All Writings
أكتوبر 11, 2013

التفاوض تحت ظلّ قضيّة اللاجئين الفلسطينيين

من ضمن القضايا الرئيسية التي يتنازع حولها الإسرائيليون والفلسطينيون في المفاوضات الجارية هي مشكلة اللاجئين. وبالرغم من أنّ الجانبين قد اتفقا في مفاوضات سابقة أجريت في عام 2000 و 2008-2009 حول شروط أو شكليّات معينة قد تسمح بعودة عدد صغير فقط من اللاجئين ما بين 25.000 و 30.000 إلى إسرائيل، غير أن الاتفاقية فشلت لإرهاقها بقضايا أخرى مختلف عليها، وبالأخصّ مخاوف إسرائيل الأمنية القومية. وإصرار إسرائيل منذ ذلك الحين على الحفاظ على الهوية اليهودية للدولة والتغيير الديمغرافي يجعل من عودة أي عدد ذو أهمية من اللاجئين الفلسطينيين إلى إسرائيل أو حتّى من مبدأ حق العودة أمراً مستحيلاً بكلّ بساطة.

لقد نوقشت مشكلة اللاجئين الفلسطينيين بشكلٍ عام في سياق الحتميّة الأخلاقيّة والمعنوية لما يسمّى “حق العودة” ويعتمد على أساس الحكم الشخصي لمفهوم الصح والخطأ. والظروف التي أدّت إلى مشكلة اللاجئين كما يراها المرء من وجهات النظر المفضّلة للإسرائيليين والفلسطينيين كان لها وزن كبير في تشكيل مفهومين متعاكسين تماماً بين الطرفين.

فمن وجهة النظر الفلسطينية شُرع بعد قيام دولة إسرائيل مباشرة في شهر مايو (أيار) 1948 بطردٍ قصري ومنهجي لحوالي 800.000 فلسطيني من وطنهم فلسطين. ويطلق الفلسطينيون على مجمل هذه الأحداث “النكبة”.

لقد ترسّخ هذا السيناريو في نفس الفلسطينيين وتمّ تعزيزه بروايات شعبية منهجية ومتماسكة بدعم من القادة الفلسطينيين للإبقاء على محنتهم ومن الدول العربية التي استغلّت اللاجئين لاستهلاكها المحلّي لتغطية تقصيرها وفشلها الداخلي.

والشيء الذي زاد من تفاقم مشكلة اللاجئين الفلسطينيين هي أعمال العنف اللاحقة والمتكررة بين الجانبين، وبالأخصّ بعد حرب عام 1967 الذي خلق موجة جديدة من اللاجئين. أضف إلى ذلك، يُنظر الآن إلى المستوطنات الإسرائيلية على أنها خطة مقصودة لإنكار حق اللاجئين وحتى لإمكانية العودة لأي جزءٍ من الأراضي الفلسطينية.

ما زال الفلسطينيون حتى بعد خمسة وستين عاماً من النكبة ينظرون لحق العودة كحتميّة أخلاقيّة – معنوية التي يجب أن تتجاوز جميع الإعتبارات الأخرى مهما كانت التغييرات على أرض الواقع.

إسرائيل من ناحيتها تفنّد الظروف والأوضاع التي أحدثت مشكلة اللاجئين. من وجهة نظرها وموقفها دعت خطة التقسيم التي وضعتها الأمم المتحدة إلى إقامة دولة يهودية بجانب دولة فلسطينية. وفي حين قبل الإسرائليون بالخطة، رفضها الفسطينيون وقامت سبعة دول عربية بغزو الدولة الحديثة الولادة حيث هُزمت هذه الدول. ويستمر الإسرائيليون بجدلهم قائلين بأن الدول العربية هي التي طلبت من الفلسطينيين تجنب طريق الضرر والمخاطر أثناء حرب عام 1948 وترك بيوتهم والعودة إليها بعد هزيمة الإسرائيليين.

يستند الموقف الإسرائيلي بشكل ٍ عام على حقيقة أن أناس كثيرون ينتهي بهم المطاف في أوقات الحرب إلى الرحيل والإستيطان في مكانٍ ما، وبالأخصّ إذا كانت الأوضاع في بلدهم الأصلي قد تغيّرت بشكلٍ جذري إلى الأسوأ.

أضف إلى ذلك، تصرّ إسرائيل على أنّ عودة أي عدد مهم من اللاجئين الفسطينيين إلى إسرائيل قد يطمس الهوية اليهودية للدولة. وعلى أية حال، فإن المطالبة بحق العودة تعتمد على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الغير ملزم رقم (194) الصادر في عام 1948. وفي البحث عن حلّ، هناك عدة عوامل مهمّة أخرى يجب أخذها بعين الاعتبار بعناية تامّة.

أولاً، لقد خلق كلا الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني رواية تاريخية متحيّزة تناسب مطالبات كلّ منهما من حيث المتسبّب فعلاً في رحيل الفلسطينيين عن أوطانهم. ففي حين تدّعي إسرائيل بأنّ الدول العربية هي التي شجّعت الفلسطينيين على الرحيل، يصرّ الفلسطينيون على أنّ إسرائيل أجبرتهم بالقوّة على الرّحيل.

