الحقيقة حول الأمن القومي الإسرائيلي
خلقت التجارب التاريخية لإسرائيل، إلى جانب عقود من المواجهات العنيفة مع الدول العربية والفلسطينيين، حاجزاً نفسياً كبيراً راسخا ً في نفسية كلّ إسرائيلي، وواضعاً المخاوف الأمنية الوطنية المشروعة لإسرائيل في مركز سياستها الداخلية والخارجية. وعلى أية حال، ليس هناك قوة عسكرية- أو حتى مصادرة كامل الضفة الغربية – من شأنها أن تضمن أمن إسرائيل سوى السلام الإسرائيلي الفلسطيني المستدام.
إنّ ربط حكومة نتنياهو أمن إسرائيل الوطني بما يسمى ب “الحدود الدفاعية” هو أمرٌ مخادع ومضلّل، ويهدف إلى توفير غطاء له ولحكومته للإستمرار في تسميم الأجواء مع الإستيلاء على الأراضي الفلسطينية.
في عصر الصواريخ وتكنولوجيا الصواريخ الدقيقة، لم يعد بعد الآن عمق الأراضي يضمن أمن إسرائيل، حيث كانت حماس قادرة على إمطار آلاف الصواريخ على إسرائيل، وبعضها وصلت الى القدس وتل أبيب.
وتكشف أيضا ً “إنتفاضة السكاكين” الحالية سخافة الحجة القائلة بأن الحدود، أية حدود كانت، تستطيع توفير الأمن المحكم مائة بالمائة. إنه الإحتلال واستمرار توسّع المستوطنات هي ما يكمن وراء هذه العمليّات والهبّات العنيفة، وطالما استمر الإحتلال، إسرائيل لن تعرف يوماً معنى الراحة.
لقد أكّد في ديسمبر 2012 غابي اشكنازي، بصفته رئيس الأركان السابق للجيش الإسرائيلي، على مشاعر الكثيرين من زملائه عندما قال: “يجب على إسرائيل أن تعترف بحدود قوتها وتتعاون مع القوى التي تدعم المصالح الإسرائيلية.”
وأعرب عن هذا أيضا ً بجدارة ووضوح أحد كبار القادة العسكريين الإسرائيليين ، شاؤول أريئيلي، الذي قال: “نحن نعتقد أن السلام سيوفر الأمن أفضل من أي شيء آخر.” وعدا ذلك، جميع التدابير الأمنية، مهما كانت قسرية ومفصّلة ومتطورة، لا يمكن أن تضمن أمن إسرائيل القومي .
وكمعلّم في فنّ التكتيك الذي يستخدم الخوف لحشد الدعم الشعبي، يسرع نتنياهو في الإشارة إلى الإنسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة ليدّعي بأنه لا يمكن الوثوق بالفلسطينيين، حيث أن حماس تستخدم القطاع منذ ذلك الحين كمنصة لإطلاق الصواريخ، بدلا من بناء الأساس لدولتهم.
وللأسف، إغترّ الكثير من الإسرائيليين بهذه الحجة غير الشريفة على الرغم من أنها قد تبدو صحيحة على السطح. وعندما يقوم المرء فقط بتفحّص طريقة الإنسحاب الإسرائيلي من غزّة، يدرك حينها سخافة هذه الحجة.
كان الإنسحاب من غزة في عام 2005 متهوراً ومن جانب واحد فقط. عرف آنذاك رئيس الوزراء شارون أن حماس كانت أقوى بكثير من قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، وأنها تعدّ العدّة للإستيلاء على السلطة في القطاع. كان هدف شارون الرئيسي، على أية حال، تخليص إسرائيل من الأعباء الإقتصادية والأمنية التي كانت تشكلها غزة. وإذا كان من شأن إجراءاته هذه أن تقسّم الفلسطينيين، فذلك أفضل بكثير.
نتنياهو يعلم جّيداً أن أي اتفاق سلام يجب أن يرتكز على بعض الأحكام والآليات والخدمات اللوجستية، ووضع جدول زمني يهدف إلى ضمان الإمتثال على أساس المعاملة بالمثل، وفي نفس الوقت بناء وتغذية الثقة في العملية. سيتيح ذلك من التخفيف المتبادل للتحيزات والتصورات الإنتقائية حول نوايا الطرفين تجاه بعضهما البعض، هذا في حين يقومان بتنفيذ جميع أحكام الإتفاقية.
لذا يجب أن ينطوي الإنسحاب من معظم أراضي الضفة الغربية على عدد من التدابير الأحادية والثنائية والمتعددة الأطراف المحددة التي يمكن، على نقيض الإنسحاب من غزة، أن تستمر وتعزّز السلام. ولو وضع شارون هذه التدابير في حينها، لكانت النتيجة مختلفة تماماً اليوم. وتشمل هذه التدابير:
الإنسحاب على مراحل والمعاملة بالمثل:
لمنع تكرار غزة، يجب أن ينفذ الإنسحاب من الضفة الغربية على مراحل خلال فترة من 5-8 سنوات مع إطار زمني محدد بين كل مرحلة وأخرى يقوم على التدابير المتبادلة وبناء الثقة.
وخلال هذه الفترة، يجب على الجانبين تطوير علاقات بين الشعبين، بين عامة الناس ، بما في ذلك العلاقات الإقتصادية والثقافية والعلمية، التي من شأنها أن تخفف من الضغط النفسي على الجانبين.
الحفاظ على التعاون الأمني الكامل:
بحكم تجارب الإسرائيليين والفلسطينيين السابقة، يبقى التعاون الأمني الكامل بين الجانبين شرط مسبق. ويبيّن التقدم الذي أحرزه الطرفان، إسرائيل والسلطة الفلسطينية، بأن التعاون الأمني الفعّال ممكن، حتى في جوّ من التوتر. وكان نجاح هذا التعاون ممكنا بفضل التزام السلطة الفلسطينية بالسلام، هذا فضلاً عن استعداد إسرائيل للتعاون الكامل مع الأمن الداخلي التابع للسلطة الفلسطينية وتحسين التعاون الإستخباراتي.
دولة فلسطينية منزوعة السلاح:
ينبغي أن تكون الدولة الفلسطينية المنشأة حديثاً منزوعة السلاح ، ويكون أمنها مضمونا ً من قبل الولايات المتحدة. ومهما بلغت براعتهم العسكرية، لن يكون الفلسطينيون أبدا في وضع يمكنهم من تحدي إسرائيل عسكرياً، كما أنهم لن يكونوا مهددين طالما هم يعيشون بسلام مع جيرانهم.
وبدلاً من إضاعة مئات الملايين من الدولارات على معدات عسكرية، ينبغي على الحكومات الفلسطينية المستقبلية أن تستثمر في التنمية الإقتصادية والتعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية، مع الحفاظ على علاقات إقتصادية قوية مع إسرائيل يمكن للجانبين أن يستفيدا كثيراً منها.
الحفاظ على قوة ردع موثوق بها:
سوف تقوم إسرائيل بالحفاظ على نظام ردع عسكري موثوق به من شأنه تثبيط همّة الأعداء الحاليين والمستقبليين من القيام بأي تهديد ؛ فإذا فعلوا ذلك، فإنه سيكون في غير صالحهم على الإطلاق. وبالنسبة للإسرائيليين، “لن يتكرر هذا أبدا” ليس مجرّد شعار.إسرائيل عازمة على ذلك ولها الحق القيام بكل ما هو ضروري لمنع التاريخ من تكرار نفسه.
وفي هذا الصدد، يمكن لإسرائيل والولايات المتحدة ضمان عدم وجود دولة واحدة أو مجموعة من الدول قادرة على سحق إسرائيل عسكريا عن طريق الحفاظ على التفوق العسكري النوعي لإسرائيل.
إحياء مبادرة السلام العربية:
في سياق مفاوضات السلام الإسرائيلية الفلسطينية، على إسرائيل أن تقبل بمبادئ مبادرة السلام العربية التي ُطرحت لأول مرّة في عام 2002، والموافقة على عقد مؤتمر مع ممثلي جامعة الدول العربية لمناقشة مزاياها. وهذا من شأنه أن يفتح الباب للتفاوض على اتفاق سلام عربي إسرائيلي شامل، بدءا بعلاقات طبيعية مع الدول العربية وثمّ مع كل الدول الإسلامية.
وكما قال الرئيس السابق لجهاز الموساد، مئير داغان، في يونيو 2011: “يجب أن نعتمد على المبادرة السعودية. ليس لدينا أي وسيلة أخرى، وليس لأن الفلسطينيين هم على رأس أولوياتي، ولكن لأنني أشعر بالقلق إزاء خير ورفاهية إسرائيل وأريد أن أفعل ما في وسعي لضمان وجود إسرائيل “.
قوة حفظ سلام دولية:
طلب إسرائيل للحفاظ على بعض القوات على طول نهر الأردن لمنع تهريب الأسلحة وتسلل الإرهابيين من وادي الأردن هو ساري المفعول. ومع ذلك، لا يمكن أن تكون مثل هذه القوة العسكريّة من الإسرائيليين وحدهم من أجل منعها من الظهور بمظهر استمرار الإحتلال، ولكن فقط بشكل مختلف. بدلاً من ذلك، يجب أن تتمركز قوة حفظ سلام دولية (بمشاركة اسرائيلية وفلسطينية) هناك لمدة يتفق عليها الطرفان. ويجب تجميع مثل هذه القوة من بلدان معينة لديها مصلحة في الحفاظ على السلام، بما في ذلك الأردن، ومصر، والمملكة العربية السعودية، ودول الإتحاد الأوروبي مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وتعمل تحت قيادة الولايات المتحدة.
مظلة الأمن الإقليمي:
في حال التوصل إلى اتفاق سلام وجميع الإجراءات الأمنية في مكانها الصحيح، يمكن للولايات المتحدة أن تقدم المظلة الأمنية على غرار ما اقترحت وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون في يونيو 2009، والتي بموجبها يمكن لجميع الدول في المنطقة التي في سلام مع إسرائيل (ومع بعضها البعض) أن تنتمي لها لردع الخصوم الخارجيين.
وأولئك الذين يدّعون أن هذا ليس الوقت المناسب لإسرائيل لاتخاذ هذه الخطوة، نظراً للثورات والإضطرابات التي تجتاح الشرق الأوسط، هم مخطئون. هذا هو على وجه التحديد الوقت المناسب لإسرائيل، فهي ليست بحاجة الى حريق في حديقتها الخلفية أو طابور خامس في وقت يجب أن تركز على التهديدات القادمة من إيران ومن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فضلاً عن تفكّك سوريا المحتمل.
لقد حان الوقت للإسرائيليين لرفض تكتيكات التخويف التي يمارسها نتنياهو وادّعاءات حكومته الكاذبة. إنّ اغتصاب الأرض الفلسطينية والتوسع الإستيطاني بلا هوادة لا ينزع الشرعية فقط عن متطلبات الأمن القومي المشروعة لإسرائيل، ولكن يهدد أيضا ًوجودها.