All Writings
يوليو 24, 2013

ألا تكفّوا عن القتل باسم الله !؟

بالرّغم من الفوارق الحضاريّة والتفسيريّة بين الديانات السماويّة الثلاثة، اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، فإن الله الذي كان يعبده النبي محمّد هو نفس الله الذي كان يتواصل مع إبراهيم والذي كان يصلّي له المسيح.

هذا الإله الواحد – كما نؤمن – قد أظهر قيما ً سامية نشرتها الديانات التوحيديّة الكبرى، ولذا كان من البديهي دعم وتأييد هذه الديانات بكلّ صدق ٍ وإخلاص لنقل هذه الأوامر السلوكيّة والأخلاقيّة على مدى قرون طويلة من الزمن.

وبالرغم من الصّراعات التي لا تعدّ ولا تحصى، فقد وُجد الدين من حيث الجوهر لتعزيز السّلام والرحمة والأخوة بين البشر وتقديم التوجيه الأخلاقي وتنمية عناصر الخير المتأصّلة في الإنسان، عاكسة ً إلها ً كريما ً ومحبّا ً للبشر.

وللتعبير عن هذه الحقيقة، فقد قال ألبرت آينشتاين يوما ً أنّ العلم بدون دين ضعيف ٌ وكسيح. “يستطيع العلم” يقول آينشتاين “أن يقيس ويتنبّأ بالأحداث ولكنه لا يستطيع أن يقدّم مباشرة ً النّصح والإرشاد حول ما هو صواب وخطأ، هذا في حين يستطيع الدين أن يقدّم النصح والإرشاد في السلوك الأخلاقي”.

وأخذا ً بعين الإعتبار التحدّي المتواصل عبر العصور لبقاء الإنسان في عالم ٍ معاد ٍ، يمكن أن نفهم بأن الديانات تبقى أحيانا ً صامتة على حكم الحرب أو الفشل في مهامها التبشيريّة لتعزيز السّلام والتفاهم بين الدّول.

وتعتبر الحربان العالميتان الأولى والثانية اللتان تمّ خوضهما في القرن العشرين من الناحية التاريخيّة حربان علمانيتان حول مصالح سياسيّة وجغرافيّة واقتصاديّة. أضف إلى ذلك، فقد أبيد في أوروبا ستة ملايين يهودي نتيجة قرون من التعاليم المضادة للساميّة التي كانت تغلي في قلب المسيحيّة خلال القرون الوسطى.

ومنذ زمن النبي محمّد خاض الإسلام ولمدّة تقارب الثلاثة عشر قرنا ً حروبا ً دينيّة ضدّ شعوب ٍ بأكملها مجبرا ً إيّاها على التحوّل للإسلام (باستثناء اليهود والنصارى المعروفين ب “أهل الكتاب”) وذلك لنشر العقيدة الإسلاميّة بين هذه الشعوب. وكان الردّ المسيحى الأساسي لانتشار الإسلام هو الحروب الصليبيّة التي امتدّت من القرن الحادي عشر وحتّى الثالث عشر الميلادي.

والحروب الدينيّة الأوروبيّة ما بين الطوائف المسيحيّة المتصارعة استمرّت زهاء 125 عاما ً ما بين القرنين السادس عشر والسابع عشر. والصراع العربي الإسرائيلي، ولو أنّه يبدو ظاهريّا ً بسبب حيازة الأرض، غير أنّه يحتوي على مركّبة دينيّة قويّة، وبالأخصّ فيما يتعلّق بالقدس التي قتل من أجلها الآلاف وقد يموت من أجلها أعداد أكبر إن لم تحلّ قضيتها سلميّا ً.

وفي جميع الحالات كان المعتقد الديني الذي كان يُستشهد به دائما ً هو المضخّم لشعور الإستحقاق بتملّك أراضي وثروات الغير. وهذا يستوجب طرح السؤال:”من أية مادة صنع الدّين حقّا ً ؟” لأنه في جميع الصراعات التي حدثت في العالم كان من بين أسوأ انتهاكات كرامة الإنسان تلك التي وقعت أثناء أعمال العنف والمذابح الوحشيّة التي حرّضها الحماس الديني.

ومن وجهة النظر التاريخيّة، الحرب الدينيّة عبارة عن صراع ٍ حرّض عليه وأشعله حصريّا ً التنوّع في الهويّة الدينيّة. ففي حين – من الناحية الفنيّة – أقلّ من 10 % من مجموع الحروب التي تمّ خوضها كانت حروب دينيّة، غير أنّ القليل منها فقط لم يشمل أو يجسّد بعض العناصر أو المشاعر الدينيّة.

