نقل السفارة الأمريكيّة إلى القدس
تحقيق إنفراج كبير من تداعيات كارثيّة محتملة
إذا قام الرئيس دونالد ترامب بتنفيذ وعده الذي صرّح به أثناء حملته الإنتخابيّة بنقل السفارة الأمريكيّة من تل أبيب إلى القدس، فسيكون لذلك تداعيات إقليميّة ودوليّة وخيمة. تقوم إدارة ترامب حاليّا ً بإعادة تقييم تداعيات مثل هذا التحرّك ولم يُتّخذ حتى الآن قرار ٌ نهائي بالخصوص. وبالنظر إلى حساسيّة الأمر والعواقب بعيدة المدى، فإنّ الرئيس الأمريكي لو قرّر بالرّغم من ذلك نقل السفارة، فإن من المهمّ أيضا ً أن يتّخذ في نفس الوقت إجراء موازن لمنع التداعيات الكارثيّة المحتملة، وهذا قد يغيّر إلى حدّ كبير ديناميّة الصّراع الإسرائيلي – الفلسطيني إلى الأفضل مع الإحتفاظ بحلّ الدولتين.
ينبغي على ترامب إستخدام مناسبة زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لواشنطن في الخامس عشر من هذا الشهر الحالي ليوضّح له بأن لنقل السفارة الأمريكيّة إلى القدس ثمنه: أ) لا يجوز أن تتعدّى هذه الخطوة على احتمال التوصّل لحلّ الدولتين، ب) ستقوم الولايات المتحدة بالإعتراف بأن القدس الشرقيّة ستكون عاصمة دولة فلسطين المستقبليّة، ج) لا يمكن الإستمرار في التوسّع بالمستوطنات بلا هوادة، و د) يجب على إسرائيل ألاّ تبدأ بتنفيذ القانون الجديد الذي يشرّع عشرات المستوطنات الغير شرعيّة بمفعول ٍ رجعي، والذي ستسقطه على الأرجح وفي أية حال المحكمة العليا الإسرائيليّة.
إنّ نقل السفارة الأمريكيّة من تل أبيب إلى القدس بدون شروط سيكون من ناحية فعليّة الإعتراف بأن القدس، بشطريها الشرقي والغربي، عاصمة إسرائيل. وحيث أنّ الحكومة الإسرائيليّة تصرّ على أنّ القدس هي العاصمة الأبديّة الموحدة للدولة، فإنّ هذه الخطوة ستعني بأن الولايات المتحدة تعترف بهذا الموقف الإسرائيلي.
ولوضع الأمور في نصابها، من الضروري تقييم أولا ً تداعيات مثل هذه الخطوة أحاديّة الجانب من طرف إدارة الرئيس ترامب.
أوّلا ً: ستعتبر الدول العربيّة بقيادة المملكة الأردنيّة الهاشمية – بصفتها حارسة الأماكن الإسلاميّة المقدّسة وهي الجامع الأقصى وقبّة الصخرة المشرّفة – هذه الخطوة بمثابة إعتداء صارخ على الإسلام نفسه. حتّى وإن وضع الإسرائيليون شرطاً خاصّاً يسمح للأردنّ بالإستمرار في إدارة حراسته لهذه الأماكن المقدّسة، غير أنّ الدّول العربيّة لن تسمح لإسرائيل بأي حال ٍ من ألأحوال أن يكون لها السيادة على الحرم القدسي الشريف (جبل الهيكل بالنسبة لليهود)، هذا باستثناء حائط المبكى (الذي يشكّل جزءا ً من السور الخارجي للهيكل الثاني).
ثانياً، ستضع هذه الخطوة – مع كلّ النوايا والأهداف – نهاية لإمكانية إحلال السّلام على أساس حلّ الدولتين. وبالفعل، تعتبر بالنسبة للفلسطينيين إقامة دولة مستقلّة لهم وعاصمتها القدس الشرقيّة قضيّة غير قابلة للنقاش. هذا ليس مجرّد طلب رمزي، بل ضرورة في قلب الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. لا ينبغي لأحد أن يستبعد الإندلاع المحتمل لموجة عنفٍ شرسة ما بين إسرائيل والفلسطينيين ينضمّ لها مجموعات أخرى عربيّة متطرّفة في حالة حرمان الفلسطينيين من إقامة عاصمتهم في القدس الشرقيّة. مثل هذا العنف لن يُقارن بأية موجة أخرى من العنف من التي شاهدناها في الماضي.
ثالثا ً، ستُعاني مكانة الولايات المتحدة ومصداقيتها في الشرق ألأوسط – التي تقوّضت منذ حرب العراق – إنتكاسة أخرى كبيرة في علاقاتها مع حلفائها العرب في المنطقة. يجب على الولايات المتحدة إعادة التأكيد على موقفها ولعب الدور القيادي بدعم شركائها الأوروبيين والعرب لوضع نهاية للصراعات العديدة التي تجتاح المنطقة. لا تستطيع الولايات المتحدة وبكلّ بساطة فتح المزيد من الثغرات لروسيا التي تحرص على الإستفادة من نكسات الولايات المتحدة حيث أنّ الرئيس بوتين مستعدّ للإستفادة بشكل ٍ كامل من الأحوال الفوضويّة السائدة في جميع أرجاء المنطقة.
رابعا ً، قد يكون لهذه الخطوة تأثير عكسي غير عادي على مستقبل إسرائيل لأنّ هذه قد تمنع أية إمكانية أو احتمال لسلام ٍ عربي – إسرائيلي. وقد تشجّع هذه الخطوة أيضا ً حكومة نتنياهو اليمينيّة المتطرّفة لضمّ المزيد من الأراضي الفلسطينيّة وتصعّد من وتيرة توسيع المستوطنات، مجهضة ً بذلك أي احتمال لتعايش سلمي إسرائيلي – فلسطيني. وفي حين يبدو ظاهريّا ً على السّطح بأن خطوة ترامب ستساعد إسرائيل على تحقيق حلمها الذي تحلم به منذ فترة طويلة، غير أنها في الواقع ستقوّض بشدّة علاقات إسرائيل مع مصر والأردن وتعرّض للخطر إتفاقيات السلام معها التي تعتبر قضيّة مركزيّة لاحتواء عدم الإستقرار في المنطقة والحدّ من التهديد الموجه ضد أمن إسرائيل القومي.
خامسا ً، ستزيد هذه الخطوة من نفور المجتمع الأوروبي الذي يشعر بأنه الأكثر تضررا ً من استمرار الإضطرابات والثورات في الشرق الأوسط وينظر إلى الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني بمثابة المساهم الرئيسي لتصاعد التطرّف. إنّه يعتبر إنبعاث حماس وحزب الله ومجموعات أخرى متطرفة كنتيجة مباشرة للإحتلال الإسرائيلي. وبالنسبة للإتحاد الأوروبي، يعتبر نقل السفارة الأمريكية إلى القدس مسمار ٌ آخر، إن لم يكن الأخير، في نعش حلّ الدولتين، الأمر الذي قد يحرّض على مزيد من العنف الإقليمي الذي ستستمرّ أوروبا في المعاناة منه.
تحقيق إنفراج من النتيجة الكارثيّة المحتملة:
إذا ما زال الرئيس دونالد ترامب مصمّما ً على نقل السفارة الأمريكية، بإمكانه أن يحوّل العواقب الكارثيّة المحتملة لمثل هذه الخطوة إلى انفراج تاريخي من شأنه أن يغيّر طبيعة الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني ويوطّد إمكانية إحلال السّلام الذي يعتمد على أساس حلّ الدولتين.
بالنظر إلى أنّ الولايات المتحدة قد اشترت قطعة أرض في القدس الغربيّة لبناء السفارة الأمريكيّة عليها والذي تأجّل من قبل إدارات أمريكيّة متعاقبة، بإمكان ترامب أن يعلن بأن الولايات المتحدة ستشرع عن قريب ببناء السفارة الجديدة في الشطر الغربي من المدينة.
وبالتزامن مع ذلك، يجب على الرئيس ترامب أن يؤكّد ثانية على الدّعم الأمريكي التقليدي لحلّ الدولتين ولإقامة العاصمة الفلسطينيّة في القدس الشرقيّة بشرط أن يتحرّك الفلسطينيّون بسرعة وثبات تجاه التفاوض على السلام مع إسرائيل. هذا وينبغي على الولايات المتحدة أن توضّح بما لا يدعو للشكّ بأن نقل السفارة الأمريكيّة إلى القدس الغربيّة لا يشكّل اعترافا ً بسيادة إسرائيل على القدس الشرقيّة. وهذا يعني بأنه من الضروري أن تؤكّد الولايات المتحدة مجدّدا ً على موقفها بأن القدس يجب أن تبقى تحت أي ظرف مدينة موحّدة وأنّ حقوق جميع المجموعات الدينيّة والعرقيّة محفوظة ومضمونة. وللتأكيد على نواياها تجاه الفلسطينيين، بإمكان الولايات المتحدة أن تشتري أيضا ً قطعة أرض أو عمارة في القدس الشرقيّة لاستخدامها مستقبلا ً مقرأ ً للسفارة الأمريكيّة في دولة فلسطين لأنه لن يحلّ بأي حال ٍ من الأحوال سلام بين إسرائيل والفلسطينيين ما لم تصبح القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينيّة.
لا شكّ بأن حكومة نتنياهو ستعارض بشدّة مثل هذه الخطوة. ولكن بالنظر إلى الدعم العسكري والسياسي الأمريكي الذي لا يمكن لإسرائيل الإستغناء عنه، لا تستطيع أية حكومة إسرائيلية تجاهل الموقف الأمريكي. وبالفعل، إذا كان ترامب معنيّا ً حقّا ً (كما أعتقد) بأمن إسرائيل القومي وبخيرها في المستقبل، فإن الطريقة الوحيدة لضمان ذلك هو الإصرار على أن يبقى حلّ الدولتين خيارا ً قابلا ً للتطبيق.
إنّ الأثار المترتبة على مثل هذا التحرّك ستكون بعيدة وواسعة:
1. بصرف النظر عن اعتراض إسرائيل الشديد اللهجة، فإن هذه الخطوة ستنفخ حياة جديدة في مشروع حلّ الدولتين.
2. ستدفع الفلسطينيين إلى تغيير نهجهم تجاه الصّراع بإنهاء التحريض والعنف حيث أنهم سيبدأون في رؤية إمكانية إقامة دولة فلسطينيّة التي سرعان ما ستصبح حقيقة ً وهو أمر ٌ لا يريدون بالتأكيد تعريضه للخطر.
3. ستعزّز بشكل ٍ جذري موقف الولايات المتحدة الكلي بين حلفائها العرب وتستعيد مصداقيتها كالضامن النهائي للإستقرار الإقليمي.
4. ستدفع الدّول العربيّة لدعم المبادرة الأمريكيّة وتضغط على المتطرفين الفلسطينيين لقبول ما لا مفرّ منه.
5. ستقوّي موقف أحزاب المعارضة في إسرائيل التي ستكون في موقف ٍأفضل لوضع أو تطوير سياسات بديلة لسياسات نتنياهو وفي نفس الوقت ستضعف شوكة الإسرائيليين المتطرفين.
وللتأكيد، بإمكان الرئيس ترامب أن يفي بوعده لنقل السفارة الأمريكيّة وفي نفس الوقت – بدلا ً من نسف أية احتمالات أو إمكانيّات للسلام بين إسرائيل والفلسطينيين – أن يحقن حياة ً جديدة فيه ولربّما يضع نهاية ً لأكثر صراع ٍ مدمّر منذ الحرب العالميّة الثانية.