومصالحها الأمنية القومية وكذلك مصالح حلفائها.
يقول العديد ممّن قرأ المقالة بأنّ “الرئيس يجب أن يفكّر أولاً بأفضل المصالح لمجتمعنا ومواطنينا”. صحيح بأنّ على الرئيس أن يهتم شخصياً بخير ومصلحة الشعب الأمريكي أوّلا ً، ولكن هذا لا يعني على أية حال بأن بإمكان الولايات المتحدة أن تعيش بمعزلٍ عن العالم لأن التدخل الخارجي للولايات المتحدة يخدم أيضاً الشعب الأمريكي.
إن مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ذات أهمية قصوى لاقتصادها ولأمنها القومي. ما زال العديد من الدول الغربية، بما فيهم الولايات المتحدة، تعتمد على النفط ولدينا مصالح تجارية هامة، بما في ذلك بيع معدّات عسكرية لحلفائنا لردع التهديدات الخارجية، ولدينا أيضاً تحالفات استراتيجية مع دول الخليج ومع الأردن وإسرائيل.
هذا كله لا يُترجم لعبء اقتصادي على الشعب الأمريكي تحّمله أو للالتزامات أمنية ليس بالضرورة أن نتحملها، فالولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة يستفيدون بشكل تبادلي من هذه العلاقات الثنائية.
لقد أدرك كلّ رؤساء أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية أهمية الشرق الأوسط واستثمروا فيه كثيراً لحماية المصالح الأمريكية القومية القصيرة والبعيدة الأمد. وأولئك الذين يعادلون حرب العراق والحرب المستمرة في أفغانستان بضرية عسكرية محدودة ضد سوريا يغفلون بشدة عن نقطة رئيسية. ففي حين أنا أوافق تماماً بأن حرب العراق كانت “حرب اختياريّة” دون ضرورة وبدون توجيه سليم، وأن الحرب في أفغانستان قد أسيء استخدامها بشدة وكان يجب أن تنتهي قبل عدّة سنوات، غير أن سوريا تحتل مكاناً مختلف تماماً من حيث الوقت.
مغفّل من يقترح أن علينا وضع أقدامنا على الأرض السورية أو أن نقوم بحملة عسكرية مفتوحة ضد نظام الأسد وتوريط أمريكا مرّة أخرى في حرب شرق أوسطية باهظة الثمن.
يؤكد العديد من رجال الإستخبارات والخبراء العسكريين بأن ضربة عسكرية محدودة ضد نظام الأسد لن تؤدي إلى ضربات انتقامية، لا من قواته العسكرية ولا من أيّ من حلفائه. لقد ضربت إسرائيل في الماضي عدّة منشآت عسكرية سورية دون الرد على أيّ منها، حيث أن الأسد يخشى هجومات إسرائيلية مضادة واسعة النطاق قد تنهي قبضته على السلطة.
ووجّه لي قارىء آخر السؤال الإفتراضي:”هل سترسل ابنك إلى الهلاك عوضاً عن الثوار اللذين لا تعلم سوى القليل عنهم؟” وجوابي بوضوح لا، لن أرسل ابني لكي يحارب في سوريا، ولا أقول أنّه على أيّ أب آخر أن يرسل ابنه أو ابنته ليحارب إلى جانب الثوار. لم يطلب الثوار في الماضي ولا هم يسعون في الوقت الحاضر للحصول على جنود أمريكيين يحاربون من أجلهم. هم بكل بساطة يطلبون أسلحة يتمكنون بها من الدفاع عن أنفسهم وتحرير البلد في النهاية من ديكتاتور ظالم.
وكتب قارىء آخر يقول:” أنت تعلم جيداً بأن من يُدعون “ثوار” هم في الواقع مقاتلون من الخارج قد أتوا إلى سوريا.” هذه الجملة تشرح في الحقيقة سبب وجود مثل هذه المقاومة الشديدة ضد “التدخل” الأمريكي بأي شكل أو صورة، وهذا ما يكدّرني.
أجل، هناك مقاتلون أجانب، منهم إسلاميّون وجماعات تنتمي للقاعدة يتجمعون في سوريا ولديهم أجندتهم السياسية الخاصة لمستقبل البلد. ولكن أي شخص يعرف في الواقع الحقيقة على الأرض يعلم أيضاً بأنهم أقليّة مقارنةً بالثوار السوريين أهل البلد الذين يقاتلون من أجل الحرية والحفاظ على حياتهم.
لقد ارتدّ آلاف العسكريين والبلوماسيين وموظفي الدولة ومسئولون من الأمن الداخلي وعشرات الآلاف من المواطنين السوريين وهم يقاتلون ويموتون في سبيل عقيدتهم.
والقول، كما كتب قارىء آخر في تعليق له على مقالتي:”يبدو أنك تنسى أيضاً بأنّ هناك فرق كوماندوز أجنبية، شاملة مجموعات إسرائيلية، تقاتل ضد الأسد. إسرائيل وفرق الكوماندوز التابعة لها قادرة تماماً على المناورة والتلاعب بموضوع الأسلحة الكيميائية ويبدو من الواضح تماماً بأن استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا كان أفضل طريقة لفتح شارع واسع لتدخل أمريكي وأجنبي في سوريا وهذا أمرٌ مربح جداً لإسرائيل”، هو قولٌ منافٍ للعقل.
لقد سمعت عدة نظريات حول مؤامرات، ولكن هذه تفوقها جميعاً. يبدو أنّ هذا القارىء وللأسف منفصل تماماً عن الواقع. إسرائيل كانت في الواقع سعيدة بحافظ الأسد الأب والآن ابنه، حيث أن الرئيسان التزما وحفاظا على اتفاقية فكّ القوات أو ما يسمى الهدنة الموقعة مع إسرائيل في عام 1974 بدون أية حوادث عنيفة على طول الحدود بينهما.
لو كان للإسرائيليين حكم في الأمر لكانوا أحبوا أن يستمرّ الأسد في حكم سوريا، لأنّ الوضع الحالي “لا سلام ولا حرب” هو تماماً ما يفضله الإسرائيليون. إسرائيل لن تكسب شيئاً إذا تفككت سوريا وبالتأكيد ترتعب من أن تصبح إيران وحزب الله العامل المهيمن في الشرق الأوسط.
قارىء آخر يتفق بشكل عام مع آرائي كتب يقول:”ولكن ما يدهشني هو نظرتك المشوّهة عن دور الولايات المتحدة في العالم. هل نسيت التشيلي وأماكن كثيرة أخرى كانت فكرتنا للإستقرار فيها تدمير الديمقراطية ودعم أو تنصيب ديكتاتوريات؟”. صحيح أن الولايات المتحدة ساندت أنظمة استبدادية في أرجاء متفرقة من العالم. ولكن بالرّغم من ذلك، لا نستطيع أن نغفل عن قتل الآلاف من الرجال والنساء والأطفال (بفضل الموقفين الروسي والصيني) في وجه شلل مجلس الأمن الدولي وندّعي في نفس الوقت بأننا على أرضٍ ٍ أخلاقية سامية.
معاقبة الأسد بضرب بعض منشآته العسكرية وإضعاف قواته الجوية وتزويد الثوار في نفس الوقت بالأسلحة التي يحتاجونها تبقى – حاضراً ومستقبلاً – الشيء الضروري للإسراع في رحيله. إذا تُركت الحرب الأهلية المستمرة بدون رقابة، ستفيض حتماً لباقي المنطقة وسيكون لها عواقب إقليمية رهيبة. لا تستطيع الولايات المتحدة بكلّ بساطة أن تتخذ موقفاً سلبياً عندما تصبح المخاطر عالية وعندما يتربّص المنافسون لأمريكا، إن لم يكن أعدائها، روسيا وإيران بشكل خاص، لاستغلال أي مظهر لضعفها.
لقد اتهمني قارىء آخر بأن حجتي ضعيفة لأنني “ألوم الرئيس أوباما على كل شيء”. لا، حجّتي أنه على الرئيس بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة أن يتخذ أحياناً مخاطر معيّنة محسوبة عندما تخدم هذه المخاطر أمريكا بأفضل وجه ممكن.
لا يمكن عمل سياسة أمن قومي بالوفاق الشعبي. عامّة الشعب والعديد من رجال الكونغرس الأمريكي غير مطّلعين على الإستخبارات المبوّبة وليس لديهم فهم واضح بخلافات الصراع الدقيقة. وللرئيس حق الإمتياز في اتخاذ خطوة عسكرية محدودة إذا اتضح بأنها ضرورية وذلك بدون استشارة الكونغرس. لقد فعل ذلك العديد من الرؤساء السابقين بمن فيهم كلينتون في كوسوفو وريغان في غرينادة.
الرئيس أوباما هو الذي حدّد “خط أحمر” ووضع مصداقيته الشخصية ومصداقية الأمّة على المحك. هذا لا يعني أنّه ليس بإمكانه أن يغيّر رأيه، بل يستطيع ذلك. ولكن المهم هو الإنطباع الذي يتركه لدى الأصدقاء والأعداء على حدّ سواء.
قد يقوّض الإفتقار للمصداقية جهودنا في الرّدع، وعليه ستتشجع قوى إقليمية مثل إيران في الإستمرار بجهودها لتطوير أسلحة نووية من أجل تثبيت هيمنتها الإقليمية دون عقاب.
لا تريد الولايات المتحدة أن يقوم حلفاؤها الإقليميون بالتصرف على عاتقهم في التعامل مع الصراعات لأنهم بكل بساطة لا يثقون بأن أمريكا ستعمل الصواب. أحببت ذلك أم لا، فالولايات المتحدة هي القوّة العظمى في العالم، وعلى عاتقها مسئولية دولية، أكان مخططاً لها مسبقاً أم حسب الظروف.
السؤال هو ليس أن نتدخل في الشئون الدولية أم لا، بل كيف اخترنا التدخل بحكمة وعمّا إذا كان هذا التدخل يخدم مصالح أمريكا الوطنية أم لا، في الوقت الذي نفي فيه بالتزاماتنا تجاه أصدقائنا وحلفائنا.
بالتأكيد لا يعتقد كل شخص بأن الولايات المتحدة ملتزمة بحقوق الانسان وبأننا نحن، كأمة، نسعى لتحسين حياة الناس، البعيدين والقريبين. لقد كتب لي أحد القرّاء يقول:”أنا أعلم بأنك تعرف تاريخك، ولكنني فضولي أن أعرف أين تعمل الولايات المتحدة أو عملت عبر كامل تاريخها من أجل “خير ورفاهية الناس في أي مكان آخر” غير الولايات المتحدة. نحن نعمل فقط حتى هذا اليوم لخدمة ورفاهية أولئك اللذين يتمتعون بوضعٍ جيد تماماً.”
أنا بالتأكيد لا أعتقد بأن الولايات المتحدة تتصرّف دائماً من منطلق حب الغير، ورخاء البشرية ليس بالضرورة أولى أولوياتها. أمريكا بعيدة من أن تكون كاملة، ولكنني أتحدّى أي شخص يريني دولة أخرى، كبيرة كانت أم صغيرة، لها قدرة الإستيعاب والإمكانيات والإرادة والقيم لتعزيز خير ورخاء الناس في جميع أرجاء العالم.
لا، هذه ليست مجرّد عبارات وطنية، فالعديد من ألدّ أعدائنا اللذين يدينون الولايات المتحدة كلّ يوم يرسلون أولادهم للدراسة إلى الولايات المتحدة ليتعلموا حضارتها وطريقة الحياة فيها ويتعرّفوا على ما تقدّمه أمريكا للعالم. هذه هي القيم التي بنيت على أساسها هذا البلد والتي تطلب من الرئيس أن يتصرّف برؤية وشجاعة عندما تكون دول أخرى ومنظمة الأمم المتحدة عاجزة أو غير راغبة أو مستعدة لدعم قدسية الحياة.
فبصرف النظر عن نجاح أو فشل خطة تفكيك وتدمير أسلحة سوريا الكيميائية، سيستغرق الأمر أشهر، إن لم يكن سنوات، قبل انتهاء هذا المشروع الطموح. هل ننتظر، أثناء ذلك، حتى يموت 120.000 سوري آخر قبل أن تصحو ضمائرنا ؟