ويجب علينا بنفس القدر الذي ندعم فيه التعاليم الأخلاقيّة النابعة من الديانات أن ندين جميعا ً متّحدين أولئك الرسل الذين يعيّنون أنفسهم بأنفسهم وكذلك الناطقين باسم الربّ المحرّضين على القتل الجماعي باسم الخالق. هذا إلاّ أذا كنّا نعتقد بأن هذا الله الرّحيم والأبوي والمحبّ للسّلام والكريم يريد من المؤمنين به أن يقتل بعضهم بعضا ً باسمه، علينا حينئذ ٍ أن نستنتج بأن الديانات منحرفة وفاسدة كونها تحرّض أطفال الله ضدّ بعضهم البعض.

ومن باب السخرية أن نرى بأنّ الصراعات غالبا ً ما تحدث بين طوائف الدين الواحد أكثر من الصراعات بين الديانات المختلفة. فنحن اليوم شهود على انفجار عداوة قرون طويلة من الزمن ما بين المسلمين السنيين والشيعيين، وهذه العداوة قد غذّاها الإضطهاد المزمن.

لقد حدث الإنشقاق السنّي – الشيعي عند وفاة الرسول محمّد في عام 632 م مسبّبا ً الخلاف حول خلافة النبي محمد الدينيّة. وبعد مقتل الحسين (ابن علي وحفيد النبي محمد) انقسم المسلمون على أنفسهم انقساما ً أبديّا ً. وبالرغم من ذلك كانت التوتّرات ما بين السنّة والشيعة ذات طابع سياسي أكثر منها ديني صرف، هذا بالرغم من أنّ المعتقدات الدينيّة كانت مرارا ً هي السبب، مثيرة ً الغضب والإستياء.

وخلال عصر الصفويّة في بلاد فارس (إيران) في الفترة ما بين 1501 – 1736 أجبر المواطنون بشكل ٍ منهجي على التحوّل من المذهب السنّي إلى الشيعي وذلك لتغيير التوازن الديمغرافي ما بين المذهبين لصالح الشيعة. وأولئك الذين رفضوا تغيير مذهبهم قُتلوا.

لقد صعّدت الثورة الإسلاميّة في إيران عام 1979 – التي أوصلت الشيعة إلى سدّة الحكم بطموحات للهيمنة الإقليميّة – من التوتّر ما بين المذهبين السنّي والشيعي، وزاد الغزو الإسرائيلي للبنان في عام 1982 من تطرّف الشيعة وتأسيس حزب الله الشيعي.

وفي حين تمكّن المواطنون السنيّون والشيعيّون العاديون من العيش معا ً نسبيّا ً بسلام، سمح الإنقسام الديني لحكام طغاة أمثال صدام حسين بنزع السلطة من الشيعة وتجريدهم من الصفات الإنسانيّة. لقد أشعلت حرب العراق منذ عام 2003 – بالرغم من أنها أوصلت الأغلبية الشيعيّة للحكم – صراعا ً دمويّا ً بين السنة والشيعة ما زال مستمرا ً حتى وقتنا الحاضر.

لقد جعلت المصالح المتضاربة – ما بين إيران الشيعيّة من ناحية والمملكة العربيّة السعودية وتركيا السنيّتين من الناحية الأخرى – من سوريا ساحة المعركة ما بين الطائفتين, معمّقة ً بذلك الصّدع بينهما أكثر من أيّ وقت ٍ مضى في الذاكرة الإنسانية الحيّة.

وبالرغم من أنّ السنّة والشيعة يتفقان على مرجعيّة القرآن التي لا جدال عليها، غير أنّ الفصائليّة الطائفيّة ترسّخت أكثر وهذه تبقى قوّة تعمل على عدم استقرار منطقة الشرق الأوسط تاركة ً ميراثا ً مرعبا ً ينتقل من جيل ٍ إلى جيل. لم يعد الأطفال، وبالأخصّ أولئك المنحدرين من طبقات محرومة من حقوقها الشرعيّة والضعيفي التعليم، يتلقون تعاليم الإسلام الأخلاقية الضروريّة، بل أصبحوا أهدافا ً للتطرّف الديني ويشجّعون النزاع الطائفي الذي لا نهاية له.

جزء من المشكلة هو أنّ وضع القواعد والمبادىء والقوانين الدينيّة يفتح الباب لجميع طرق التفسير، والناس الفقراء والمعوزون والمهمّشون هم أكثر عرضة ً من غيرهم لتفسيرات الإسلام الأكثر تطرفا ً وعنفا ً. قد تنقلب بطرق التفسير المتعددة وصيّة تقول أصلا ً:”لا تقتل” حرفيّا ً رأسا ً على عقب ويصبح مفهومها العكس تماما ً. ففي الوقت الذي كان الدين فيه يشجب أو يحرّم أصلا ً العنف، أصبح العنف والموت الآن ملازمان للشهادة، لا بل الوضع في الشرق الأوسط أفظع بكثير من ذلك !