ثانياً، وبما أنّ ما يزيد عن 700.000 فلسطيني هربوا من فلسطين في عام 1948، فإن عددهم حسب إحصائيات وكالة الغوث (الأونروا) قد ارتفع إلى حوالي خمسة ملايين منذ عام 1948. لقد تمّت معاملة الوضع القانوني للاجئين كميراث ينتقل من الأب إلى الإبن، وهو وضع لوكالة الغوث (الأونروا) وللدول العربية مصالح مستمرة في الإبقاء عليه.

ثالثاً، في حين تدرك السلطات الفلسطينية بأنّ إسرائيل لن تقبل أبداً بعودة أي عدد له أهمية من اللاجئين الفلسطينيين، غير أنّ هذه السلطات مستمرة في تعزيز مفهوم بأن للاجئين الفلسطينيين حق المولد المنيع الذي لا يتأثر بمرور الوقت.

رابعاً، في مباحثات السلام التي أجريت في عام 2000 وفي عام 2008 وافق الفلسطينيون على عودة 20.000 إلى 25.000 لاجىء بموجب ما يسمى بِ”لم شمل العائلات” على مدى بضعة سنوات في حين كانوا يصرّون بأن “مبدأ” حق العودة سيبقى راسخاً في أية اتفاقية سلام. رفضت إسرائيل ذلك على أساس أن هذا الشرط أو المادة ستتركها دائماً ضعيفة أمام مطالبات المستقبل. ولذا، يجب أن يتفوّق حق حفظ الذات على الشرط المعنوي – الأخلاقي لحق العودة مهما كان هذا الأخير عادلاً.

لقد لاحظ الفيلسوف السياسي ليو شتراوس بأن الوضع المتطرّف هو”الوضع الذي يكون فيه وجود أو استقلال مجتمع في خطر . وقد يكون هناك خلافات ما بين ما يحتاجه حفظ الذات لمجتمع ما ومتطلبات العدالة المتبادلة والتوزيعية. في هذه الحالات، وفقط في هذه الحالات يمكن أن يقال بعدل بأن الأمن العام هو القانون الأعلى”.

سيستمر حق العودة في بقائه عائقاً رئيسياً في مفاوضات السلام ما لم تقبل إسرائيل والقيادة الفلسطينية الحقائق المتغيّرة على الأرض التي تقدّم نفسها لإيجاد حلّ.

إطار حلّ:

انطلاقاً من ضرورة إنهاء الأزمة الإنسانية للاجئين الفلسطينيين، يجب أن تعالج حقوقهم بشكلٍ عادل من خلال إعادة توطينهم وتعويضهم. وعلى جميع الأطراف المعنيّة بالحلّ، أي بالتحديد الفلسطينيين أنفسهم وإسرائيل والدول العربية والولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي أن يسهّلوا إيجاد حلّ ليس فقط من أجل اللاجئين أنفسهم، بل لأن حلّ النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني يخدم المصالح الوطنية لهذه الدول على أحسن وجه.

أوّلا ً، بالنسبة لإسرائيل فإن ضرورة التوصّل لاتفاقيّة مع الفلسطينيين تزداد يوما ً بعد يوم. فعزل إسرائيل بشكل ٍ متنام ٍ وقلقها حول برنامج أسلحة إيران النوويّة وخوفها من الوضع المتفجّر في سوريا والمعطيات الديمغرافيّة المتغيّرة بسرعة على أرض الواقع لصالح الفلسطينيين، هذه كلّها أقنعت الكثير من الإسرائيليين بأن الوقت قد حان لإنهاء الصراع مع الفلسطينيين.

وكما كان الحال في الإتفاقيات الغير نهائيّة السابقة، على إسرائيل أن تسمح بعودة ما بين 20.000 و 25.000 لاجىء فلسطيني للإستيطان على مدى 4 – 5 أعوام في إسرائيل ضمن إطار “لمّ شمل العائلات”. أضف إلى ذلك، وبصرف النظر عن مدى غرابة هذا الأمر في الوقت الحاضر، على إسرائيل كايماءة حسن نيّة أن تترك العديد من المستوطنات التي ستخليها في نهاية الأمر باتفاق ٍ متبادل مع السلطة الفلسطينيّة لجزء من هؤلاء اللاجئين العائدين للإقامة فيها. وبإمكان إسرائيل علاوة َ على ذلك أن تقدّم الدّعم الفني واللوجستي لمساعدة الفلسطينيين. لن يكون هناك عرض إنساني يمكن لإسرائيل أن تقدّمه أكبر من القيام بهذه المساهمة المباشرة لمساعدة الفلسطينيين في هذه المهمّة الشاقّة.

ثانيا ً، تريد الأغلبيّة العظمى من الفلسطينيين إنهاء الإحتلال. وتدرك السلطة الفلسطينيّة وقيادة حماس جيّدا ً الشعور العامّ بهذا الخصوص، غير أنّ تمسّك الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني، بمواقف متطرفة أدّت إلى عكس ما يريده ويتمناه عامّة الفلسطينيّين. وتعلم السلطة الفلسطينيّة وحماس بأن الوقت ينفذ في هذا الوضع الحالي. وهم يعلمون أيضا ً بأن عليهم أن يقدّموا للآجئين شيئا ً ملموسا ً لمستقبل أفضل وأن يمدّوهم بالأمل والفرص، وقبل كلّ شيء استعادة كرامتهم الإنسانيّة.

على السلطة الفلسطينيّة أن تبدأ الآن تدريجيّا ً ولكن بثبات وإصرار في تغيير روايتها الشعبيّة والتأكيد على أنّه بإمكان اللآجئين الفلسطينيين ممارسة حقّ العودة إلى وطنهم في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، أي في الدولة الفلسطينيّة الجديدة والمستقلّة.

أجل، يدرك العديد من الفلسطينيين بأن حقّ العودة قد تقلّص إلى مبدأ بدلا ً من كونه إمكانيّة حقيقيّة، هذا بشرط أن يكون الوعد بإعادة التوطين والتعويض وعدا ً موثوقا ً به.

ثالثا ً، لقد توصّلت جميع الدول العربيّة تقريبا ً أكثر من أيّ وقت ٍ مضى إلى نتيجة أنّ استمرار النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني يقوّض مصالحهم الوطنيّة ولم يعد ينظرون لإسرائيل على أنها العدوّ. أضف إلى ذلك، لقد ضاقت الدّول العربيّة ذرعا ً بنهوض التطرّف الإسلامي الذي يجتاح الشرق الأوسط في الوقت الحاضر وطموحات ايران في امتلاك أسلحة نوويّة وتعتبر الآن موضوع تسوية الصّراع الإسرائيلي – الفلسطيني والتوصّل إلى تقارب مع إسرائيل قضيّة مركزيّة للإستقرار الإقليمي. وهذا ما يعلّل أيضا ً مساندتهم لجهود إدارة الرئيس أوباما لاستئناف المفاوضات الإسرائيليّة – الفلسطينيّة.

يجب أن يكون هذا الحلّ للصراع متوافقا ً مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 لعام 1967 الذي يدعو “لتحقيق تسوية عادلة لمشكلة اللآجئين” وكذلك مع مبادرة السّلام العربيّة التي تدعو أيضا ً “لحلّ عادل لمشكلة اللآجئين الفلسطينيين”. هذا وعلى الدّول العربيّة أن تقدّم أيضا ً الدّعم اللوجستي والتنظيمي وتشجّع في نفس الوقت رواية شعبيّة جديدة بخصوص “حقّ العودة ” للدولة الفلسطينيّة حديثة الولادة.

رابعا ً، للإتحاد الأوروبي مصلحة خاصّة في أن يرى نهاية للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، فالإتحاد الأوروبي يستورد نسبة كبيرة من نفطه من الشّرق الأوسط، ولأنه يقع على مقربة ٍ منه فإن له مصلحة كبيرة في استقرار المنطقة.

لقد لعب الإتحاد الأوروبي عى مدى العقود الأخيرة دورا ً مهمّا ً في مساعدة اللآجئين الفلسطينيين وساهم بأكبر مبلغ من المال لإعادة تأهيلهم ولرعايتهم الصحيّة وتعليمهم. ولذا فإن للإتحاد الأوروبي مكانة فريدة من نوعها لكونه الجهة المناسبة لاستخدام موارده الإقتصاديّة لأخذ زمام القيادة في ايجاد التمويل اللازم الذي قد يصل إلى 10 مليارات دولار أو ما يزيد لإعادة توطين اللآجئين وتعويضهم.

خامسا ً، مصلحة أمريكا الإستراتيجيّة في الشرق الأوسط ذات أهميّة قصوى. وقد كانت الإدارات الأمريكيّة المتعاقبة متشبّثة دوما ً بإقناع كلا الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني، بالتوصّل لاتفاقية سلام.

ونظرا ً لبروز وشهرة الولايات المتحدة ونفوذها القوي بالتوازي مع قدرتها للمشاركة في تمويل أيّ حلّ لمشكلة اللآجئين، ينظر كلا الطرفين – الإسرائيلي والفلسطيني – للولايات المتحدة على أنها الحكم النهائي الذي بإمكانه المساهمة بشكل ٍ محبّذ لإيجاد حلّ للآجئين، وستستمرّ في لعب دور ٍ محوريّ في إعادة توطينهم وتعويضهم في سياق سلام ٍ شامل.

لم يبق في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ الصّراع الإسرائيلي – الفلسطيني إلاّ القليل للخيال أو الوهم. فالحلّ الوحيد هو الواقع المرّ أو الحلو للتعايش السلمي بين الشعبين. وحلّ مشكلة اللآجئين الآن أمر ممكن. لقد حان الوقت لوضع نهاية لمحنة اللآجئين الفلسطينيين وردّ كرامتهم الإنسانيّة لهم.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE