غياب رؤية استراتيجيـــــــــــــــــة
السؤال الذي غالبا ً ما يطرحه الكثيرون هو: هل لإدارة أوباما استراتيجيّة متماسكة تجاه الشرق الأوسط تواكب تطورات الأحداث في سياق تلك الإستراتيجيّة ؟ والإجابة الغالبة على هذا السؤال من كبار المسئولين والطبقة الأكاديميّة وحتّى الناس العاديين هي أنّ إدارة أوباما تتفاعل ببساطة مع مختلف التطورات الحرجة والمهمّة ولكن ليس لديها رؤية استراتيجيّة.
ويُنظر غالبا ً إلى ردّ فعل الولايات المتحدة على أنّه جبان جدّا ً ويتعثّر من أزمة ٍ لأخرى، في حين يخسر بذلك كلا الميزتين، المصداقيّة والنفوذ. وهناك العديد من الأمثلة التي تصوّر أسلوب أوباما المتردّد تجاه هذه الأحداث التي قد تحدّد أيضا ً الدور المستقبلي للولايات المتحدة في المنطقة وقدرتها على تشكيل أو كحدّ أدنى التأثير على الأحداث حين وقوعها لخدمة مصالح أمريكا القوميّة ومصالح حلفائها.
فالحرب الأهليّة في سوريا تخرج بالتأكيد عن السيطرة، وبالأخصّ بعد استخدام الأسلحة الكيميائيّة للمرّة الثانية من قبل الحكومة، الأمر الذي قد يؤدي إلى تفسّخ سوريا (إن لم يكن قد حدث هذا التفسّخ بالفعل)، هذا إلاّ إذا تمّ اتخاذ إجراءات صارمة وهادفة فورا ً من قبل الولايات المتحدة.
لقد حذّر الرئيس أوباما الحكومة السّورية بأن استخدام الأسلحة الكيميائيّة سيتجاوز “الخطّ الأحمر”، الأمر الذي قد يطلق فورا ً ردّ فعل أمريكي عقابي. ولكن هذا “الخطّ الأحمر” المزعوم قد تمّ تجاوزه مرتين، واستغرق البيت الأبيض عدّة أشهر لتقييم الإستخدام الأوّل لهذه الأسلحة، هذا في الوقت الذي أصبح من المؤكد بأن حكومة الأسد كانت وراء ذلك. وفقط بعد استخدام هذه الأسلحة للمرّة الثانية وبعد أن قتلت أكثر من ألف مدني يعترف البيض الأبيض أخيرا ً بأن حكومة الأسد هي الفاعلة.
من ناحية أخرى “تتكّ” الساعة لسباق إيران على تطوير برنامج الأسلحة النوويّة, ويعتقد الكثير من المراقبين بأن التأكيد المتكرر لأوباما بأن كلّ الخيارات (بما فيها العسكريّة) مطروحة على الطاولة لمنع إيران من امتلاك أسلحة نوويّة يحمل معه الآن القليل من المصداقيّة، وردّ فعل أوباما على تطورات الأحداث الإقليميّة تثبت ذلك.
ويعتقد الكثيرون أنّه في حالة سيطرة إيران على التقنية لإنتاج السلاح النووي خلال فترة ٍ قصيرة، سيقوم الرئيس بتسوية النزاع عن طريق سياسة الإحتواء، وهذا سبب قلق كبير لإسرائيل ودول الخليج.
لم يفعل الرئيس أوباما سوى القليل لمنع إيران من التزامها الثابت بإنقاذ نظام الأسد عن طريق توفير المساعدة العسكريّة والإقتصاديّة له. أضف إلى ذلك، فقد فشلت الولايات المتحدة في الضغط على العراق لوضع نهاية للرحلات الجويّة الإيرانيّة فوق أجوائها المحمّلة بأسلحة وذخائر لسوريا. وإذا قدّر للأسد أن ينجح (بفعل عدم كفاءة وحماقة الغرب) في قمع الثورة، ستحقق إيران انتصارا ً ساحقا ً آخر يتجاوز تسليم العراق لإيران على طبق ٍ من ذهب في صحوة حرب العراق، الأمر الذي سيكون له ارتدادات وعواقب اقليميّة واسعة الإنتشار.
وبالنسبة لحزب الله، لم يتخذ الرئيس أيّ إجراء لمنع حزب الله من الإنضمام للمعركة في سوريا إلى جانب نظام الأسد وتجاهل عواقبها الوخيمة على لبنان الذي تمّ جرّه الآن إلى الحرب الأهليّة السوريّة. وأصبحت سوريا والعراق الآن أرض المعركة بين السنّة والشيعة يساندهما في ذلك جهاديّون من كلا الجانبين يتدفّقون إلى سوريا من عدّة دول عربيّة وإسلاميّة ويصبّون المزيد من “الزيت على النار” التي ستشتعل في المنطقة لعقود ٍ قادمة.
وبخصوص الصّراع الإسرائيلي – الفلسطيني، فيبدو أنّه تحت السيطرة في الوقت الحاضر رغم غياب التقدّم الحقيقي في مفاوضات السّلام، الأمر الذي يتطلّب ضغطا ً أمريكيّا ً شديدا ً على كلا الجانبين، وإلاّ قد تفشل المفاوضات وتدفع الفلسطينيين لانتفاضة جديدة في محاولة منهم لإنهاء الإحتلال الإسرائيلي.
وأخيرا ً، في دفع إدارة أوباما للديمقراطيّة هناك فصل واضح بين ما ترغب أن تراه الولايات المتحدة وبين ما تمليه الوقائع على الأرض في العديد من البلدان العربيّة. وحتّى أسوأ من ذلك، فالولايات المتحدة تغضّ الطرف عن انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان في دول عربيّة ذات نظام حكم ٍ استبدادي بسبب مصالح استراتيجيّة ذات طابع ٍ خاصّ.
وباختصار، ليس لدى أوباما استراتيجيّة ثابتة ومتماسكة تعالج بفعاليّة صراعات ومشاكل عديدة تؤثّر على بعضها البعض وتعطي صورة من الجبن واللامبالاة. قد أكـون مخطئاً في تقديري لسلوك الرئيس أوباما في السياسة الخارجيّة، ولكنني غير مخطىء على اية حال في إدراك أو إحساس ما أحدثه الرئيس أوباما في المنطقة وفي خارجها. والإدراك أو الإحساس هذا له أهميته، وبالأخصّ في منطقة الشرق الأوسط، بنفس القدر الذي للواقع، إن لم يكن أكثر.
الإحساس بالضعف والجبن والتراخي والإفتقار لرؤية استراتيجيّة من طرف إدارة أوباما قد تؤدي لثلاث نتائج مثيرة للقلق:
أوّلا، قد تصبح التحالفات القائمة مع الولايات المتحدة إحدى الضروريات لا أكثر والتي من الممكن التخلّي عنها في حالة تغيير معادلة القوى الإقليميّة وإيجاد شريكا ً أكثر وثوقا ً منها. وروسيا، بالرّغم من الإنتقادات الموجهة إليها لسماحها باستمرار ذبح المدنيين بدون هوادة، إلاّ أنها تثير إعجاب الكثيرين لمساندتها الملتزمة لحليفها بشّار الأسد,
ولنعد قليلا ً إلى الوراء، فتحالف مصر مع الإتحاد السوفيتي – كمثال – من بداية خمسينات القرن الماضي وحتّى السبعينات منه كان تحالف ضرورة تمّ التخلّي عنه عندما استنتج الرئيس المصري الراحل أنور السادات بأن حظوظ ومستقبل مصر في أيدي الولايات المتحدة.
ثانيا ً، الدول التي تعتمد من حيث أمنها على الولايات المتحدة, مثل إسرائيل والمملكة العربيّة السعوديّة وغيرهما، ودول أخرى تخشى الولايات المتحدة مثل إيران وسوريا أو حتّى العراق قد تتجرّأ على التصرف بشكل ٍ أحادي الجانب في قضايا تبدو ضرورية لحماية مصالحها الوطنيّة.
ثالثا ً، قد تستمرّ دول عظمى مثل روسيا على الإستمرار في تحدّي الولايات المتحدة مدركة ً تماما ً بأن أسلوب الرئيس أوباما الغير عاديّ الحذر يترك ثغرات واسعة لموسكو للتصرّف كما تريد وتعبئة فراغ الزعامة بدون عقاب تقريبا ً.
ونتيجة لذلك، تستمرّ الولايات المتحدة في خسارة الإثنين: المصداقيّة من ناحية والنفوذ من الناحية الأخرى وتتخلّى بذلك بصورة فعّالة عن القوة للاعبين آخرين، أقليميين أو دوليين.
أجل، كثيرون يفهمون تردّد أوباما مجدّدا ً في توريط الولايات المتحدة في صراع ٍ مسلّح آخر في المنطقة بعد أن ورثت عواقب حربين واقتصاد ٍ على حافّة الكساد. ولكن بما أنّ أمريكا تبقى القوّة الرئيسية في العالم ولها مصالح أمنيّة وقوميّة واقتصاديّة دوليّة، لا يُسمح لها أن تصبح مشلولة. يجب على أمريكا استعادة مصداقيتها في العالم لتتمكن من لعب دورها الذي ما زال أساسيّا ً لا غنى عنه في الشرق الأوسط وما وراءه.
الولايات المتحدة بحاجة لاستراتيجية طويلة الأمد تجاه العالم العربي وليس لاستراتيجيّة قصيرة ألأمد قوامها نقاط مفاوضات ودورات انتخابات أو حتّى أزمات طاقة تلوح في الأفق، بل استراتيجيّة تتعامل مع احتياجات الساعة في سياق رؤية بعيدة الأمد تبدأ بالحرب الأهلية الكارثيّة في سوريا.
وللوصول إلى نهاية سريعة للمجازر في سوريا ولإرسال رسالة واضحة وقويّة لإيران وحزب الله والمتطرفين الإسلاميين وكوريا الشماليّة وحتّى روسيا بأنّ لقدرة احتمال وتسامح الولايات المتحدة حدود، على الرئيس أوباما أن يتصرّف الآن وبدون أي تأخير.
على الرئيس الأمريكي أن يشكّل فورا ً تحالفا ً مكوّنا ً من القوى الغربية الرئيسيّة التي قد تتضمّن بريطانيا وفرنسا مع بعض الدول العربيّة الهامة مثل المملكة العربيّة السعوديّة وقطر وتأييد جامعة الدول العربيّة لإضفاء الشرعيّة خارج مجلس الأمن الدولي لاتخاذ خطوات عسكريّة مشتركة ضدّ قوات الأسد.
يجب ألاّ تكون الحملة العسكريّة مفتوحة بل محدّدة النطاق وبدون استخدام قوات بريّة بل مصمّمة فقط لشلّ قوات الأسد. ويجب أن يستهدف الهجوم العسكري نظام دفاع سوريا الجوّي ومخازن الذخيرة ومستودعات الأسلحة الكيميائيّة ومدرّجات جميع المطارات العسكريّة لمنع الطائرات الحربيّة من الإقلاع. هذا ولا يتوقّع معظم المراقبين أن تقوم سوريا أو أيّ من حلفائها بضربة انتقاميّة ضدّ الولايات المتحدة أو أيّ من حلفائها خوفا ً من الضربات المضادة التي ستكون بحجم ٍ أكبر بكثير. وعلاوة ً على ذلك، على الرئيس أوباما أن يفوّض رأسا ً إرسال شحنات صواريخ مضادة للطائرات والدبابات وذخائر، وبالأخصّ للجيش السوري الحرّ لإنهاء المهمّة بتعطيل أكبر قدر ٍ ممكن من كتائب مشاة الأسد.
مكانة أمريكا وما تبقّى من مصداقيتها في أعين المجتمع الدولي على المحكّ. والعبء والمسئولية يقعان الآن مباشرة على كاهلي الرئيس أوباما للتصرّف من أجل إنقاذ أرواح ٍ بدلا ً من الوعظ بحقوق الإنسان، حيث لم يعد هناك وقت للإنتظار.