عندما تلتقي الظروف الجيوسياسية والقيم الأخلاقية
خلقت التطورات الجيوسياسية في الشرق الأوسط على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية ديناميات سياسية وأمنية جديدة ناجمة عن الإضطرابات العنيفة والمخاوف العميقة بشأن التهديد الإيراني الذي تتشاطره إسرائيل والدول العربية. إسرائيل تواجه الآن منعطفا حرجا جديدا: فإما مواصلة احتلالها القمعي والضم الزاحف للأراضي الفلسطينية، وهو ما يتناقض تماما مع مسؤوليتها الأخلاقية وقيمها اليهودية؛ أو السعي إلى التوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين في سياق السلام الشامل العربي الإسرائيلي الذي تسعى إليه الدول العربية الآن أكثر من أي وقت مضى بسبب مخاوفها الأمنية الداخلية والخارجية.
الحكومة الحالية بزعامة نتنياهو بدعم من ثلاثة وزراء متطرفين هم: ليبرمان، بينيت، وشاكيد – الذين يمسكون بزمام الوزارات الرئيسية من الدفاع والتعليم والعدل على التوالي- تميّز البيئة الجيوسياسية الجديدة. فهؤلاء يكملون بعضهم بعضا من خلال تطوير موقف الدفاع، ومناهج تعليمية متحيزة، وسرد رواية عامة منحرفة، هذا مع إضعاف السلطة القضائية وقيام نتنياهو بتنسيق إستراتيجية طويلة الأجل تحرم الفلسطينيين من إقامة دولة ٍ خاصة بهم.
و”معميّون” بالنشوة التي خلقها إعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل والتوسّع دون عوائق تقريبا ً للمستوطنات وضمّ الأراضي الفلسطينية، يشعر الوزراء بثقة من أن الإحتلال لم يعد مصدر قلق كبير للدول العربية. ومع دعم ترامب الذي لا يتزعزع، فإنهم يتمتعون بالحرية في القيام بما يختارونه دون عقاب. لكنهم مخطئون بشكل مأساوي.
يتعين على إسرائيل الآن أن تغتنم الفرصة الهائلة التي يعتبر الزمن عاملا ً حساسا ً بالنسبة لها وتتيحها لها الدينامية الإقليمية الجيوسياسية المتغيرة التي يحدثها التهديد الإيراني المشترك ضد إسرائيل والدول العربية. وتعتبر الدول العربية الكبرى، وخاصة السعودية ومصر والأردن ودول الخليج، إسرائيل اليوم حليفا استراتيجيا بدلا من كونها عدواً، الأمر الذي يضع إسرائيل أمام خيارين:
الأول هو تحقيق المزيد من المكاسب الإقليمية من خلال بناء مستوطنات جديدة غير شرعية، وتوسيع ما هو قائم منها وإضفاء الشرعية عليها، الأمر الذي سيقصي أو سيقفل أساسا أي احتمال للتوصل إلى اتفاق سلام إسرائيلي – فلسطيني قائم على أساس حلّ الدولتين. وهذا لن يمنع الدول العربية من التعاون مع إسرائيل بسبب انشغالها بالتهديدات الداخلية والخارجية التي تحظى بالأولوية على تطلعات الفلسطينيين لإقامة دولة.
إن رد الفعل الصامت نسبيا على اعتراف ترامب بالقدس عاصمة إسرائيل يعزز فقط الرأي القائل بأن مخاوف الدول العربية من التهديد الإيراني لها الأسبقية حتى على مسألة حساسة مثل وضع القدس في المستقبل.
وعلى الرغم من أن الدول العربية تريد تطبيع العلاقات مع إسرائيل، فإنها لن تفعل ذلك لأن ذلك سيعتبر خيانة سافرة للقضية الفلسطينية التي دافعت عنها لعقود. وبدلا من ذلك، ستواصل هذه الدول التعاون الإستراتيجي الضمني مع إسرائيل ضد إيران، وهو ما تحتاجه، ولكنها تحرم إسرائيل من سلام شامل يسعى إليه الإسرائيليون بشكل كبير.
الخيار الثاني لإسرائيل هو الإستفادة من حالتها الراهنة للعلاقات مع الدول العربية من خلال التواصل مع الفلسطينيين لاستئناف محادثات سلام جديّة. وقد تكون هذه فرصة تاريخية لأن الدول العربية الراغبة في الحفاظ على تعاونها الإستراتيجي مع إسرائيل باتت الآن مهيأة للضغط على الفلسطينيين لتقديم تنازلات مهمة لإسرائيل خاصة فيما يتعلق بالأمن القومي واللاجئين ومقايضة الأراضي.
وتتيح الظروف الراهنة فرصة نادرة للتوصل إلى اتفاق سلام يمكن تنفيذه على مدى فترة زمنية طويلة (عشر سنوات أو أكثر)، حيث يستطيع الطرفان تنمية الثقة (التي يفتقران إليها إلى حد كبير) من خلال مشاريع اجتماعية – اقتصادية مشتركة، والترتيبات الأمنية والتعاون.
ومن خلال إقامة دولة فلسطينية، ستنهي إسرائيل انتهاكاتها لحقوق الإنسان وتوقف التآكل المعنوي المستمر الذي عجل به الإحتلال الذي بُليت به البلاد منذ خمسة عقود وأدى إلى تقويض القيم اليهودية والإنسانية بشدة. هذه القيم كانت السرّ الأكبر وراء بقاء اليهود على قيد الحياة عبر آلاف السنين على الرغم من أنهم تعرضوا للتمييز والإضطهاد والطرد والموت.
وكما قال الحاخام دانيال بوليش ببلاغة في كتابه: “اليهودية وحقوق الإنسان”، “إن نظام القيم والأفكار [التي تقوم عليها حقوق الإنسان] هي من بين المعتقدات التي تشكل جوهر الكتاب المقدس اليهودي وتقاليد الأفكار و الممارسات التي تتدفق منه … “
نتنياهو وشركاؤه متمسكون في جوهرهم بالفكرة القائلة بأن الله أهدى “أرض إسرائيل” حصرا لليهود، الأمر الذي يبرر اتخاذ أي إجراء، مهما كان خطأ ً ومسيئا ً من الناحية الإنسانية، لضمان الأرض إلى الأبد باسم الله . لقد أصبحوا غافلين عن حقيقة أن “حقوق الإنسان هي جزء لا يتجزأ من إيمان وتقاليد اليهوديّة”.
وترى الشريحة اليمينية من السكان الإسرائيليين تطور الأحداث بين إسرائيل وجيرانها العرب واعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل دليلا على عدم قابلية الهجوم على حكومة نتنياهو وسياساتها. ولكن ليس هناك شيء أبعد من ذلك عن الحقيقة.
فإذا كانت هذه السياسات تؤدي فعلا ً إلى سلام شامل، سأقول من ناحيتي:” إستمروا في هذا النهج”. ولكن نظرا لتذبذب الشرق الأوسط، قد يصبح أصدقاء اليوم خصوم الغد. وهذا احتمال لا تستطيع حكومة نتنياهو تجاهله.
يحتاج السعوديون ودول الخليج الأخرى في الوقت الحالي إلى تعاون استراتيجي مع إسرائيل حيث أنها تخدم مصالحهم طالما أن إيران تعتبر تهديدا لأمنهم القومي. ولكن يمكن أن يتغير ذلك بطرق عديدة، بما في ذلك التخفيف من حدة الصراع السعودي الإيراني في حالة إستقرار الأوضاع في سوريا والعراق. وفي هذه الحالة يصبح التعاون الإستراتيجي مع إسرائيل ليس في محلّه.
بدون التوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين وبقية الدول العربية ستترك إسرائيل نفسها عرضة للتغير في البيئة الجيوسياسية. هل يستطيع نتنياهو وليبرمان وبنيت وشاكيد أن يضمنوا إلى أجل غير مسمى تطوّر الأحداث في المنطقة لصالح إسرائيل؟
ليس هناك خصم حقيقي اليوم يمكن أن يدمر إسرائيل. أكبرعدو لإسرائيل يأتي من داخل إسرائيل. إنه زعماؤها المضللون الذين ستكون مهمتهم التوراتية العمياء سببا ً في تدمير إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية.