All Writings
مايو 11, 2015

عداء الساميّة وواجب إسرائيل الأخلاقي

تتصاعد تفجرات الغضب المروّعة ضد اليهود يوما ً بعد يوم في جميع أنحاء أوروبا. وتُسمع صيحات وهتافات مثل:”اقتلوا اليهود بالغاز” و “أفضل من يحترق هم اليهود” أثناء مباريات كرة القدم وفي تجمعات إجتماعيّة مماثلة. وفي حين ليس هناك ما يعذر أو يبرّر مثل هذه الشعارات الحاقدة، غير أنّه ما زال من الضروري بذل المزيد من الجهد لفهم سبب إطلاق مثل هذه الصيحات في الوقت الحاضر، وهذه لدرجة لم تكن معهودة منذ عقود. وهذا يعني ضرورة معالجة الطرق التي ينتهجها القادة الإسرائيليّون بشكل ٍ مباشر، واليهود دون قصد بشكل ٍ عامّ والتي ساهمت في هذا التطوّر الخطير.

وبالرّغم من أن اصطلاح “العداء للسامية” لم يصبح شائع الإستخدام حتّى نهاية القرن التاسع عشر – عندما قامت ألمانيا بتعميمه شعبيّا ً كمصطلح ذو رنّة علميّة وهو ما سمّي بالألمانيّة “Judenhass”(أي الكراهيّة تجاه اليهود) – غير أنّ اليهود كانوا يعانون منه على الأقلّ منذ بداية القرن الثالث قبل الميلاد. أما الصعود الحالي للعداء للساميّة في كثير من بلدان أوروبا الغربيّة، وبدرجة أقلّ في الولايات المتحدة، لا يمكن تفسيره على أية حال بالإشارة فقط لوجوده واستمراره التاريخي.

تجدر العودة في هذا السياق للتفسيرات الجاهزة والمألوفة لعداء الساميّة. ومن هذه الفرضيّات – التي ما زالت تتداول بشكل ٍ مذهل – هي “نظريّة كبش الفداء” ومفادها أن اليهود كانوا دائما ً جالية تعيش على الراحة وغير مبالية ويقع عليها اللوم للصراعات الإجتماعيّة والسياسيّة المستعصية الحلّ في كلّ مرحلة من مراحل التاريخ.

ففي دراستها بعنوان:”أصول الشموليّة” تشير الباحثة حنّة آريندت إلى المشكلة البارزة من هذا الرأي، فتقول “بأن كبش الفداء قد يكون أي شخص آخر”، وحالما نبدأ في شرح “سبب ملاءمة كبش فداء معيّن لدوره”، علينا أن نضع النظريّة جانبا ً “ونقحم أنفسنا في البحث التاريخي المألوف – الذي لم يُكتشف فيه أيّ شيء عدا أنّ التاريخ قد صنعته مجموعات عديدة، ولأسباب معيّنة استثنيت منها مجموعة”.

أما النظرية العكسيّة – والتي ليست أقلّ شعبيّة ً – فهي عقيدة “المعاداة الأبديّة للساميّة”، حيث “عداء اليهود ردّ فعل عادي وطبيعي والتاريخ يعطي فقط بين الحين والآخر فرصة له”. هذا يعني بأن موجة العداء للساميّة لا يتمّ التحريض عليها بحدث خاصّ لأنها نتيجة طبيعيّة لظاهرة لا تموت.

وما يشير الدّهشة هو أنّ حتّى اليهود أنفسهم يشاطرون هذا الرأي. تماما ً كما لا يريد المعادي للساميّة تحمّل المسؤوليّة عن أفعاله، لا يريد الكثير من اليهود اعتبار أو “مناقشة حصتهم من المسؤوليّة”.

ومما أضاف زخم للإرتفاع الكبير في معاداة الساميّة في الأعوام الحاليّة هو الصّراع الإسرائيلي – الفلسطيني وتحدّي إسرائيل لمعايير السّلوك الدوليّة، وشعور قادتها بالبرّ والغطرسة، والصورة التي يعرضونها للعالم الخارجي.

ويشرح الفيلسوف سلافوي تشيزك كيف أنّ إسرائيل، لتبرير سياساتها التوسعيّة، تلعب لعبة ً خطيرة بعواقب كارثيّة محتملة. يدّعي صهاينة متطرّفون بأن دولة متعددة الحضارات مثل إسرائيل لا يمكنها أن تبقى على قيد الحياة وبأن سياسة التمييز العنصري، الأبارتهايد، أو ما يشبهها هو البديل الوحيد القابل للحياة – أي معترفين بشكل ٍ أساسي بالحجّة التي كانت مستخدمة في التاريخ الأوروبي في وقت ٍ سابق ضدّ اليهود أنفسهم.

هذا يعني بأن المتطرفين الإسرائيليين على اليمين مستعدّون لتجاهل تعصّب الأوروبيين الغربيين تجاه تيّار الثقافات الأخرى، مثل الإسلام، في حالة قبول هؤلاء حق امتياز المتطرفين اليمينيين في إسرائيل بعدم التسامح مع الفلسطينيين. وقد نضيف أيضا ً بأن تمييز الإسرائيليين لا يقتصر فقط على الفلسطينيين فحسب، بل يمتدّ حتّى لليهود الشرق أوسطيين والأثيوبيين.

وتشيزك محقّ في إشارته بأن إسرائيل ترتكب خطأ ً مأساويّا ً في حساباتها إذا قرّرت “التقليل من شأن …ما يسمّى العداء الأوروبي التقليدي القديم للساميّة …إذا ما عاد هذا العداء القديم لينتشر في جميع أنحاء أوروبا”. وتحت هذا الضوء يمكننا أن نفهم أيضا ً التحالف الغريب ما بين اليمين الإسرائيلي المتطرّف والأصوليين المسيحيين الأمريكيين الذين يُعتبرون من الناحية التاريخيّة معادين للساميّة ولكنهم يدعمون بشغف سياسات إسرائيل التوسعيّة:”فالإنتقادات اليهوديّة لدولة إسرائيل تفنّد بشكل منتظم كيهود يكرهون أنفسهم. ولكن اليهود الفعليين الذين يكرهون أنفسهم، أي أولئك الذين يكرهون سرّا ً العظمة الحقيقيّة للشعب اليهودي، هم على وجه التحديد الصهاينة الذين يعقدون اتفاقا َ مع المحافظين الغربيين المعادين للسامية”.

ما زال العديد من اليهود يعتقدون بأنهم “الشعب المختار”..مختارون ليكونوا في عهد ٍ مع الله. ولكن على ماذا يدلّ “الإصطفاء” ؟ لقد وصفه الفيلسوف إمانويل لفيناس بأفضل صورة عندما قال:” يُعتبر إصطفاء الشعب اليهودي دائما ً كفائض من المسؤوليّة…وغالبا ً ما يتخذ موقفا ً متميّزا ً، وذريعة ً للإرستقراطيّة بالمعنى السيّىء للإصطلاح، وحقّ الإمتيازات. ويعني على أية حال في التفكير الأصيل فائض من الإلتزامات”.

وفكرة أن يكون المرء مُختارا ً تضع على الفرد مسؤولية أخلاقيّة غير اعتياديّة. وهنا فشلت إسرائيل بشكل ٍ ذريع حيث أنها لم تحاول أن توفّق ما بين التزاماتها الأخلاقيّة تجاه الفلسطينيين وشعور اليهود المفترض بأنهم “مُختارون”.

لقد استطاعت قيادة إسرائيل السياسيّة أن تغذي نيران معاداة الساميّة من خلال تصاريح شنيعة وغير مسؤولة و”اصطياد الأعراق”. وتستفزّ مثل هذه القيادة المزيد من الكراهيّة، حيث يستمرّ القادة الإسرائيليّون في استخدام كليشيهات ونقاط حوار لا معنىً لها يرفضها أعداؤهم ولم يعد يحترمها أصدقاؤهم.

واستغلال الأمن القومي لتبرير سياسات عنصريّة، بما في ذلك سوء معاملة الفلسطينيين والتوسّع في المستوطنات، أصبح تعويذة سياسة إسرائيل المحليّة ويغذّي معاداة الساميّة بجرعة يوميّة من السمّ ضدّ إسرائيل وشعبها.

قد يفكّر المرء بأنّ من عانى من الإضطهاد بالقدر الذي عانى منه اليهود قد يعامل الآخرين برفق وحساسيّة. وأن تصبح الضحيّة هي الجلاّد شيء مؤلم حقا ً، ولكنها حقيقة على الرّغم من ذلك، كما لو أنّ المعاناة بهذا القدر تعطي من يعاني الرّخصة في فعل أشياء لم يكن سيفعلها. وأرى شخصيّا ً بأن استمرار الإحتلال سيبقى السبب الأقوى الكامن وراء تصاعد معاداة الساميّة.

هناك تقصير مشترك يتقاسمه معادو الساميّة والجهاديّون الإسلاميّون والصهاينة المتطرّفون، وهو بالتحديد فشل معرفي أو إدراكيّ، أي الإيمان في عصمتهم الأخلاقيّة التي تقودهم للغطرسة واللآمبالاة والرضا عن النفس والشعور بأن المرء لا يحتاج لتقديم تبرير لكلماته وأفعاله. وقد يقود هذا أيضا ً لأعمال عنف ٍ فظيعة.

وقد صرّح ه.ل. منكن ً بصواب عندما قال:”اليقين الأخلاقي دائما ً إشارة لعقدة نقص ثقافيّة…لقد كان كلّ التقدّم البشري، حتّى في الأخلاقيّات، من صنع رجال شكّكوا في القيم الأخلاقيّة الحاليّة، وليس من صنع رجال هتفوا لها وحاولوا فرضها.”

ليس من المحتمل أن يتمّ اجتثاث معاداة الساميّة في يوم ٍ ما، حيث سيكون هناك دائما ً متعصّبون يستمدون رضا ً أو قناعة منحرفة بتجريد أنفسهم من المسؤوليّة الأخلاقيّة، ولكراهية اليهود بالنسبة لهم تأثير هذياني مسكر تقريبا ً.

وعلى أية حال، هناك إمكانيّة لكبح تصاعد عداء الساميّة الحالي. يجب على القادة الإسرائيليين والشعب الإسرائيلي العودة والإلتزام ثانية بالأسس الأخلاقيّة التي كانت سببا ً في ميلاد دولة إسرائيل. يجب عليهم البدء في إطلاق رواية شعبيّة صادقة ونزيهة تعتمد على واقع التعايش مع الفلسطينيين وتجد إسرائيل نفسها فعلا ً في هذه الرواية، وليس رواية خياليّة منغمسة في الملذّات تشوّه الحقيقة حول حقوق الفلسطينيين وبإمكان أحمق حتّى اكتشافها. تعرض علاقات إسرائيل العامّة إسرائيل كبلد متغطرس والحجج القديمة والمستهلكة يرفضها العالم الآن كإنجيل فارغ لا يقنع حتّى صاحبه.

وادّعاء نتنياهو بأنه يمثّل يهود العالم هو ادّعاء كاذب ويورّط فقط اليهود على أنهم شركاء في الإحتلال البغيض وسوء معاملة الفلسطينيين. لا بدّ من تقليص إجراءات إسرائيل الإستفزازيّة، أوّلا ً وقبل كلّ شيء بإنهاء التوسّع في المستوطنات ووقف ضمّ المزيد من الأراضي، فسلوك إسرائيل في المناطق الفلسطينيّة لا يقيم شيئا ً سوى صبّ الزيت على النار الممتدّة لعداء الساميّة. إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تبقي احتلالا ً عسكريّا ً لمدّة تقارب الخمسين عاما ً متحدية ً بذلك المجتمع الدّولي. ويجب ألاّ تُستخدم المحرقة (الهلوكوست) – التي لا تقارن بأي حدث مأساوي آخر في التاريخ البشري – كذريعة لتبرير إضطهاد وقمع الفلسطينيين. ورضا الإسرائيليين وسكوتهم عن الإحتلال يدين اليهود في جميع أنحاء العالم. وما دام الإحتلال قائما ً سيستمرّ العداء للساميّة في تصاعد.

يجب على القادة الإسرائيليين والشعب الإسرائيلي بشكل ٍ خاصّ أن ينظروا إلى ما بداخلهم، فالحلم الصهيوني في خلق دولة يهوديّة نابضة بالحياة وعادلة وأخلاقيّة وتراعي مصالح الغير يتلاشى سريعا ً.

إسرائيل اليوم مُستهلكة بالفساد على الرأس، فالفقراء يزدادون فقرا ً وثروة البلد مركّزة في أيدي حفنة من العائلات الثريّة. تُصرف مئات الملايين من الدولارات على المستوطنات الغير شرعيّة، هذا في حين تعاني مدن فقيرة أغلب سكانها من يهود الشرق الأوسط من عجز في ميزانياتها.

والتمييز ضد اليهود السفارديم (الشرقيين) ما زال موجودا ً حتّى بعد أربعة أجيال من قيام دولة إسرائيل، والصّدامات العنيفة في الآونة الأخيرة التي جرت مع اليهود من أصل ٍ إثيوبي تكشف فقط عن عمق التفكك الإجتماعي الإسرائيلي. وقد لا يستطيع رئيس إسرائيل أن يعبّر عن ذلك بطريقة أكثر إيجازا ً وألما ً عندما صرّح بأن” المتظاهرين في القدس وتل أبيب كشفوا عن جرح ٍ مفتوح ودام ٍ في قلب المجتمع الإسرائيلي. هذا جرح لشريحة من المجتمع تدقّ ناقوس الخطر على ما تشعر به من تمييز، وتفرقة عنصريّة وعدم اكتراث لاحتياجاتها. وعلينا أن نلقي نظرة جادّة وفاحصة على هذا الجرح”.

ويمكن أن يُقال نفس الشيء عن السياسات العنصريّة الموجّهة ضد العرب الإسرائيليين الذين وضع ولاؤهم للدولة موضع شكّ بشكل ٍ مثير للسخرية، في حين أنّ سياسة الحكومة في الواقع الهادفة للتمييز المقصود لا تقوّي سوى المشاعر المعادية لليهود بين العرب الإسرائيليين الذين يشكّلون 20 % من سكّان إسرائيل.

لم يبق َ لإسرائيل أصدقاء ولا تستطيع حتّى بعد الآن أن تعتمد على الولايات المتحدة الأمريكيّة في توفير الغطاء السياسي الذي اعتادت عليه. العداء للساميّة في تصاعد، ليس فقط في أوروبا وإنما أيضا ً في الولايات المتحدة التي تمثّل المعقل الأخير للدّعم الشعبي لإسرائيل.

يجب على إسرائيل ألاّ تتجاهل بشكل ٍ مريح العداء للساميّة على أنه ببساطة مرض عضال لا شفاء منه، في حين أنها تمارس في الواقع “العداء للساميّة” ضدّ شريحة كبيرة من سكانها. ومسؤوليّة التقليص من معاداة الساميّة يقع بالدرجة الأولى على كاهل القادة السياسيين الإسرائيليين والشعب الإسرائيلي نفسه.

يجب أن تحتضن إسرائيل القيم الأخلاقيّة التي أقيمت على أساسها. فمستقبل إسرائيل، إن لم يكن وجودها، يعتمد على ذلك.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE