هل يتوافق الإسلام مع الديمقراطية؟
إنّ السؤال الذي يطرح نفسه بإخراج الرئيس المصري محمد مرسي من السلطة هو عمّا إذا يتوافق الإسلام مع الديمقراطية أو مع أي شكلٍ من أشكال الحكم الذي يمنح الشعب السلطة ويحدّ من سلطة الحكّام أو القادة بشغل مناصب تمثيلية فقط وبمهام لفتراتٍ زمنية محدّدة أم لا.
الإسلام هو آخر الديانات السماوية الإبراهيمية التي برزت على الساحة الدولية. ويعكس التوحيد بشكلٍ عام، وبالأخصّ من خلال تطوره في العصور المظلمة والوسطى، أنظمة سلطوية إلى أبعد الحدود.
ومن الناحية اللاهوتية فإن الإسلام يفترض وجود نظام كوني أو سماوي بسلطة مطلقة بالله وملائكة وسطاء وبشرية ساقطة بحاجة للخلاص عند قاعدة البنية السلطوية الهرمية.
لا غرابة أنه في القرون التي كانت فيها الكنيسة الكاثوليكية عند أوج نفوذها في الغرب، كانت السلطة السياسية في أيدي الملوك والبابوات والأباطرة ومجموعة قوية مستبدة ومحابية مع وجود صدوع اقتصادية ضخمة بين عامة الشعب وحكامها. هذه البنيات أو الأنظمة لم تكن – كما يبدو- متوافقة مع الديمقراطية.
المسيحية واليهودية، وهما ديانتان سماويتان توحيديتان، ليستا بأقل إرثاً من هذا النموذج الطبقي أو السلطة المركزية، ولكن هاتين الديانتين – بخلاف الإسلام – قد تحولتا بشكلٍ فعّال إلى الاتجاه الدنيوي وأصبحتا من الناحية الدينية أقل حدّة خلال حركة التنوير الفلسفية الأوروبية التي استمرت زهاء قرن من الزمن.
لقد مهّد مفكرون أمثال ديسكارت ولوكي وسبينوزا وكانت وفولتير وروسو وهيوم وهيغل الطريق لماركس وشوبنهاور وبوبر وسارتر لتحدي الطرق والأساليب التقليدية للإيديولوجيات الدينية والتشكيلات السياسية.
والديانات التوحيدية التقليدية بنظرتها العالية للإنسان ولله قد لا تكون بحدّ ذاتها متوافقة كلياً مع الديمقراطية، غير أن التوحيد الغربي العصري قد شكّل نفسه تدريجياً لطرقٍ جديدة من التفكير خلال عصر النهضة والتنوير وقد أٌجبر بالتأكيد على ذلك وسط عمليات تقدّم وتطور علمي وتقني سريع.
وبالنسبة للعالم الإسلامي، فقد تمتع هو الآخر بنهضته خلال العصر الذهبي الإسلامي الذي امتد من منتصف القرن الثامن لغاية منتصف القرن الثالث عشر بتقدّم مذهل في العلوم والرياضيات والأدب، غير أن هذه الفترة تقهقرت ولم تعد أبداً لمجدها السابق.
أين فلاسفة وعلماء الإسلام العصريين العظماء اللذين بإمكانهم تمهيد الطريق لتحويلٍ مماثل لكلا اتجاهي الإسلام، المتطرّف والعلماني، في العالم العربي؟
إنّ أغلبية المفكرين اليوم في العالم العربي هم رجال دين وأئمة ومفكرون منبثقون من صلب القيم الإسلامية. والإسلام المتطرف لا يغذي ببساطة وبشكل روتيني مفكرين ليبراليين مستعدين لتحمل نيران ما قد يصبح يوماً ما تحقيقاً رسمياً إسلامياً (على غرار محاكم التفتيش الكاثوليكية التي نشطت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر).
هل من الممكن التّحول حتى من نظام سلطوي ديني هرمي إلى شكلٍ مُعَاصر وحتى دنيوي للديمقراطية الإسلامية، شكل يقبل الفصل ما بين الدين والدولة؟
وفي حين تبقى الإمكانية والاحتمال قائمين، فإنّ هذا الأمر صعب جداً لأن الإسلام، لربّما أكثر من أية ديانة سماوية أخرى، يتدخّل في كل نواحي الحياة الاجتماعية. وبشيء أكثر تحديدا ً، فإن الإسلام من حيث الفطرة والتعريف يتعارض مع فصل الدين عن الدولة.
وتجدر الإشارة إلى أن مثل هذا الفصل ما بين الدين والدولة قد حدث تحت أنظمة حكام سلطويين علمانيين كصدام حسين في العراق وعائلة حافظ الأسد في سوريا والقذافي في ليبيا. وفي جميع هذه المراحل، فإن السلطوية التي شوهدت في حكم الإسلامي محمد مرسي ما زالت موجودة.
إن الشرق الأوسط ليس المكان الوحيد الذي قد يجبر فيه المعتقد الديني الناس على التصويت ضد مصالحها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولكن التاريخ يعلمنا أنه إذا كان هناك أي احتمال أو فرصة في اقتران الإسلام بالمثل الديمقراطية، فإن الجهود للقيام بذلك يجب أن تعمل بالتزامن والتوافق على المستويات الدينية والاقتصادية والسياسية. فمن الناحية الدينية، فكرة فصل الدين عن الدولة ليس لها عملياً أي سند في التفكير الإسلامي، فالفكرة غريبة تماماً لمعظم أتباع الإسلام التقليدي (الأرثوذكسي). وحتى لو كان هناك حزب سياسي علماني بالاسم، فإن أتباعه لا يتجرأون على التخلي عن معتقدات الإسلام الأساسية.
قد تؤثر الهوية الدينية القوية المفروضة حالياً على المواطن العادي تحويل أو ترجمة وجهات النظر الإسلامية إلى القضايا السياسية مبطلة بذلك هذا الفصل الحيوي للسلطات وتنويع النهج السياسي.
وتقدّم لنا تركيا بهذا الخصوص بكلّ معنى الكلمة مثالاً لفشل اقتران الإسلام بالديمقراطية. ففي حين كان أردوغان يدعم عمليات التنمية الاقتصادية ويظهر بالكلام فقط ولاءً للحرية، كان يزج الصحفيين بالسجن ويكتسب لنفسه المزيد من السلطة، قائداً البلد بشكل متزايد بالعقائد الإسلامية بدلاً من مبادىء الديمقراطية. وبذلك تقدّم تركيا تحت قيادة رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان – الذي يزعم بأنه وجد الصيغة المثالية لمعادلة الإسلام بالديمقراطية – نموذجاً سيئاً خيّب بشدة أمل الشباب العربي الليبرالي الذي يقاتل الآن هذا الاستبداد الإسلامي في مصر.
يحتاج مواطنو العالم العربي أولاً إلى تغيير جذري في طريقة التواصل مع ديانتهم وترسيخها اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً.
وُينتظر مع صعود شباب حرّ في تفكيرهم واحتكاكهم بطرق جديدة لتفسير الإسلام أن يبزغ شكل علماني وعصري للإسلام يتكيّف مع مبادىء الديمقراطية العصرية.
ثانياً، يحتاج العالم العربي إلى تنمية اقتصادية مساواتية تقصي نفسها عن النماذج القبلية والعشائرية والمركزية المهيمنة والسعي لبناء طبقة وسطى قوية مجهزة بالدعم الاجتماعي الأساسي في التعليم والرعاية الصحية.
ثالثاً، يحتاج العالم العربي، ولربما أكثر من أي شيء آخر، للوقت. يجب أن نتذكّر بأن العالم الغربي احتاج قروناً من الزمن لتخليص نفسه من قيود الجهل الديني وحق الملوك الإلهي. غير أن الدول العربية لن تحتاج لقرون من الزمن لتخرج من الماضي وتنمو في الديمقراطيات الفعّالة لأنها وبخلاف الغرب لا تحتاج أن تنتظر للتّقدم المتزامن في العلوم الاجتماعية والطبيعية والسياسية التي مهدت الطريق للثورة الصناعية وعصر المعلومات.
الشباب العربي ملمّ الآن بالتقنيات الحديثة، الأمر الذي سيسارع من ارتقائهم للديمقراطية وتفوّق المنطق، لا الوحي، في النهج السياسي. ولكن التسارع يأتي أيضاً مع “ورطاته” المستترة، الأمر الذي يجعل من الوضع الحالي خطراً وفاجعاً بالنسبة لملايين الرجال والنساء والأطفال الأبرياء الذين يعانون في الوقت الحاضر من حرمانٍ شديد.
ولذا، لا يكفي على المدى البعيد أن يكون لبلدٍ ما فقط تنمية اقتصادية، مثل المملكة العربية السعودية، أو انتخابات فقط مثل مصر والعراق. فبدون تنمية متوازنة سيكون للتطرف – حتى في واحدة من المؤسسات الاجتماعية الثلاثة- إن تُرك بدون رقابة، تأثيراً سلبياً على الاثنتين الأخرتين.
حتى لو تم انتخابها ديمقراطياً فإن الأحزاب الإسلامية الراديكالية تفترض على نفسها أشكالاً تذكّر بالإستيلاء على السلطة كما كان يفعل الملوك المستبدين. إنّ لدى هذه الأحزاب بكلّ بساطة نماذج قليلة أخرى لسلطتها السياسية أو لشجاعة أتباعها عدا الحكم الملكي. ومحمد مرسي ونوري المالكي خير مثال على ذلك.
أنا لا أتفق مع فكرة أن الإطاحة بالرئيس المصري المنتخب بحرية سيشجع أحزاب المعارضة الإسلامية في أرجاء العالم العربي بالتخلي عن أشكال الحكم الديمقراطية والسعي بعنف لتحقيق أجندتهم الاجتماعية – السياسية في الشوارع لفقد ثقتهم بنظام انتخابي حرّ. بل عكس ذلك، فالأحزاب الإسلامية التي تسعى للسلطة ستأخذ درساً جيداً من التجربة المصرية. أن تُنتخب ديمقراطياً لا يمنحك سلطات فاشستية، والحكم يجب أن يشمل جميع الشعب ويمثل جميع فئات الشعب ويعتني برخائهم بالتساوي دون محاباة وبصرف النظر عن أية انتماءات سياسية.
لم تتم تنحية مرسي عن السلطة لأنه مسلم تقي، وكلّ من صوّت له كان يعلم ذلك جيداً. لقد خان مرسي بتصرفاته من نزعة إسلامية راديكالية فرضيات القائد المنتخب بشكلٍ حرّ، وهو ما يتطلّب تحمّل المسئولية والشمولية والارتقاء لروح الثورة.
إضافة إلى ذلك، لقد فشل مرسي في الفصل ما بين غرائزه الإسلامية والمبادىء الديمقراطية التي خوّلته للحكم. لقد رفض مرسي أكثر من مرّة نداءات القوات المسلحة والولايات المتحدة وحتّى السلفيين لتشكيل حكومة شاملة لإنهاء الأزمة. إن ما يريده المفكرون المصريون وعامة الشعب المصري أن تكون بلدهم عصرية متعددة الأحزاب وتنظر للخارج، ولا يرغبون بالتأكيد في استبدال ديكتاتور بآخر، ولو كان حتّى منتخبا ً.
اللوم يقع بالتأكيد مباشرة على كتفي مرسي الذي أخضع سياساته للدين وخضع للتيار الإسلامي المحافظ والمتديّن الذي يرى في الإسلام السياسي الجواب لقرونٍ من الحرمان والظلم.
لقد عمل مرسي بشكلٍ لا يعرف الكلل لترسيخ سلطاته في الوقت الذي لم يفعل فيه سوى القليل لإنقاذ الإقتصاد من الانهيار الوشيك. لقد نصّب نفسه فوق السلطات القضائية وعيّن العديد من زملائه الإخوان في مراكز هامّة وسمح لأفراد من عصابات الإخوان المسلمين الإجرامية بضرب معارضين ليبراليين.
وإذا لم يكن هذا كله كافياً، فزد عليه أنه قوّض صلب حرية التعبير والرأي بتخويف وسائل الإعلام وفشله في بناء مؤسسات ديمقراطية. أضف إلى ذلك، لقد سعى وراء وضع دستور جديد يعتمد كلياً على الشريعة الإسلامية ووسّع مجال مقاضاة التجديف وساند التمييز ضد حقوق المرأة. وللتأكيد, فقد استسلم مرسي لعقليّة الحصار الإسلامية وللحكم الإستبدادي الفاشي في وقتٍ كانت تطالب الأمة بالشمولية والحرية السياسية، وهذا كان جوهر الثورة ضد سلفه بالدرجة الأولى.
أجل يستطيع الإسلام السياسي والديمقراطية أن يعملا جنباً إلى جنب، ولكن ليس بالدّفع لانتخابات مبكرة. ويجب أن تعمل حكومة انتقالية لفترة سنتين على الأقل، حكومة يقودها زعيم محترم غير مقيّد بإيديولوجية متطرفة ويستطيع بقاعدة شعبية عريضة التّوصل لإجماع في الرأي، وذلك للسماح للأحزاب العلمانية والإسلامية بتطوير أجنداتها السياسية وتنوير الشعب بسياساتها الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من القضايا الملحّة التي تواجه الأمة.
وإبّان تلك الفترة يجب وضع دستور جديد يعتمد على أساس الحرية والديمقراطية والمساواة والفصل بين الدين والدولة. وأي دستور جديد يحرّر في مصر لا يفصل بوضوح الدين عن الدولة سيكون مصيره الفشل وسيؤدي على الأرجح لاندلاع ثورة أخرى.
ستأتي على مصر أيام أكثر إشراقاً ما دام ميدان التحرير مخلصاً وملتزماً باسمه. لقد امتلك الشعب المصري أخيراً السلاح الفاصل الذي يمنع الإستبداد، أكان ذلك بالقبض على السلطة من طرف الجيش أو من أحزاب دينية أو علمانية. ومن يسعى لقيادة مصر، عليه أن يتذكّر ذلك جيداً.