وعندما يقوم المؤمنون الحقيقيون بشكل ٍ اعتيادي باستخدام لغة الدين لشرح أحداث حياتهم ووضعها في إطار معيّن، فإن القلب والعواطف – في أغلب الأحيان أكثر من المنطق والعلم – هي التي تعمل كوسيلة لتحديد مكان المرء في العالم. أضف إلى ذلك، إذا كان الطريق المؤدي إلى تقرير المصير يعتمد حصريّاً على الإيمان، فإن الإستجابات المتطرّفة للحالات المتطرفة من نزع السلطة كما هو في العراق بعد عهد صدام حسين وفي اليمن حيث الفقر المدقع، ستكون أكثر حماساً منها اعتدالاً. وهنا يكمن الخطر، فلم يعد عالمنا اليوم عالماً نسمح فيه لأنفسنا أن ننظر للناس كشعوب يجب قهرها وتغييرها، أكان ذلك لنموذج ديني أم اقتصادي أم سياسي.

يجب على المذاهب التوحيدية أن تحتضن فوراً ميراثها الأخلاقي وتنكر أو تتنصّل من نظراتها البالية للخالق، مسلّمةً أن الإنسانية قد أوجدت آلاف الآلهة، وكل هذه الآلهة تعكس بدون استثناء البشر الذين أوجدوها أو خلقوها والظروف التي عاشوا تحتها.

بعبارة أخرى، الديانات تنجح روحياً عندما تحتضن روح الله المتجسدة في تعاليمهم ومبادئهم الأخلاقية، ولكنها تفشل كلياً عندما تصبح شيئاً أكبر قليلاً من خدعة مصممة لتحلّ محل الله بالخلافات والشقاقات القبليّة والعرقية والطائفية.

قد يكون عمل باروخ اسبينوزا (1632 – 1677) مفيداً في هذا السياق. لقد قال آينشتاين يوماً بأن إلهه كان إله اسبينوزا. إن مذهب وحدة الوجود، وهو القائل بأن الله والطبيعة شيء واحد وبأن الكون المادي والانسان ليسا إلاّ مظاهر للذات الإلهية، كان معروفاً في الشرق منذ القدم عندما ولد اسبينوزا. وفكرة أنه بالإمكان إدراك الله بالعقل كما ورد في تفسيرات اسبينوزا المشهورة “تطبيع الطبيعة” كانت في الغرب جديدة نسبياً.

وفي حين ينفي اسبينوزا وجود إله شخصي “هناك فوق” يذكرنا أنه بإمكاننا احتضان فكرة ذات إلهية سرمدية خلقت الكون كجزء من طبيعتها الأصلية. وبالرغم من أن التقليد الديني اليهودي قد اعتبر نظرة اسبينوزا هرطقة وحرمته كنسياً، غير أنني أقول، وحاشا أن أقلّل من مكانة الله كما اعتقد رجال الدين اليهودي، بأن هذه النظرية قد رفعت من مكانته سبحانه وتعالى.

وإله بهذه المنزلة والعظمة يلهم ديانة ذات طابع شخصي أكثر تكون الفضيلة من صفاتها الذاتية والأنانية مُبطلة ويشن داخلها جهاد مخلص ضد ردود الفعل البيولوجية مثل الخوف و القتال أو الهروب والشعور بعدم الأمان.

لقد عانت الإنسانية مدة طويلة من الزمن بسبب إدراكٍ متدنٍّ للأبديّ الذي تمّ استغلاله بسهولة لتحريض إنسانٍ ضد آخر. والإستخدام المتزايد للطرق العلمية والعقل، وبالأخصّ بين أولئك اللذين توصلوا إلى درجة عالية من العلم والثقافة، يقلّل من ردود الفعل العاطفية والانفعالية لظروف تتسّّم بالتحدي. هذا لا يعني أن لديّ الأسلوب العلمي جميع الإجابات خشية أن ننسى ما قاله آينشتاين بخصوص الحدود الأخلاقية للعلوم.

وفي حين أنّ الغرب يعطي اهتماماً كبيراً لعمليات القتل الحالية التي تقترن باسم الله في بعض الدول العربية، فإن الأعداد هذه لا تقارن بالخمسين مليون ضحية أو أكثر التي تمّ قتلها في الحرب العالمية الثانية لوحدها، ومعظمها مسيحيون ضد مسيحين.

