العواقب الوخيمة للإنتقام والثأر
شاركني قارئ عادي لمقالتي الأسبوعيّة مؤخراً بتعليق حول القتل الوحشي لدفينا مئير، وهي يهوديّة اسرائيليّة طُعنت حتى الموت على يد شاب فلسطيني. لا حاجة أن أقول بأنه لا توجد كلمات للتعبير عن الغضب والاشمئزاز حول هذه الجريمة البشعة – جريمة قتل امرأة بريئة، أمّ لستة أطفال ليس لديها حقد في قلبها ضد أي فلسطيني. فمن الطبيعي أن يكون ردّ الفعل الغضب الشديد، وغالبا ما يتبادر إلى الذهن هو الإنتقام والأخذ بالثأر من الجاني لمثل هذه الجريمة الشنيعة التي ارتكبت بدم ٍ بارد.
ويقول المعلّق في تعليقه على هذه الجريمة: “كان رد فعلي الأولي الغاضب هو أن علينا قتل 100 شخص عربي، 10 لها و10 لكلّ من زوجها وأطفالها ووالديها. ولكن هذا لن يكون له تأثير يُذكر، لأنهم [أعني الفلسطينيين] غالبا ما يذكّروننا بأنهم يحبون الموت كما نحب نحن الحياة “.
ومهما كان موت دفينا مئير المأساوي مرعبا ً، فإنّ مما يستعصي على الفهم هي فكرة المعلّق الأوليّة لقتل 100 فلسطيني أخذاً بثأرها . ولكن بما أنّ”الفلسطينيين يحبون الموت”، فلن يُجدي قتل 100 فلسطيني مقابل إسرائيلي واحد، وذلك انطلاقا ً من منطقه بأنهم قوم يفضلون الموت على الحياة. ولذا فإن حياة 100 فلسطينياً لا قيمة لها. وبدلاً من ذلك، فإنه يدعو إلى أن “العقاب الجماعي هنا مناسب لأن هناك ذنب جماعي. فقريته [قرية المجرم] وشعبه يمجّدون الإرهابيين ويجعلون منهم أبطالا ً “.
وما لا يُسبر غوره هو كيف أن الإنتقام والثأر يمكن أن يخفّضا افتراضيّا ً الحلقة المفرغة من العنف التي تنهك تدريجيّا ًكلا الجانبين منذ ما يقرب من سبعة عقود من الزمن. وإحساس هذا المعلّق لقتل المزيد من الناس الأبرياء يتعارض بشدّة مع الأخلاق اليهودية التي أعرب عنها بوضوح زوج الضحيّة الذي قال وقد اغرورقت عيناه بالدموع: “أنا لست غاضبا من أحد. نحن لا نملأ أنفسنا من ذلك. نحن لا نلعن العرب … نحن لسنا أناس يكرهون “.
وكما قال تماما ً زوج دفينا الضحيّة، قال أب الطفل الفلسطيني، محمّد أبو خضير، الذي إخطتفه ثلاثة شبّان إسرائيليّون وأحرقوه حيّا ً في شهر يوليو من عام 2014 : “أحرقوه (يعني ابنه محمد) مرّة واحدة، ولكنّنا نحترق كلّ يوم . يسألني زبائنني اليهود إن كنت أكرههم، فأقول لهم لا. أنا أكره فقط أولئك الذين فعلوا ذلك. وأطلب منكم أن تعاقبوهم بأشد طريقة ممكنة “.
حقيقةً استطاع هذان الشخصان المفجوعان – إسرائيلي وفلسطيني – أن ُيظهرا مثل هذه الإنسانية والقوة في زمن الألم العميق والعذاب، حيث قدّما مثالاً يُحتذى به لجميع الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء. فالدعوة إلى الإنتقام الجماعي لا تدل فقط على الإفلاس الأخلاقي لكاتب هذه السطور، ولكن تدعو أيضا غيرها من أعمال الإنتقام التي لن تخلّف وراءها سوى المزيد من الأرامل والأيتام اليهود والفلسطينيين.
من خلال أي معيار أخلاقي يمكن لهذا الكاتب أن يبرّر قتل المئات من الأبرياء الفلسطينيين من الرجال والنساء والأطفال، حتى لو أشادوا بالقاتل لجريمته البشعة هذه؟ وكيف سيكون ردّ فعل هذا الكاتب لو قتل الفلسطينيون بدم بارد مائة إسرائيلي لأنهم هلّلوا لمقتل فلسطيني على يد اسرائيلي؟
وفي حين أنّه من الممكن النظر لمفهوم الموت بشكل مختلف بين بعض الفلسطينيين، فإن الكاتب يتجاهل تماما حتى فكرة أن عضواً من أسرة فلسطينيّة – أكان أبا ً، أمّا ً، إبنا ً، أو أحد الجدين – هو إنسان يشعر تماما ً كأي إسرائيلي يتعذّب من الألم واليأس لفقدانه عزيزا ً لديه.
يتجاهل كاتب هذه السطور، مثل الكثير من الإسرائيليين، حقيقة أن ارتكاب جرائم مرعبة ليست ظاهرة مقتصرة على الفلسطينيين. فماذا عن الشاب الإسرائيلي، عميرام بن عليل، البالغ من العمر 21 عاما ويعيش في مستوطنة الضفة الغربية كرمي تسور، الذي ألقى قنبلة حارقة على منزل في وقت كانت الأسرة نائمة، مما أسفر عن مقتل طفل عمره 18شهراً ووالديه؟
لا توجد كلمات مناسبة لإدانة عملية الإختطاف والقتل المأساوية لثلاثة مراهقين إسرائيليين في حزيران عام 2014، والتي أدت إلى القتل الإنتقامي المروع للطفل محمد أبو خضير بعد حوالي شهر. هذا العمل الذي لا معنى له من الإنتقام مهد فقط الطريق لتوغل إسرائيل في غزة الذي أسفر عن مقتل أكثر من 2000 فلسطيني وتدمير واسع النطاق، وعشرات الإصابات على الجانب الإسرائيلي بين قتيل وجريح.
يجب أيضا أن يُنظر إلى هذه الأحداث المأساوية في سياق العلاقات المتدهورة بشكل خطير بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والقادة الفاسدين في كلا الجانبين الذين يتابعون أجنداتهم السياسية بتحريض الناس ضد بعضهم البعض.
والمأساة هي أنّ أعمال الإنتقام هذه غير مقتصرة فقط على الإسرائيليين والفلسطينيين الذين يعيشون في الضفّة الغربيّة، بل يتم تصديرها إلى إسرائيل. وبالقدر الذي يتعاطف به معظم الإسرائيليين مع المستوطنين، يتعاطف العرب الإسرائيليّون مع إخوانهم في الضفة الغربيّة وقطاع غزّة لما تربطهم من صلة االقرابة والنسب. فالمعاناة والتمييز ضد جانب واحد فقط له تأثير مباشر على نظيره.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال تبرير القتل المروع لثلاثة إسرائيليين في تل أبيب في يناير 2016 على يد شاب عربي إسرائيلي، وهو نشأت ملحم من بلدة عرعرة العربية في إسرائيل.
ورئيس الوزراء نتنياهو على حقّ في تصريحه عندما قال: “نطالب من كلّ شخص الولاء لقوانين الدولة. لا يستطيع أحد أن يقول : أنا إسرائيلي في حقوقي وفلسطيني في مسؤولياتي. فمن أراد أن يكون إسرائيليا ، عليه أن يكون إسرائيليّا ً على طول الخطّ، بالحقوق والواجبات. والمسؤولية الأولى والأهم هو اتباع قوانين الدولة “.
أما وقد قلت ذلك، يجب أن يدرك نتنياهو أيضا ً بأن هناك تمييز متفشي ضد عرب إسرائيل. لا يمكن لنتنياهو وأتباعه أن يستحوذوا على كلا الأمرين. فإذا أراد للعرب الإسرائيليين تحمل مسؤولياتهم والإلتزام بقوانين البلد، يجب عليه حينئذ ٍ منحهم أيضا ًحقوقا ً متساوية، ليس فقط بفرض القانون ولكن في لقاءات حياتهم اليومية.
يجب على أي إسرائيلي يهودي أو فلسطيني، بغض النظر عن مكان إقامته (أكان ذلك في الضفة الغربية أو في إسرائيل ذاتها)، يريد منع هذه الحلقة المفرغة من الإنتقام أن يتوقف ويفكر أين سيؤدي هذا كلّه؟ يجب على أي شخص أو جهة تدعي السّعي وراء حلّ للصراع أن تشجب بأشد العبارات دوامة الإنتقام والثأر.
هناك الكثير من اللوم واللوم المضادّ. يحتاج الجانبان إلى فهم متبادل لألم ومعاناة وخوف وشكوك الطرف الآخر التي ضربت بجذورها في التجارب المؤلمة المتراكمة التي عانى منها كلا الجانبين وساهم فيها على مر السنين، ولا تزال ملتهبة بالقسوة المجردة واللاإنسانية العمياء التي يمارسانها ضد بعضهما البعض في أعمال إنتقامية ضد أناس أبرياء.
فمتى يدرك الإسرائيليون والفلسطينيون العاديون أن الإنتقام لا يقدّم علاجاً للصراع المزمن، ولكن هو لعنة سوف تستمر تطارد كلا الجانبين ويستفيد منها فقط حفارو القبور ؟