خيــارات حمـــاس
بقلم: أ.د. ألون بن مئير
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليــــــــة
عاد كاتب المقال منذ فترة قصيرة من رحلة ثانية مكثفة دامت عدة أشهر زار خلالها إسرائيل ومصر وفلسطين وقابل عدداً كبيراً من المسئولين الحكوميين وقادة الأحزاب السياسية وأكاديميين ومواطنين عاديين في هذه الدول. وتعكس هذه المقالة، ومقالتان أخريتان ستتبعهما، بعض ما توصّل إليه من انطباعات ونتائج.
إنّ الدرجة التي فازت بها حماس في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني قد تكون أتت مفاجئة حتى للمراقبين عن كثب الساحة السياسية الفلسطينية، غير أن منافسة حركة حماس الجريئة لحركة فتح الحاكمة قد لا تكون حقيقةً سراً غامضاً. لقد استطاعت حماس أن تستفيد تماماً من الأوضاع المتردية التي سادت اجتماعياً واقتصادياً وأمنياً في المناطق الفلسطينية على مدى السنوات الإثنتي عشرة الماضية. وصعود حماس على الساحة السياسية وبشكل بارز لا يعني على أية حال إعطاء الإشارة لبدء سيناريو يوم الحشر، يوم الدينونة، أو بالضرورة نهاية عملية السلام. إنّ حماس، إن لم تكن شيئاً آخراً، فهي تنظيم برغماتي ولن تبدّد مكتسباتها التاريخية السياسية بإجراء تحركات تكتيكية أو إستراتيجية قصيرة النظر من شأنها أن تؤثر سلباً على قدرة بقائها في السلطة.
يعود نجاح حماس وبصورة رئيسية ومباشرة إلى السلطة الفلسطينية نفسها؛ لقد سئم الفلسطينيون العاديون وببساطة من فساد ومحسوبية داما عقداً من الزمن، ومن تقصير السلطة الفلسطينية المأساوي في توفير الخدمات الاجتماعية الأساسية لهم. كما وأنّ إسرائيل قد ساعدت وبطريقة غير مباشرة بفوز حماس عندما قصّرت في تقوية مركز الرئيس الفلسطيني محمود عباس برفضها القيام بأية تنازلات جوهرية له، مثلاً إطلاق سراح الأسرى ووضع حد للعقوبات الجماعية وإزالة حواجز الطرق للسماح للفلسطينيين بقدر أكبر من حرية التحرك، وكبح حركة توسيع المستوطنات. كما وقد ساهمت الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً، بطريقة مباشرة وغير مباشرة، بصعود حماس للسلطة بترك الإسرائيليين و الفلسطينيين وشأنهم ودون أن تحرك ساكناً فترة تزيد عن خمسة أعوام من الانتفاضة التي أدت إلى مواجهة دموية مع الإسرائيليين دمّرت السلطة الفلسطينية وقواتها الأمنية وقضت على عملية السلام. إضافةً إلى ذلك، كانت واشنطن تدفع قبل الأوان لقيام الديمقراطية بدون إعطاء الوقت الكافي لقيام حركة قوية ونزيهة وليبرالية بقيادة شباب من حركة فتح بحيث تصبح هذه معادلة لحركة حماس الأفضل تنظيماً في الوقت الحاضر. أضف إلى ذلك، قيام دول متعاطفة مثل سوريا
وإيران بتقديم الدعم المالي والسياسي للحركة وتسريب الأسلحة لها للاستمرار في مقاومة فعّالة، الأمر الذي قوّى مركز حماس إلى حد بعيد.
إنّ من المهم دراسة الأسباب الكامنة وراء صعود حماس سياسياً كقوة معتبرة لأنّ هذه الأسباب ستشير أيضاً إلى الاتجاهات و الإجراءات التي يجب أن تتخذها حماس للحفاظ على فوزها الساحق. أولاً يجب النظر إلى فوز حماس على أنّه صوت ضد الإدارة الفاسدة والفوضوية والعقيمة للسلطة الفلسطينية. هذا مهم أن نفهمه، حيث أنّ التأييد الأيديولوجي الصلب الذي أحرزته حماس من مؤيديها وأتباعها لا يتعدّى 25 إلى 30% من الشعب الفلسطيني، أما باقي الدعم فقد كان ببساطة صوت احتجاج ضد السلطة الفلسطينية. وإذا أخفقت حماس في الوفاء بوعودها من حيث القيام بإصلاحات اجتماعية واقتصادية تعود في وقت قصير جداً بثمارها على الشعب الفلسطيني، فمن المحتمل أن يتبخّر معظم هذا الدعم الغير أيديولوجي بسرعة.
ثانياً، علينا أن نفهم بأنّ حماس قد انتخبت خلال فترة هدنة ثمّ الحفاظ عليها مع إسرائيل، وليس خلال فترة من العنف الساخط. إنّ الأغلبية العظمى من الفلسطينيين، أكثر من 70%، لا تريد استئناف العنف لأنّه سيعيق أو سيوقف التطور الاجتماعي والاقتصادي الذي هم بحاجة ماسة إليه. بكل بساطة، المجتمع الفلسطيني يتطلع إلى جوِِ خالٍ من العنف ليزدهر فيه. لقد استجابت حماس لهذه الدعوة ويجب عليها الآن الحفاظ على فترة الهدوء.
ثالثاً، لقد كوّنت حماس سمعة على أنّها حركة نظيفة وصادقة ومهتمة بشؤون المواطنين وتضع في مقدمة اعتباراتها خير ورفاهة كافة الشعب الفلسطيني.
رابعاً، إنّ حماس حركة متماسكة سياسيّاً ولها أجندة موحدة قد قدّمت لها توجّهاً واضحاً وزخماً هائلاً طيلة فترة الحملة الانتخابية. وأخيراً، فإنّ حماس تتمتع منذ فترة بقوة دافعة قد تكوّنت من جرّاء انتخاباتها الناجحة لمجالس البلدية، وهذا ما خلق جوّاً متفائلاً من النجاحات الواحد تلو الآخر.
إنّ الأسباب الكامنة وراء صعود حماس للسلطة والتي ذكرتها آنفاً لا تلغي، على أية حال، المشاكل العديدة التي تكاد أن تكون مستعصية ومثبطة للعزيمة والتي ستواجهها حماس. ما لم يقم قادة الحركة بالانتباه إلى الواقع المجبرين على العمل ضمن إطاره، فآخذاً بعين الاعتبار أنّ الخزينة الفلسطينية فارغة تقريباً، على حماس أولاً أن تجد طريقة لدفع رواتب حوالي 136,000 موظف حكومي. على حماس أيضاً أن تتعامل بفعالية مع معارضة فتحوية حرونة، إن لم تكن عنيفة، خصوصاً مع كتائب الأقصى والقياديين السياسيين الشباب الذين يشعرون بأنّ زعماء الحركة قد غدروا بهم. و يجب على قيادة حركة حماس أن تتغلب أيضاً على التوترات القائمة بين صقور الحركة مثل خالد مشعل في سوريا الذي يرفض أي
تكيّف مع إسرائيل، والقادة البراغماتيين والأكثر اعتدالاً مثل الشيخ حسن يوسف في الضفة الغربية وإسماعيل هنية في غزة الذين يتفهمون ضرورة القيام ببعض الحوار بين الحكومة الإسرائيلية وحكومتهم. إضافةً إلى ذلك، حماس الآن تحت ضغط الوقت لتقديم منافع فورية يريدها الشعب ويتوقعها من الحركة. قد يثور الجمهور الفلسطيني بصورة خطيرة من جرّاء القيود الإسرائيلية على حركة الشعب والبضائع وعلى أية عراقيل في السّفر ما بين غزة والضفة الغربية. وأخيراً، هناك دائماً احتمال حدوث حالات أو وقائع من الالتباس أو البلبلة الأولية الناتجة من الافتقار إلى الخبرة في التحكم.
إنّه لمن المحتمل جداً أن تقوم هذه الظروف والأوضاع، إضافة إلى براغماتية حماس نفسها، بتشكيل سلوك الحركة للمستقبل المنظور وخلق اعتدال تدريجي غير ملفت للنظر في تصرف الحركة وفي تفوّه الجمهور. إنّ قادة حماس يدركون أنّه ليس باستطاعتهم التعامل مع الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، فما بالك باستلام معونات مالية منهم، ما لم ينبذوا العنف، ويتوقفوا على الأقل عن الإعلان جهاراً عن نيتهم في تدمير إسرائيل. إنّ أية محاولة لاستئناف العنف ضد إسرائيل سيؤدي إلى انتقام إسرائيلي عنيف، الأمر الذي سيطيح سريعاً بأية برامج للتنمية الاجتماعية والاقتصادية ترنو لها حماس والشعب الفلسطيني على حد سواء. هذا الخطر سيجبر حماس على الاستمرار باحترام وقف إطلاق النار مع إسرائيل, حتى لو أن ذلك يعني إقحامهم في مشاكل مع مجموعات أخرى حرونة مثل الجهاد الإسلامي وكتائب الأقصى.
وأخيراُ, فإن قادة حماس تعي تماماً بأن العمل بوفاق وتجانس مع فصائل فلسطينية أخرى, خصوصاً فتح, قد يكون مفتاحاً لنجاحهم. ولذا لن يوفروا جهداً للقيام بذلك في الأسابيع القادمة. ولهذا الغرض, سيكون قادة حماس بحاجة لضمان تعاون غير مباشر مع إسرائيل, ولذا سيستندون بقوة على السيد محمود عباس للاستمرار بالحوار مع إسرائيل. لربما يقومون حتى بتعيين رئيس وزراء معتدل ولا غبار عليه من أجل ضمان بعض التنازلات. وبالرغم أنه ليس من المحتمل أن تقوم حماس في القريب العاجل بنزع سلاحها, غير أنها قد تضم ميليشياتها لأجهزة الأمن الفلسطينية في الوقت الذي تتخذ فيه بعض الإصلاحات الجوهرية لإعادة تفعيل قوات الأمن. وختاماً, فإن غريزة حماس للبقاء ستحكم قراراتها في هذه المجالات وفي نشاطاتها المستقبلية الأخرى.
ستدرك حماس عاجلاً وليس آجلاً بأن قواعد اللعبة تتغيّر بصورة جوهرية عندما تصبح في موقع الحكم, وأن الأمر يختلف الآن عن الماضي عندما كانت حركة ثورية حرّة بدون التزامات وأعباء إدارة دولة. فإذا سارت حماس في درب
الاعتدال السياسي ونبذت العنف وتخلّت عن حلمها الغير معقول في تدمير إسرائيل كما فعلت فتح, قد تجلب حينئذ لشعبها الخلاص والانعتاق الحقيقيين. وخلافاًَ لذلك, سيزرع قادتها بأيديهم بذور التدمير الذاتي للحركة وسيبلون الناس اللذين وضعوا السلطة بين أيديهم بخسائر أكثر جسامة وبدمار رهيب.