قد تقدّم المجتمعات الغربية المثقفة ما يسمى “بكياسة” الحرب، كاملة مع مواثيق جنيف ولوائح أخرى، غير أن حروبهااليوم تتضمّن قوة تدميرية أقوى بكثير من صراعات أية شعوب أخرى،وبالأخصّ في الصراعات الحالية مسلمين ضد مسلمين في الشرق الأوسط. ويبقى السؤال: كيف نوقف الديني منها (باسم الله) ونضع (باسم الشيطان) تبريراً للعنف؟

ولفهم العنف بأوسع سياق قد يكون الغرب في بعض النواحي بعيداً جداً في الواقع عن تحقيق هذا الهدف. ففي حين من السهل نشر أرقام الجنود القتلى، ليس للمعاناة اليومية لملايين المرحّلين والمهجّرين من بيوتهم والمنتزعة كرامتهم واللذين لا جنسية لهم مكاناً بسهولة في أخبارنا.

والغرب لا يعيش أيضاً ضمن إطار التاريخ. ففي حين أن الأمس بالنسبة لنا يعتبر تاريخاً، يعيش العالم العربي كلّ يوم واعٍ لتواريخ انقساماته واستعماره وفترات الحكم الديكتاتوري عليه والحدود العشوائية التي فرضتها القوى الغربية عليه والتي غذّت وشجعت الصراعات الطائفية والمطالبات الإقليمية والدعاوي المضادة.

وبالرّغم من ذلك، فقد ترك العالم العربي بتحدي فصل الدين عن الله كما فعل الغرب منذ زمنٍ طويل ولو بشكلٍ بعيد عن الكمال. فالدين في الغرب يبقى عاملاً متماسكاً وحسب الاختيار الشخصي للفرد. ولكن بالنسبة للعالم الإسلامي، الإسلام أكثر من إيمان يُحتضن، بل هو طريقة حياة وجزء أو رزمة من إرث حضاري، وبهذا الشكل يبقى الإسلام جزءاً من القلب والهوية الذاتية.

حوالي 60% من الشعوب العربية (أي 250 مليون من مجموع 422 مليون نسمة) شباب دون سنّ ال25 سنة. وهؤلاء يتوقون للحرية والتعليم والرعاية الصحية وفرصة لمستقبلٍ أفضل. هم مسلمون قلباً وعقلاً، ولكنهم لا يريدون أن يحكمهم لا حكام مستبدّون علمانيون ولا متدينون، ولو كانوا ظاهرياً منتخبين بشكلٍ حرّ، كما بيّنت ذلك ثورة مصر الثانية. إنهم يريدون أن يكونوا أحراراً وفي نفس الوقت ملتزمين بالتقليد والحضارة الإسلامية والتمييز ما بين العلمانية والأصولية الدينية.

والدين كما هو اليوم في إسرائيل وإلى حدّ كبير في ماليزيا وبنغلاديش الإسلاميتين قد يُستخدم لتسوية قضايا عائلية مثل الزواج والطلاق والأطفال وولاية الأمر والموت وطقوس بلوغ مراحل معينة من العمر.

عدا هذه القضايا، يجب على الدين ألآّ يذهب أبعد من ذلك. يجب ألاّ يكون له تأثير على العلوم الطبية والعلاقات الدولية أو الدفاع الوطني أو أن يكون “مضيفاً” لقضايا أخرى دولية ومحلية. وعدا ذلك، يجب على الدين أن يدعم ويشجع بدون شروط السلام والمودة والحب والرحمة بين البشر.

وعليه، عند تحرير ووضع دساتير جديدة في الحكومات أو السلطات الانتقالية القادمة، يجب على مصر وليبيا واليمن ودول عربية أخرى أن تدرك أنّه في حين التعاون بين السلطات والمؤسسات الدينية والعلمانية أمر ضروري، فإن وضع الشريعة كمصدر للتشريع هو خطوة إلى الوراء.

وبالنظر لعالم اليوم، فإن الدول العربية التي تتمتّع بأغلبيات ساحقة من الشباب ليست فقيرة ثقافياً بحيث تحتاج الدين كمصدرها الوحيد للأخلاق. مبادىء وقواعد السلوك والأخلاق تأتي من الحركة العلمانية ومن القوانين والجدل الفلسفي. وأولئك اللذين ينظرون للدين من أجل توجيههم وهدايتهم الشخصية، فهؤلئك أحرار أن يفعلوا ذلك ويجب الحفاظ على حقوقهم، ولكن عليهم في نفس الوقت الإلتزام بالقوانين التي تفصل الدين عن الدولة، حيث لا يجب بعد الآن فرض أي مرسوم أو فتوى دينية بالقوة على أي شخص.

تحت هذه الظروف تسير الحرية الدينية يداً بيد مع الحرية الشخصية، وهذه قضية مركزية في تطوير وتشجيع العقائد الأساسية لجميع الأديان بالنسبة للأخوة والعطف والرحمة والتفاهم بين الدول والسلام. ولعلّ هذا كله يضع نهاية للقتل باسم الله الذي يخون جوهر سبب خلق الأديان وأهدافها بالدرجة الأولى.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE