All Writings
يناير 24, 2013

على الفلسطينيين أن يستيقظوا لواقعهم المرّ

بالّرغم من أنّ استطلاعات الرأي المتكررة التي أجريت في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة تظهر باستمرار أنّ أغلبيّة الفلسطينيين تؤيّد حل الدولتين, غير أنّ قيادتهم قد فشلت فشلا ً ذريعا ً في الإستفادة من هذا الإجماع الواضح بالرأي. بدلا ً من ذلك كانت فتح وحماس والعديد من الفصائل الأخرى الصغيرة منشغلة ً منذ عقود ٍ طويلة من الزمن في اقتتال داخلي لم يتوقّف ومؤامرات سياسيّة وفساد وتنافس ايديولوجي أعمى, هذا في حين كانت هذه الحركات والفصائل تغذّي الشعب بمعلومات ٍ خاطئة عن إسرائيل, واعدة ً شعبها بما تدرك هي أنها غير قادرة ً على تقديمه. والسؤال هو: إلى متى سيعيش الفلسطينيّون بذريعة الإحتلال بالذلّ والمعاملات المهينة قبل أن يستيقظ قادتهم لحقيقة أنّ السّلام الإسرائيلي – الفلسطيني يتطلّب تنازلات هامّة ومصداقيّة كاملة غير منقوصة والتزام لا يتزعزع لسلام ٍ دائم وشامل.

وبالرغم من أنّ رئيس السلطة الفلسطينيّة محمود عبّاس قد أظهر ثباتا ً وبراعة ً في سعيه وراء السّلام, غير أنّه هو الآخر يبقى سجينا ً لرواية فلسطينيّة استمرّت عقودا ً طويلة حتّى الآن وتصرّ – ضمن مطالبات أخرى – على “حقّ عودة اللآجئين” وهي قضيّة غير مقبولة للطرح إطلاقا ً على طاولة المفاوضات مع أية حكومة إسرائيليّة. وتستمرّ في نفس الوقت حماس بمقاومة وجود إسرائيل مدركة ً تماما ً بأن أي تهديد خطير لإسرائيل من طرف حماس يعني دمار الحركة نفسها. فعلى سبيل المثال صرّح الزعيم السياسي للحركة, خالد مشعل, في غزّة في مطلع الشهر المنصرم (كانون أوّل) بمناسبة احتفالات تأسيس حركة حماس بقوله:”فلسطين لنا من النهر إلى البحر ومن الجنوب إلى الشّمال. لن يكون هناك تنازل عن أي شبر ٍ من الأرض”.

لا يقيم الكثير من الفلسطينيين والإسرائيليين وزنا ً لمثل هذه التصريحات ويعتبرونها ضربا ً من الدعاية السياسيّة المصمّمة للإستهلاك المحلّي. ولكن حتّى لو كان الأمر كذلك, هناك فئة فلسطينيّة أكبر من ذلك بكثير مهيئة ً لأن يصبح شعورها المعادي لإسرائيل وكراهيتها لها أكثر حدّة ً نتيجة مثل هذه التصريحات. أضف إلى ذلك, هذا يعطي الإسرائيليين المنتمين أو المؤيّدين لأحزاب يمين الوسط المزيد من الذخيرة لتبرير تمسكهم المتزايد بالمناطق الفلسطينيّة لضمان أمنهم, الأمر الذي يجعل الأمور تزداد سوءاً على كلا الجانبين. وتصريح خالد مشعل في مقابلة سابقة مع كريستيان أمانبور بقوله: “أنا أقبل دولة فلسطينيّة على أساس حدود حزيران عام 1967 مع القدس عاصمة هذه الدولة ومع الإحتفاظ بحقّ العودة” لا يطمئن الإسرائيليين كثيرا ً لأنهم ينظرون لحماس كمنظمة إرهابيّة متشبثة بعقيدتها ومصمّمة على تدمير إسرائيل.

والرئيس محود عبّاس المقيّد في دوّامة هذه الرواية الشعبيّة الغير مسئولة والمدمّرة والذي يسعى بلا شكّ وراء اتفاقيّة سلام على أساس حدود عام 1967 هو للأسف ضحية الخطابات الدهماويّة وأعمال عنف ٍ يقوم بها أو يدعمها قادة فلسطينيّون متهوّرون. فبعد قيامه بزيارة مدينة صفد – مسقط رأسه – في إسرائيل في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام المنصرم 2012 أدين الرئيس الفلسطيني بشدّة من جميع الفصائل والفئات والشّرائح الفلسطينيّة المختلفة لقوله:”أنا زرت صفد قبل هذا اليوم, ولكنني أريد أن أرى صفد مرّة أخرى. من حقّى أن أراها, لا أن أعيش فيها”. وإشارة ً إلى حدود ما قبل الرابع من حزيران عام 1967 المعترف بها دوليّا ً قال أبو مازن:”فلسطين الآن في نظري هي حدود 1967 والقدس الشرقيّة عاصمة ً لها. هذا هو الوضع الآن وإلى الأبد… هذه هي فلسطين في نظري. إنني لاجىء, لكنني أعيش في رام الله. أعتقد أنّ الضفة الغربيّة وغزّة هي فلسطين, والأجزاء الأخرى هي إسرائيل”. شجاعة محمود عبّاس مثيرة للإعجاب, ولكن ليس لديه للأسف الشديد الدّعم الشعبي والتفويض اللذين يفتقر لهما لتغيير المفاهيم الشعبيّة حول قضايا شائكة مثل “حقّ العودة” الذي أصبح عبر عقود ٍ طويلة من الزّمن متأصّلاً في نفوس وعقول الناس, كبارا ً وصغاراً, بالرّغم من أنّه لن يرى حيّز التطبيق أبدا ً.

ومما يجعل الأمور أسوأ هو استمرار الفلسطينيين في الضفّة الغربيّة, وبالأخصّ على المستوى المحلّي, وفي قطاع غزّة بشكل ٍ خاصّ, بنعت إسرائيل ب “العدوّ النهائي” ورسمها بهذه الصورة السلبيّة في المدارس وفي العديد من الأماكن العامّة. أضف إلى ذلك, فهؤلاء لا يقدّموا شيئا ً سوى شعارات جوفاء وآمال خاطئة ومضلّلة للشباب وكبار السنّ على حدّ سواء حول انقضاء إسرائيل بشكل ٍ نهائي, هذا في الوقت الذي يمدّدون من خلاله الوجود المأساوي والبائس لملايين الفلسطينيين دون أمل ٍ في نهاية قريبة.

إنّ الجهود الناجحة للسلطة الفلسطينيّة في الحصول على مكانة دولة عضو ٍ مراقب في الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة وبروز مكانة حماس السياسيّة في صحوة الحرب الأخيرة (حجارة السجّيل) مع إسرائيل إضافة إلى المفاوضات الحاليّة بين فتح وحماس لتشكيل حكومة وحدة وطنيّة, هذه كلها من المفروض أن تعطي حماس فرصة زخمة للتخلّي عن المقاومة المسلّحة من مركز قوّة نسبي. وفي حالة ما أثبتت مفاوضات الوحدة نجاعتها تحت قيادة محمود عبّاس, عليه ألاّ يتوقّع الدخول في مفاوضات سلام ٍ مع إسرائيل إلاّ إذا التزمت حكومة الوحدة الفلسطينيّة الجديدة بنبذ العنف للوصول إلى اتفاقيّة سلام.

مطلوب من الفلسطينيين أن يبرهنوا على التزامهم بحلّ سلمي. عليهم تعزيز مصداقيتهم في أعين الشّعب الإسرائيلي. وبالفعل, لم تتمكّن حتّى الحكومات الإسرائيليّة السابقة من الأحزاب الليبراليّة والوسط بقيادة باراك وأولمرت من التوقيع على معاهدة سلام بسبب افتقار الفلسطينيين للمصداقيّة وعدم رغبتهم في توقيع معاهدة سلام نهائيّة لإنهاء الصراع بشكل ٍ دائم. ويشير الإسرائيليّون بهذا الخصوص إلى ياسر عرفات الذي رفض ذلك عندما أتيحت له الفرصة في مفاوضات كامب ديفيد عام 2000.

وبالقدر الذي يجب على الإسرائيليين أن يوقفوا عنده المشاريع الإستيطانيّة لبيان مصداقيتهم والتزامهم بحلّ الدولتين, يجب أيضا ً على الفلسطينيين أن يحرّروا الإسرائيليين من اعتقادهم بأنّ الفلسطينيين يسعون في النهاية إلى تدمير دولة إسرائيل. هذا هو المأزق الكبير, رغم أنّه بالإمكان تجاوزه. من ناحية يُلقّن الشعب الفلسطيني بأن ينظر لإسرائيل كظاهرة عابرة, زوالها محتوم, وبأن معاناتهم اليوميّة وتضحياتهم المستمرّة ستكافأ في النهاية وبشكل ٍ سخيّ. ولكن لا يبدو على أية حال بأن يوم الخلاص هذا قادم في القريب المنظور. وتستمرّ إسرائيل إبّان ذلك في توسيع المستوطنات القائمة وبناء مستوطنات جديدة, ويستمرّ اللآجئون الفلسطينيّون في العيش ببؤس ٍ وشقاء في المخيمات, هذا في الوقت الذي يطلب منهم قادتهم تقديم المزيد والمزيد من التضحيّات, كما لو كانت ثلاثة أجيال من المعاناة غير كافية !!

ويستمرّ خالد مشعل ورئيس وزراء حكومة حماس, إسماعيل هنيّة, ونفوس أخرى ضالّة في التبشير “بإنجيل” الموت. عليهم أن يعلموا أن لا مجد في الإستشهاد ولا خلاص في الموت ولا أمل في الأوهام ولا مستقبل في ايديولوجية مفلسة. حان الوقت للفلسطينيين أن يثوروا ضدّ هذا الجنون وضدّ كذب المدعووين زعمائهم اللذين ضلّلوا بهم واستغلّوهم فقط للإمتاع الذاتي تحت زيف الأهداف السامية. لقد هجر الصّدق واللياقة الإنسانيّة هؤلاء المتعصّبين والفلسطينيين المتعطشين للدماء الذين سلبوا إخوانهم وأخواتهم العيش بكرامة.

يجب أن يقرّر الشعب الفلسطيني إذا كان يريد العيش بسلام ٍ وحريّة أم أنّه يريد الإستمرار في القنوط لفترة (65) سنة أخرى. إسرائيل حقيقة لا مفرّ منها ! إنّها موجودة وستظلّ موجودة على مدى ما يبصرون. وفقط السّلام الحقيقي والدائم هو الذي سينهي الإذلال والحرمان ويقود إلى مستقبل ٍ زاهر يستحقّه الفلسطينيّون. وكما دعوت في مقالتي السابقة جماعات المثقفين والأكاديميين الإسرائيليين والهيئات الطلابيّة أن تثور في إسرائيل ضدّ زعمائهم المضلّلين والتوصّل إلى اتفاقيّة مع الفلسطينيين, أعتقد بأنه حان الوقت للشباب الفلسطيني, ذكورا ً وإناث, للإنضمام أيضا ً للعصيان المدني السّلمي الجماهيري ومطالبة قادتهم وضع نهاية للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني والتوقّف عن تضليل الشّعب بإعطاء وعود ٍ لا يستطيعون أبدا ً الوفاء بها. وبإمكان النساء الفلسطينيّات أن يحتلن أهميّة خاصّة إذا قرّرن وبشكل ٍ جماعي عن طريق المظاهرات السلميّة تحدّي الوضع الراهن المزري على نمط الإحتجاجات التي قادتها النساء الكاثوليكيّات والبروتستنتيّات في ايرلندة الشماليّة حيث غيّرت هذه وجه الصّراع وساعدت أخيرا ً على التوصّل لحلّه.

حان الوقت للشباب الفلسطيني, وبالأخصّ أولئك المنتمين أو المناصرين لحماس, أن يأخذوا أمثلة لهم من شخصيّات مثل غاندي ومانديلا (بعد تخليه عن الكفاح المسلّح) ومارتن لوثر كنج في نبذ العنف كأداة سياسيّة والإحتجاج سلميّا ً بمئات الآلاف مطالبين بحقهم في حياة ٍ إنسانيّة كريمة وبمستقبل ٍ أفضل. وحان الوقت للشباب الفلسطيني الأبرياء أن يكون لهم شعور حقيقي بالإنتماء, شعور بوحدة الهدف وشعور بالأمان والطمأنينة, وأن ينموا كشباب أحرار, ذكورا ً وإناث, بجميع الطاقات التي يمكن أن يقدمها مجتمع حرّ. وحان الوقت أيضا ً لإنهاء استخدام الدّين كأداة لإخضاع واستعباد البشر بدلا ً من استخدامه للتحرير وتقديم المشورة والإرشاد للعيش حياة ً أفضل. والرئيس محمود عبّاس, الأكثر اعتدالا ً وشجاعة ً بين جميع القادة الفلسطينيين, بحاجة إلى الشعب للوقوف خلفه وتزويده بالغطاء السياسي والتفويض للقيام بالتنازلات اللازمة لتحقيق السّلام. وبفعله ذلك, سيجبر الإسرائيليين على السعي وراء حلّ حقيقي وقابل للحياة, ألا وهو حلّ الدولتين.

وفي التحليل النهائي, يجب على جميع الأطراف من المسلّحين إلى المعتدلين أن يلقوا نظرة ً جديّة على ما يفعلون ويعظون لتجنّب مواجهة كبيرة مع إسرائيل لن يجني منها أي طرف أية مكاسب مجدية. لقد هبط الوضع إلى نقطة تنذر بالخطر وسمحت لأقليّة من المتطرفين بتوجيه الأجندات السياسيّة في حين هُمّشت الأصوات المعتدلة.

إذن, من الأمور الضروريّة جدّاً أن يبدأ الفلسطينيّون بتنمية ثقافة العصيان المدني وتطوير المقاومة السّلميّة الجماعية. عليهم مطالبة زعمائهم بقول الحقيقة وألاّ يقعوا بعد اليوم فريسة ً لكلام المراوغة والخداع من زعماء يركبون على ظهورهم باسم الخلاص الوطني, في حين أنهم دمّروا حياتهم حتّى الآن.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE