الخيار ما بين وعد ٍ غير مألوف وخطر ٍ جديد
تبنّى ونفّذ الإسرائيليّون والفلسطينيّون على مدى ال (48) عاما ً من الإحتلال الإسرائيلي سياسات كان الهدف من ورائها تحصين مواقفهم، هذا في حين أثبتت هذه السياسات بأنها تأتي بنتائج عكسيّة خطيرة وقد عادت الآن لتطاردهم. يحتاج كلا الطرفين أن يلقي نظرة ً فاحصة على ما جرى بشكل ٍ خاطىء والشروع في تحرير أنفسهم من فكرة “بإمكاني أن أحصل عليه كلّه” وهي الفكرة التي كانت حتّى الآن القوة الدافعة وراء خطواتهم السياسيّة.
فبالرغم من أنّ الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة كانت تعظ وتنادي بحلّ الدولتين، غير أنها قد تبنّت وبشكل ٍ منهجي سياسات تتنافى مع هذا الوعد. لقد شيّدت هذه الحكومات بصورة متواصلة مستوطنات جديدة ووسّعت مستوطنات قائمة، وقامت مدفوعة ً بحماس ٍ “مسياني” باغتصاب أراض ٍ فلسطينيّة شبرا ً شبرا ً بقصد خلق حقائق غير قابلة للرجوع على الأرض ممّا يجعل من إمكانيّة إقامة دولة فلسطينيّة أمرا ً لا يمكن تحقيقه.
ومع أنّ مشروع الإستيطان يبدو ناجحا ً، غير أنّه يعرّض للخطر رفاهيّة وقيم إسرائيل الروحيّة ويخلق ظروفا ً يدعوها روبرت جاي ليفتون “وضعا ً يخلق فظائع”، أي بمعنى جوّ مهيّأ بطريقة “تمكّن شخصا ً يدخله من ارتكاب فظائع”. فعمليّة اختطاف وقتل الشبان الإسرائيليين الثلاثة بصورة وحشيّة وما تلاها من خطف وحرق الطفل الفلسطيني حتّى الموت كعمليّة انتقاميّة هي واحدة من حالات ٍ كثيرة في هذا السياق.
لقد اتخذت وبشكل ٍ منهجيّ في المناطق المحتلّة إجراءات قاسية، شاملة الغارات الليليّة والسّجن بدون محاكمة والحدّ من حركة التنقّل وعمليات التفتيش وإلقاء القبض العشوائيّ والهدم العقابي للمنازل وإلغاء الإقامة ..وغيرها. وكلّ ذلك قد أدّى إلى اضمحلال مبادىء إسرائيل الديمقراطيّة وتقليص إمكانيّة بقائها دولة يهوديّة.
ونتيجة ً لذلك فقد أدّى الردّ النفسي لقوات الإحتلال والمحتلّ على حدّ سواء للخوف وفقدان الثقة والعجز والغيظ والحزن والغضب العشوائي والوحشيّة.
وفي الوقت الذي يقوم فيه الإسرائيليّون بانتزاع الفلسطينيين كرامتهم، فإن هذه الممارسات الفظّة قد انتزعت بالمقابل إنسانيّة الإسرائيليين أنفسهم ودعت لإدانات دوليّة واسعة النطاق مع عواقب وتداعيات بعيدة المدى. وممّا زاد الطين بلّة قيام القادة الإسرائيليين وبشكل ٍ منتظم بنشر روايات شعبيّة لاذعة تصوّر الفلسطينيين كأشرار وغير جديرين بالثقة وعاقدي العزم على تدمير إسرائيل.
ومع مرور الوقت أصبح هناك شريحة كبيرة من المجتمع الإسرائيلي مقتنعة ً بأنه ليس هناك شريك فلسطيني جدير بالتفاوض معه، الأمر الذي قوّض بشدّة أيّ أمل أو إمكانيّة لعقد اتفاقية سلام، ممّا أجبر الفلسطينيين للجوء لحلّ دولي، الأمر الذي سيكون له وبعمق أثرا ً سلبيّا ً على البلد.
استغلّ الإسرائيليّون كذلك الإنقسام الفلسطيني والتهديد الوجودي المزعوم الناشيء عن الفلسطينيين المتطرفين على أنها السبب الذي يجعل السّلام أمرا ً مخادعا ً. وهذا النهج القدري ليس بأقلّ من جرح ٍ ذاتي التسبّب، حيث أنّ من شأن السّلام فقط أن يضمن أمن إسرائيل وطول عمرها.
لقد استخدم السياسيّون الإسرائيليّون الأمن القومي كغطاء لتبرير أية أعمال شريرة، هذا في حين يستغلّون القوّة العسكريّة لعرض حلّ سريع لصراع ٍ مزمن، مثيرين العنف بدلا ً من الإستقرار. ونتيجة لذلك فقد أصبحت إسرائيل تدريجيّا ً دولة عسكريّة، معزولة ومزدراة ومشجوبة لأنها ضلّت سبيلها وفقدت مبررات وجودها.
وبالمقابل، فإنّ الشعب الفلسطيني يضرّ بقضيته أكثر من أية قوّة خارجيّة وذلك بالإلتجاء للمقاومة المسلّحة التي يتخلّلها أحياناً فترات هدوء. هم أيضا ً منشغلون بالأحاديث والخطابات العامّة الحاقدة، نافرين بذلك بشكل ٍ متزايد المجتمع الإسرائيلي ومعمّقين في نفس الوقت غضب الفلسطينيين وكراهيتهم تجاه إسرائيل.
ونتيجة ً لذلك فقد وسّع الفلسطينيّون الإنشقاق السيكولوجي مع إسرائيل وعزّزوا مفهوم أنّ إسرائيل كانت وستبقى حاضرا ً ومستقبلا ً خصما ً عنيدا ً، تاركين بذلك حيّزا ً ضئيلا ً للمصالحة ومزعزعين بشدّة طموحاتهم في إقامة دولة مستقلّة لهم.
لقد أبقى القادة الفلسطينيّون بقصد محنة اللآجئين الفلسطينيين مستغلينهم كرهائن في صراعهم مع إسرائيل. إنّهم مستمرّون في تعزيز الأمل الكاذب بحقّ العودة تاركين ملايين اللآجئين يعانون الأمرّين في المخيمات، في حين يمنعون إعادة توطينهم و/أو تعويضهم، الأمر الذي جعل حلّ مشكلة اللآجئين أمرا ً في غاية الصعوية.
وبدلاً من التركيز على بناء الدولة استخدم الفلسطينيّون التهديد أو العنف لتحقيق أهدافهم السياسيّة. ونتيجة لذلك فقد بقوا إلى حدّ كبير جزعين وقانطين ومعتمدين على موارد خارجيّة للبقاء على قيد الحياة، هذا في حين أنهم يظهرون ضعفا ً مقارنة ً بقوّة إسرائيل العسكريّة والإقتصاديّة، سامحين بذلك أن يكون لإسرائيل اليد العليا في مفاوضات السًلام.
والإنشقاق ما بين السلطة الفلسطينيّة وحماس وعدم مقدرتهما على المصالحة عبر الثمانية أعوام الماضية يستمرّ في معاناة الفلسطينيين مانعا ً إياهم من التوصّل لوحدة الهدف وبرامج خالية من العنف يتحدّون بها إسرائيل.
أجل، من المحزن أن يبقى الإسرائيليّون والفلسطينيّون منشغلين فيما يعرّفه ليفتون ب”الكليانيّة” وهذه من سمات حركة ايديولوجيّة ترغب في التحكّم الكلي بسلوك الآخرين. وهذه مدفوعة بخوف ٍ رجعي من التغيير الإجتماعي وكذلك برغبة لأمان موجّه إلى العنف ضدّ مجموعات تشكّل تهديدا ً للبقاء.
ونظرا ً للديناميّة السياسيّة التي تتغيّر بشكل ٍ جذريّ ما بين الطرفين في الآونة الأخيرة، فإنّ لدى الإسرائيليين والفلسطينيين الآن، كما كان الأمر في الماضي، خيار واحد فقط وهو أنّ عليهم التعايش بسلام.
وحيث أنّ الفلسطينيين قد اتجهوا الآن للمجتمع الدولي للإعتراف بهم وتعويضهم، من الحكمة لهم ألاّ يتخذوا خطوات أخرى في هذا الإتجاه حتى انتهاء الإنتخابات الإسرائيليّة وتشكيل حكومة جديدة. لا يستطيع جمهور الناخبين الإسرائيليين اعتبار هذه الإنتخابات كأية انتخابات أخرى ويجب عليهم هذه المرّة بصورة حكيمة وصائبة اختيار القادة الذين يدركون الوضع السياسي المتغيّر إلى حدّ كبير وقبول ما لا مفرّ منه وهو: دولة فلسطينيّة.
قد تكون هذه الفرصة الأخيرة لسنوات ٍ قادمة للخيار ما بين وعد غير مألوف للسّلام وخطر جديد.