إساءة فهم الأمن القومي والتهديد
لمحة موجزة: أكثر النواحي المحيّرة في الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني هو بقاءه – بعد 65 عاما ً من العنف المتبادل والعداء والمعاناة – بدون حلّ حتى بعد الإتضاح بأن التعايش بين الشعبين أمرٌُ محتوم وحلّ الدولتين يبقى الخيار الوحيد القابل للحياة. وبالرغم من أنّ هناك العديد من القضايا المثيرة للنزاع التي يجب أن تُعالج بشكل ٍ خاصّ, غير أن البعد السيكولوجي (النفسي) للصراع هو الذي يؤثّر مباشرة ً على كلّ قضيّة متنازع ٍ عليها ويزيد من صعوبة حلّ الصّراع. ولتخفيف حدّة الصّراع, يجب علينا أوّلا ً إلقاء نظرة داخل العناصر التي تغذي البعد السيكولوجي ومعرفة كيفيّة تلطيفها كمتطلبات أساسيّة لإيجاد حلّ. وهذه هي المقالة الخامسة من ست مقالات حول الموضوع.
لقد خلقت خبرات وتجارب إسرائيل التاريخية مقترنة بعقود المواجهات العنيفة مع الدول العربية والفلسطينيين عائقاً سيكولوجياً رئيسياً يضع مخاوف إسرائيل الأمنية الوطنية في مقدمة ومركز سياستها المحلية والأجنبية. وبصرف النظر عمّا يبدو عليه إحساس إسرائيل المبالغ به في تعرّضها للخطر، لا يجوز للفلسطينيين تجاهل مخاوف إسرائيل المتأصلة بعمق في نفسية كلّ إسرائيلي. أقول هذا مع العلم أنه لا تستطيع أية قوّة عسكرية أو حتى مصادرة أراضي الضفة الغربية بأكملها أن تضمن أمن إسرائيل القومي عدا السلام الشامل.
ما كان يدعى سابقاً مخاوف إسرائيل الأمنية الشرعية قد أصبحت الآن أداة لقمع الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم ومنعهم من إقامة دولتهم الفلسطينية. وبالفعل، تركيز إسرائيل على “الأمن” والإجراءات القاسية التعسفية التي تستخدمها بحجة التّوصل إلى وضعٍ أمني منيع يضعف الفلسطينيين بشكلٍ متزايد ويعرضهم للخطر. وكما كتب هنري كيسنغر في كتابه “عالم متجدّد ” ((A World Restored: “الأمن المطلق لقوة يعني عدم الأمن المطلق لجميع الآخرين”.
إن الهدوء النسبي الذي ساد في السنوات القليلة الماضية يحجب فقط العاصفة الهوجاء التي ستضرب الشواطىء الإسرائيليّة بسرعة مدمّرة. وتسميم إسرائيل المتواصل لنفسها بوضع قبضتها على المناطق الفلسطينيّة يشبه مدمن مستمرّ في حقن نفسه بمادة قاتلة ليشعر بالنشوة, ولو لفترة مؤقّتة, قبل أن ينتهي بالموت.
أولئك الإسرائيليّون اللذين يدعمون فكرة “إسرائيل الكبرى” يشبعون شهوتهم للمزيد من الأراضي الفلسطينيّة بحجّة تعزيز أمن إسرائيل القومي. ولكن لا يمكن ضمان أمن الإسرائيليين القومي والشخصي بمصادرة المزيد من الأراضي لإقامة ما يدعى “الحدود القابلة للدفاع”, فالمسافة ما بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسّط لا تتعدّى 42 كيلو متر, وفي عصر الصّواريخ وتكنولوجيا الأسلحة المتطوّرة والذكيّة لم تعد الأعماق الإقليميّة تضمن أمن إسرائيل. هذا ما تبيّن بشكل ٍ واضح جدّا ً خلال عمليّة “عمود السّحاب” في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 عندما تمكّنت حماس من إمطار مئات الصواريخ على إسرائيل وصل البعض منها القدس وتل أبيب. وفكرة الأمن القومي قد أصبحت في إسرائيل ضربا ً من الإستحواذ أو الهاجس, أي بمثابة “فكرة وهميّة ثابتة قد يستحيل الخلاص منها في معظم الأحيان وتؤدي صاحبها إلى الجنون” كما لاحظ العالم يوسف كونراد. وبالفعل, هناك بعض الجنون في سعي إسرائيل الإلزامي وراء الأمن المطلق, الأمر الذي بان جليّا ً في عدّة طرق أدّت في الواقع إلى التأثير العكسي التامّ. أصبح أمن إسرائيل القومي يخدم الآن كلّ الوسائل لتبرير أي ظلم أو إيذاء يمكن تصوّره ممّا قد يسبّبه شعب لشعب ٍ آخر, بما في ذلك مصادرة الأراضي الفلسطينيّة وهدم المنازل وتدمير الممتلكات والتعذيب والإغتيالات التي غالبا ً ما تؤدي أيضا ً لموت مدنيين أبرياء. لقد صرّح جاكوب بيري, الرئيس السابق لجهاز الإستخبارات الإسرائيليّة في الداخل (الشين بيت), في مقابلة ٍ أجرتها معه وكالة الأسوشيتيد للأنباء في شهر فبراير 2012 بقوله:” القوّة فقط, القتال فقط والخداع فقط لن تجلب السّلام بين الأمم”.
إنّ توسيع المستوطنات باسم الأمن القومي مظهر آخر لتجاهل إسرائيلي الكلّي لطموحات الفلسطينيين في إقامة دولتهم على نفس الأرض, الأمر الذي يجعل مشروع الإستيطان حملا ً أمنيّا ً بدلا ً من أن يكون عكس ذلك. وبناء المزيد من السياجات والأسوار التي ستحيط عن قريب بكامل المنطقة هي الصّورة الماديّة والوجه الظاهر تماما ً لجنون إسرائيل, فإسرائيل تبني فعليّا ً سجنا ً لنفسها. وما نشهده اليوم, بعبارة ٍ أخرى, هو خلق دولة عسكريّة حيث يتمّ عزل إسرائيل بشكل ٍ متزايد سياسيّا ً وبدنيّا ً عن جيرانها وعن المجتمع الدولي.
المسئولون الإسرائيليّون صريحون وواضحون تماما ً فيما يتعلّق بالطريقة التي تبيّن عدم مبالاتهم أو إظهارهم أي اعتبار لما ستواجهه البلاد بعد عشرة أعوام أو عشرين عاما ً من الآن. ففي مقابلة ٍ مع جريدة “نيويورك تايمز” يوم 26 كانون أوّل / ديسمبر من العام الماضي طرح نفتالي بينيت, زعم حزب “البيت اليهودي” المشكّل حديثا ً, سؤالا ً “بلاغيّا ً” لنفسه قائلا ً:”ماذا سنفعل على المدى البعيد !!؟” وأجاب على السؤال بنفسه قائلا ً:”لا أعلم”. هذا رجل ٌ يسعى لمصادرة كامل المنطقة (ج) التي تمثّل (60 %) من إجمالي مساحة أراضي الضفّة الغربيّة والذي يطمح لأن يصبح رئيس وزراء إسرائيل يوما ً ما. وأنا متأكد أيضا ً بأن رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو لا يعلم هو الآخر الخراب الذي ينتظر إسرائيل بعد 15 – 20 عاما ً. تصوّر, مستقبل إسرائيل ولربّما مستقبل يهود العالم يصبح في أيدي قادة متهوّرين ليس لديهم استراتيجيّة ولا رؤية أو حتّى فكرة عمّا سيكون عليه مصير إسرائيل إذا استمروا في سياسة التوسّع الإستيطاني.
تذكر حنّة أريندت في كتابها “حول العنف” (On Violence) نقطة أساسيّة حبّذا لو يتذكّرها جيّدا ً الإسرائيليّون والفلسطينيّون ذوي النزعة النضاليّة. تقول في كتابها:”يستطيع العنف دائما ً أن يدمّر القوّة, فمن ماسورة البندقيّة ينطلق أكثر أمر ٍ فعّال يؤدي إلى طاعة فوريّة وتامّة. ولكن ما لا يستطيع أن ينطلق من ماسورة البندقيّة أبدا ً هي القوّة”. العنف ليس القوّة, فهما عاملان متناقضان, أي بمعنى: العنف يقلّل من قوّة أولئك الذين يستخدمونه, الأمر الذي يتطلّب استخدام المزيد من العنف في محاولة إبقاء السيطرة. هذا ما نراه يحدث يوميّا ً بالنسبة لإسرائيل حيث أنها تجد نفسها مضطرة ً للإستمرار في استخدام آلية العنف كطريقة للإبقاء على سيطرتها على المناطق المحتلّة.
ترتكز متطلبات إسرائيل الأمنيّة النهائيّة في الواقع على سلام ٍ شامل ٍ فقط مبنيّ على إجراءات أمنيّة متعددة يوافق عليها أيّ خبير إسرائيلي في شئون الدّفاع والأمن يكون غير متحيّز سياسيّا ً. أثناء مؤتمر في تل أبيب في شهر كانون ثان ٍ (ديسمبر) 2012 أكّد غابي أشكينازي, الرئيس السابق لأركان الجيش الإسرائيلي, مرّة أخرى على أحاسيس وآراء العديد من زملائه عندما قال:” يجب على إسرائيل أن تدرك حدود قوّتها وتتعاون مع قوى تدعم المصالح الإسرائيليّة”. وهذا ما عبّر عنه أيضا ً قائد عسكري إسرائيلي آخر هو شاوول أرئيلي بقوله:” نعتقد بأن السّلام سيوفّر أمنا ً أفضل من أيّ شيء آخر”. وعدا ذلك, جميع الإجراءات الأمنيّة الأخرى, مهما كانت قسريّة ومتطورة, غير قادرة على ضمان أمن إسرائيل القومي.
السّلام الشّامل
يجب على كلّ الجهود والمساعي أن تركّز أوّلا ً على التوصّل لاتفاقيّة سلام يتمّ التفاوض حولها وذلك لإزالة مخاوف إسرائيل الأمنيّة والشرعيّة واحترام حقّ الفلسطينيين في العيش بحريّة على أراض ٍ مترابطة بعضها ببعض في دولة ٍ مستقلّة تعيش جنبا ً إلى جنب مع إسرائيل. ولمزيد من ضمان وتعزيز أمنهما المتبادل, يجب على أية اتفاقيّة سلام أن تعتمد على شروط وآليات ولوجستيّات معيّنة وجدول زمني مصمّم لضمان التزام الطرفين على أساس التبادليّة. هذا سيسمح بالتخفيف المتبادل للإنحرافات والمحاباة والمفاهيم الإنتقائيّة حول نوايا كلّ طرف ٍ تجاه الطرف الآخر ورغبته في تعزيز الثقة المتبادلة, وهذا شرط لا بدّ منه لسلام ٍ دائم.
ولتجنّب تكرار سيناريو الإنسحاب من غزّة في عام 2005 الذي كان متهوّرا ً وأحادي الجانب وانتهى باستيلاء حماس على السّلطة واستخدامها القطاع كأرض لإطلاق صواريخ على إسرائيل, يجب أن يتضمّن الإنسحاب من الضفّة الغربيّة عدد من الإجراءات المهمّة بما فيها: التنسيق اللوجستي الكامل مع السلطة الفلسطينيّة وترتيبات أمنيّة مشدّدة وانسحاب على مراحل ووضع إطار ٍ زمني بين كلّ مرحلة ٍ وأخرى وإجراءات متبادلة معيّنة من قبل الفلسطينيين. ويمكن القول بأنّه لو اتبع رئيس الوزراء آنذاك, آرئيل شارون, مثل هذا الإطار لكانت النتيجة اليوم مختلفة تماما ً.
إنّ أمن إسرائيل مرتبط ارتباطا ً وثيقا ً بقدرتها على إقامة علاقات شعب ٍ لشعب تستطيع أن تخفّف المشاكل الأمنيّة السيكولوجيّة بين الجانبين. تصوّر تأثير السماح لعشرات الآلاف من الفلسطينيين والإسرائيليين يقومون بزيارة بعضهم البعض ويتقاسمون الأحاديث والخبرات ويختلطون مع بعضهم البعض في المطاعم وأماكن اللهو والترفيه. لا شيء يستطيع أن يغيّر مفاهيم كل طرف ٍ حول الآخر أفضل من هذه اللقاءات العرضيّة التي كانت نتائجها مذهلة لعدد قليل من الأشخاص اللذين اختبروا ذلك على كلا الجانبين. حان الوقت لتغيير صورة المواطن الإسرائيلي في أعين الشباب الفلسطيني من جندي مسلّح إصبعه على الزّناد إلى الوجه الآدمي اللطيف.
ويعتبر تطوير الروابط التجاريّة والإقتصاديّة بين البلدين أمر ٌ أساسي لتعزيز مصالح متبادلة في علاقات تعود بالفائدة على كلا الطرفين تكشف وتقوّي الوجه الإنساني لكلا المعسكرين وتسمح لهما بحلّ أية مشكلة تنشأ بينهما بطريقة سلميّة. سيصبح التأثير السيكولوجي لحلّ النزاع سلميّا ً قضيّة مركزيّة لتنمية ثقافة اللاعنف. وهذا المطلب يعطي, أكثر من أي شيء آخر, نقطة انطلاق تؤثّر على جميع النواحي الأخرى من التعايش السّلمي.
المحافظة على قوّة ردع يوثق بها
ما دام هناك شيء من عدم الثقة بين الطرفين, ستصرّ إسرائيل على المحافظة على قوّة ردع عسكريّة يوثق بها تثني الأعداء الحاليين والمستقبلين من تهديدها, هذا إلاّ إذا فعلوا ذلك لهلاكهم. فبالنسبة لإسرائيل, لا تعتبر عقليّة “لا للعودة أبدا ً” (والإشارة هنا للمحرقة أو الهلوكوست) شعارا ً فقط, بل أنّ الإسرائيليين عازمون على القيام بكلّ ما هو ضروري لمنع التاريخ من إعادة نفسه.
وبهذا الصّدد, بإمكان إسرائيل والولايات المتحدة أن تضمنا عدم تفوّق أية دولة منفردة أو مجموعة دول عسكريّا ً على إسرائيل وذلك بالإبقاء على مستوى ً عسكري نوعي ورفيع بالتوازي مع ضمان أمريكا المستمرّ لأمن إسرائيل. هذه الإجراءات الأمنيّة تقدّم من الناحية السيكولوجيّة لإسرائيل الطمأنينة التي تحتاجها وتخفّض من اندفاعها نحو الهجوم إذا استُفزّت, هذا إلاّ أذا كان الهجوم هو الملاذ الأخير.
الحفاظ على تعاون أمني كامل
استنادا ً إلى التجارب والخبرات السابقة للإسرائيليين والفلسطينيين يبقى التعاون الأمني بين الجانبين شرطا ً لا بدّ منه. ويبيّن التقدّم الذي تمّ بين إسرائيل والسلطة الفلسطينيّة بأن ّ التعاون الأمني الفعّال أمرٌ ممكن بينهما حتى في أجواء التوتّر. ويعود نجاح هذا التعاون إلى التزام السلطة الفلسطينيّة بالسّلام ورغبة إسرائيل في التعاون الكامل معها بتسهيل حركة الفلسطينيين والتنسيق مع أمنها الداخلي وتحسين التعاون الإستخباراتي.
الحدود والأمن القومي
لقد دعمت جميع الإدارات الأمريكيّة السابقة منذ عهد الرئيس جيمي كارترفكرة أن تكون حدود 1967 الخط الأساسي للمفاوضات. وقد وافقت عليها منذ ذلك الحين جميع الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة. وحتّى لو قامت إسرائيل برسم حدودها النهائيّة بنفسها, فلن تعزّز خطوط هذه الحدود لوحدها أمن إسرائيل القومي. وضمّ المزيد من الأراضي بكيلومترين أو ثلاثة كيلومترات في عمق الضفّة الغربيّة لن يغيّر كثيرا ً من الناحية الأمنيّة.
وأولئك اللذين يروّجون لفكرة “إسرائيل الكبرى” بثوب الأمن القومي يسعون لمحاصرة الفلسطينيين من الشّرق والغرب والشمال والجنوب, عاملين على عزلهم كليّا ً وحرمانهم من التواصل. وهذا بلا شكّ سيرفضه الفلسطينيّون, حارمين إسرائيل حتّى من مظهر خارجي للسّلام, إذ أنهم مصمّمون نفسيّا ً وعاطفيّا ً وجسديّا ً على التخلّص من الإحتلال بأي ثمن.
قوّة دوليّة لحفظ السّلام
إنّ مطلب إسرائيل الإحتفاظ ببعض القوة العسكريّة على طول نهر الأردن لمنع تهريب الأسلحة وتسلّل إرهابيين من غور الأردن أمر ٌ لن يقبل به على الأرجح الفلسطينيّون لأنهم سيرون ذلك استمراراً للإحتلال, ولكن فقط بشكل ٍ آخر. وعوضا ً عن ذلك, من الضروري أن تتمركز في تلك المنطقة قوّة دوليّة لحفظ السّلام (لربّما بمشاركة رمزيّة إسرائيليّة وفلسطينيّة). هذا ويجب حشد تلك القوّة العسكريّة من دول معيّنة تعترف بإسرائيل ولديها مصلحة قويّة في حفظ السّلام, شاملة الأردن, مصر, المملكة العربيّة السّعوديّة ودول من الإتحاد الأوروبي مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا, على أن تعمل هذه القوّة تحت قيادة الولايات المتحدة. ويجب تفويض هذه القوّة من قبل مجلس الأمن الدولي للعمل على حفظ الهدوء ومنع تهريب الأسلحة وتسلّل الإرهابيين. ولا يجوز إزالة هذه القوّة إلاّ بقرار ٍ صريح من مجلس الأمن الدّولي الذي تتمتّع فيه الولايات المتحدة بحق النّقض.
دولة فلسطينيّة منزوعة السّلاح
يجب أن تكون الدّولة الفلسطينيّة المزمع إنشاؤها دولة ً منزوعة السّلاح تضمن أمنها الولايات المتحدة. وبصرف النظر عن بسالتهم العسكريّة, لن يكون الفلسطينيّون يوما ً ما في وضع ٍ يسمح لهم بتحدّي إسرائيل عسكريّا ً, هذا ولن تقوم أية دولة – بما في ذلك إسرائيل –
بتهديد الدولة الفلسطينيّة التي تعيش بسلام ٍ مع جيرانها. وفي العالم اليوم العديد من الدول التي لا تحتاج لقوات عسكريّة مثل كوستا ريكا, أندورا وليشتنشتاين التي تعيش جميعها بسلام منذ زمن ٍ بعيد.
الفكرة هنا هي كلّما قلّت مخاوف إسرائيل الأمنيّة كلّما أصبحت أكثر استعدادا ً للقيام بتنازلات سياسيّة وإقليميّة. وبدلا ً من هدر مئات الملايين من الدولارات على العتاد العسكري, يجب على الحكومات الفلسطينيّة أن تلبّي احتياجات شعبها بالإستثمار في التنمية الإقتصاديّة والتعليم والرعاية الصحيّة والبنية التحتيّة وبناء المؤسسات الديمقراطيّة التي ستسمح لهم الإفتخار بمنجزاتهم.
مظلّة أمن إقليميّة
عند التوصّل لاتفاقيّة سلام وتأخذ جميع الإجراءات الأمنيّة مكانها المناسب, قد تعرض الولايات المتحدة مظلّة أمنيّة على طول الحدود التي اقترحتها وزيرة الخارجيّة الأمريكيّة السابقة هيلاري كلينتون في شهر يونيو / حزيران عام 2009 والتي قد تضمّ جميع الدول في المنطقة التي تعيش بسلام ٍ مع إسرائيل ومع بعضها البعض. وستردع مثل هذه المظلّة الأمنيّة الإقليميّة أيضا ً أعداء خارجيين مثل إيران وتمنعها من تخويف أو تهديد أية دولة في المنطقة.
إعادة إحياء مبادرة السّلام العربيّة
على إسرائيل – في سياق مفاوضات السّلام الإسرائيليّة – الفلسطينيّة – أن تقبل مبادىء مبادرة السّلام العربيّة التي اقتُرحت لأول مرّة في عام 2002 وأعيد عرضها في عام 2007 وأن توافق على الإجتماع مع ممثلي جامعة الدول العربيّة لمناقشة ميزات هذه المبادرة, الأمر الذي سيفتح الباب للتفاوض على معاهدة سلام عربيّة – إسرائيليّة شاملة والشّروع في إقامة علاقات طبيعيّة مع الدول العربيّة وتوسيعها لتشمل جميع الدول الإسلاميّة. وأولئك اللذين يدّعون بأنّ هذا ليس الوقت المناسب لإسرائيل للقيام بمثل هذه الخطوة على خلفيّة الثورات والإنتفاضات التي تجتاح الشّرق الأوسط هم على خطأ مبين. هذا الوقت بالذات هو الوقت الصّحيح الذي سيصبح فيه إزالة فتيلة الصّراع مع الفلسطينيين أمرا ً ملحّا ً. إسرائيل ليست بحاجة إلى حريق ٍ في فنائها أو لطابور خامس في وقت ٍ يجب عليها التركيز على التهديد الإيراني وتفكّك محتمل لسوريا, ولكلا هذين الأمرين أصداء إقليميّة شديدة ستؤثّر مباشرة ً على أمن إسرائيل القومي.
وعليه, لا يمكن المغالاة في أهميّة إعادة إحياء مبادرة السّلام العربيّة. لقد صرّح بهذا الصّدد الرئيس السابق للموساد الإسرائيلي, السيد مئير داغان, في شهر يونيو / حزيران 2011 في محاضرة ٍ بجامعة تل أبيب بقوله:”علينا تبنّي المبادرة السعوديّة, فليس لنا طريق آخر. ليس لأن الفلسطينيين يشكّلون قمّة أولويّاتي, بل لأنني قلق ٌ حول سلامة إسرائيل وأريد أن أفعل كلّ ما بوسعي لضمان وجود إسرائيل”. سيقوّي إحياء مبادرة السّلام العربيّة العلاقات الأمريكيّة والإسرائيليّة مع العالم العربي وستدفع بمصالح الولايات المتحدة وإسرائيل الإقليميّة المشتركة إلى الأمام. صحيح, لن تقفز كلّ دولة عربيّة في المنطقة في عربة السّلام هذه, ولكن الدّول العربيّة ذات النفوذ الهام – وبالأخصّ منطقة الخليج وشمال إفريقيا – ستكون أكثر الدول تحمّسا ً لإقامة علاقات دوبلماسيّة كاملة مع إسرائيل, وهذا بحدّ ذاته من شأنه أن يغيّر اللعبة.
لا يعني هذا كلّه بأننا لا ندرك التهديد الحقيقي لأمن إسرائيل القومي الناشىء من المجموعات الإسلاميّة المتطرّفة, غير أنّه بإمكان تحديد حجم هذا التهديد والتعامل معه بفعّاليّة. ولكن خلق تهديد ومحاولة علاجه خارج نطاق الإقليميّة يقوّض ليس فقط أمن إسرائيل, بل وأيضا ً مستقبلها. لقد حان الوقت للإسرائيليين ليصحو لهذا الواقع القاسي.