سوريا تقدّم شهادة على الإفلاس الأخلاقي الدولي
لقد كُتب الكثير عن الحرب الأهلية في سوريا التي اجتاحت البلاد على مدى السنوات الست الماضية، ولكن للأسف أصبح الموت والدمار المتصاعدان في سوريا منذ فترة طويلة مجرد إحصاءات. لقد تخدّر المجتمع الدولي بشكل مريح للرعب الذي لم نشهده منذ الحرب العالمية الثانية. وقد عزز كل من اللاعبين المحليين والخارجيين مصالحهم الخاصة عن طريق إطالة أمد الصراع المميت، على أمل تحسين مواقفهم لخدمة أهدافهم على المدى الطويل. ومن المفارقة أن لا أحد من اللاعبين الرئيسيين الخارجيين – روسيا وإيران والولايات المتحدة وتركيا والمملكة العربية السعودية – والجهات الفاعلة المحلية (نظام الأسد والسنة والأكراد) سينتهي به المطاف بمكاسب دائمة تفوق الخسائر المروعة التي قد ارتكبت بحقّ البلد ومواطنيه.
ماذا حدث لمشاعر “لن نعود للحرب أبدا بعد الآن !” التي تم إحتضانها عالميا في أعقاب الحرب العالمية الثانية لمنع كوارث مثل هذه من الحدوث؟ إلى أي مدى سيهبط المقياس الأخلاقي للمجتمع الدولي قبل أن نستيقظ على الكارثة المتصاعدة؟
كم من الرجال والنساء والأطفال يجب أن يموتوا، وما هو مقدار الدمار الذي يمكن أن يتحمله البلد قبل أن نعمل على وقف هذا الجنون الذي يبدو أنه يصيب كل طرف من الأطراف المعنية، عندما لا يهمهم أي شيء آخر سوى مصالحهم الإجرامية الذاتية ؟
لقد أصبحت “الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية” مجرد شعار يخجِل كل طرف محلي وأجنبي قد يكون بمقدوره إيقاف المذابح ولكنه لم يفعل شيئا. لقد قاموا بتحصين أنفسهم، ولم يتحملوا أية مسؤولية ونزعوا عنهم ملامتهم الأخلاقية في حين أن دماء الشعب السوري البريء لا يزال يُراق بغزارة السيول مفسدا ً ما تبقى من ضمائرهم.
وفي حين عانى الرجال والنساء السوريون من خسائر لا حصر لها وآلام وعذاب وحرمان يتعذّر أن يتخيلها العقل البشري، فإن الأطفال – نعم، الملايين من الأطفال – عانوا من الآلام والكرب واليأس بهدوء لأنهم يظلّون عاجزين ومعوزين.
ووفقا لمنظمة الرؤية العالمية الدولية، فإن “ملايين الأطفال دون سن الخامسة أصبحوا الآن أكثر عرضة من أي وقت مضى للصدمات الجسدية والإصابات والأمراض السارية وسوء التغذية”. وما زال هناك 8.2 مليون طفل على الأقل داخل سوريا وعبر المنطقة يعانون من التشرّد ومن أنظمة صحيّة محطّمة ومنهارة وانعدام الأمن الغذائي، في حين أن أكثر من 2 مليون طفل ينمون كلاجئين.
لقد نشأ ما يقرب من ثلاثة ملايين طفل دون الخامسة من العمر وهم لا يعرفون سوى الحرب فقط. ويتعرض طفل من بين كل أربعة أطفال لخطر الاضطرابات النفسية العقلية الشديدة مع عواقب محتملة مدى الحياة. وأدت الهجمات على المستشفيات إلى إنخفاض نسبة المستشفيات السوريّة العاملة إلى 43 في المائة فقط، هذا في حين فرّ نصف الأطباء السوريين من البلاد.
ويعتقد أن ما يقرب من 80.000 طفل في سوريا مصابون بشلل الأطفال الذي تم استئصاله في سوريا في عام 1995. إن القصف المستمر هو السبب الرئيسي وراء الصدمات النفسية للأطفال التي ستترك ندوبا عاطفية لا تمحى سيعانون منها طيلة حياتهم كبالغين. وخلال فترة الخمس سنوات من الحرب الأهلية انخفض العمر المتوقع عند الولادة بمقدار 15 عاما، وفي المقدّمة عشرات الآلاف من الأطفال قُتلوا.
وإذا لم يكن ذلك كلّه كافيا، فكّر فقط في الأضرار التي لحقت بهؤلاء الأطفال الذين حرموا من التعليم الأساسي حيث مدرسة من كل أربع مدارس إمّا تضررت أو دمرت أو استخدمت للنازحين. لقد كان هناك في عام 2015 خارج المدرسة 400.000 طفل أكثر مقارنة بعام 2014 ، حيث أن أكثر من 4000 هجوم ضد المدارس جعل هذه المؤسسات التعليمية معسرة ماليا.
هذه ليست مجرد أرقام. نحن نتحدث عن كارثة في طور تكوينها سيراها الجميع. تخيل فقط، لقد ُفقد جيلان ! لن يعرف مواليد هذين الجيلين أبدا ً الحياة الطبيعيّة مرة أخرى بل فقط الكرب وعدم اليقين، في حين أن العالم يشاهد ذلك بالرضا واللآمبالاة.
لا أحد يتحدث عن حل يمكن أن يفضي إلى نهاية هذه الحرب الكارثية. مجلس الأمن الدولي عاجز وغير كفؤ في أحسن الأحوال. وروسيا استمرت في استخدام حق النقض ولا تزال لمنع تمرير أي حل لا يفي بمتطلباتها الكليّة. وسيواصل الرئيس بوتين دعم الأسد ولن يدخر جهدا للحفاظ على وجود روسيا في سوريا كنقطة انطلاق لتعزيز نفوذها الإقليمي.
وستواصل إيران، التي تقاتل من أجل الهيمنة الإقليمية، دعم نظام الأسد حتى آخر جندي سوري. والملالي – الزمرة الدينية الحاكمة في إيران – تفعل ذلك باسم “سبحانه وتعالى” الذي يعطيهم “السلطة الأخلاقية” لتدمير البلد طيلة الفترة التي يحتاجونها لتأمين طموحاتهم في الهيمنة من البحر الأبيض المتوسط إلى الخليج.
والرئيس التركي أردوغان الذي يرغب في بسط جناحيه على جميع أرجاء الشرق الأوسط يقاتل من أجل تأمين موطىء قدم في سوريا. إنه يقصف عشوائيّا ً بدون تمييز التحصينات الكردية السورية، متهما إياهم بدعم حزب العمال الكردستاني لمنعهم من إقامة حكمهم الذاتي، الأمر الذي لا يمكن إلا أن يزيد من زعزعة استقرار سوريا.
لقد كانت الولايات المتحدة البلد الوحيد الذي كان بمقدوره وقف هذا الرعب تحت إدارة أوباما. ومن المحزن أن أوباما لم يفعل شيئا ً، مما سمح لروسيا وإيران بمواصلة نهب البلاد وتعزيز مكاسبهما. على الرئيس ترامب، بكل ما يزهو به، أن يرفع أصبعه ويفعل شيئا ًعدا القصف غير الفعّال لمدرّج جوي سوري ردا على استخدام الأسد للأسلحة الكيميائية فقط لإظهار شجاعته،هذا في الوقت الذي يوقف فيه بشكل ٍ مخجل تدريب المتمردين المناهضين للأسد ويجعلهم عرضة لخطر الهجمات التي لا ترحم من قبل القوات السورية والروسية والإيرانية.
وتواصل السعودية توفير المال والمواد للمتمردين فقط لخدمة مصالحها لأنها تواصل شن حرب بالوكالة ضد إيران الشيعية من أجل الهيمنة الإقليمية مما يجعل سوريا ساحة معارك بين الطائفتين بينما يدفع الشعب السوري الثمن.
تُرك الأمر بالطبع للأسد لنهب وتدمير البلاد فقط للبقاء في السلطة. لقد عامل العديد من الدكتاتوريين شعوبهم بالقسوة والفظاظة للحفاظ على قبضتهم على السلطة، ولكن لم ينزل أيّ سلطوي مستبدّ في السنوات الأخيرة هذا الكمّ الهائل من الدمار والخراب واليأس في بلده مثل الأسد، في حين أنه يخدم مصالح روسيا وإيران.
لنلق نظرة على الفظاعات التي ارتكبها الأسد والتي من شأنها أن تقبض قلب أي شخص عادي له القدرة على الشعور. قتل ما يقرب من 500.000 سوري منذ بداية الحرب الأهلية في عام 2011. ويقدر من هم بحاجة إلى المساعدة الإنسانية والحماية ب 13.5 مليون شخص، بمن فيهم أكثر من 6 ملايين طفل و 6.3 مليون شخص مشردون داخليا، وما يقرب من خمسة ملايين سوري فرّوا من البلد وأصبحوا لاجئين.
وبالإضافة إلى الخسائر البشرية المذهلة، تقدر تكلفة الصراع في سوريا حتى الآن ب 275 مليار دولار، ولا توجد نهاية في الأفق لهذه الخسائر الفلكية. وقد يعتقد المرء أن المجتمع الدولي سيستجيب، كحد أدنى، للأزمة الإنسانية من خلال توفير التمويل اللازم، ولكن ما يثير الدهشة في هذا المجال أيضا أن المجتمع الدولي قصّر على نحو مروع. لقد طلبت الأمم المتحدة مبلغا قياسيا قدره 8 مليارات دولار من المساعدات هذا العام لسوريا، و 65 في المائة من إستغاثة اليونيسف ينقصها التمويل، بينما ينفق الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن ما يزيد عن تريليون دولار على القوات العسكرية بشكل جماعي.
لا تترك لنا لإخفاقات المحزنة لجميع الحكومات والمؤسسات المعنية بشكل مباشر وغير مباشر في الكارثة السورية أي مكان سوى أن نناشد الجماهير. يجب عليكم، شعوب الضمير، بغض النظر عن بلد إقامتكم وبغض النظر عن توجهاتهم الدينية أو الثقافية أو الأيديولوجية، أن تنهضوا الآن وأن تسمعوا أصواتكم للعالم. تكلّموا نيابة عن الشعب السوري الذي لا صوت له والذي خُدع من قبل رؤساء دول فاسدين وحُكم عليه بالتشتت والدمار والموت، وهذه تعتبر شهادة محزنة للغاية على الإفلاس الأخلاقي للمجتمع الدولي.