“حقّ العودة” – ولكن إلى أين ؟
مضى ما يقرب من ثلاثة أشهر من المظاهرات التي قام بها الفلسطينيون على طول الحدود بين إسرائيل وغزة تحت شعار “مسيرة العودة” والتي تحولت إلى العنف وما زالت مستمرة حتى وقت كتابة هذه السطور. وهذا يقدم صورةً آخرى لمدى إنخداع الفلسطينيين وتضليلهمم معتقدينً أنه لا يزال هناك احتمال لعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى منازلهم الأصلية في إسرائيل اليوم. علاوة على ذلك ، وعلى الرغم من أن القيادة الفلسطينية تدرك أن حق العودة لا يمكن أن يتحقق أبداً، فإن حقيقة أنها شجعت تدفق الشباب الفلسطيني وراء هذا الهدف الذي لا يمكن الدفاع عنه لم تُثر فقط توقعات زائفة فحسب، بل أفادت مباشرة أحزاب إسرائيل اليمينية.
وطالما استمر الفلسطينيون في الإصرار على حق العودة ، فإنهم لن يكتسبوا مصداقية في نظر معظم الإسرائيليين ، الذين يقولون إن المطلب الفلسطيني لحل الدولتين ليس سوى الخطوة الأولى في مسيرتهم لإزالة إسرائيل عن الخريطة. ولأنهم لا يستطيعون فعل ذلك بالقوة ، فإنهم يختارون الوسائل الديمغرافية من خلال حق العودة ، وهو ما يفسر أيضا الجاذبية المتزايدة وراء حل الدولة الواحدة.
إن رواية الفلسطينيين المستمرة عن حقهم في العودة خلقت عقلية بينهم جعلت منها ركيزة أساسية لا يمكن بدونها إقامة سلام إسرائيلي فلسطيني. ومع ذلك ، فإن معالجة حق العودة في المقام الأول من شأنه أن يخفف العقبات العاطفية والنفسية التي حالت دون أن يتقبل الفلسطينيون وجود إسرائيل الكامل.
أضف إلى ذلك، وبالنظر إلى الخلاف العميق بين الجانبين حول كل قضية أخرى متنازع عليها، بما في ذلك القدس والمستوطنات والأمن ، فإنه من المستحيل ، كما ثبت في المفاوضات السابقة ، حل هذه الصراعات إلى جانب مشكلة اللاجئين في صفقة حزمة واحدة. وبالتالي ، سيكون من الضروري التعامل مع كل من القضايا المتنازع عليها بشكل منفصل ، والتي لا يمكن تحقيقها إلا إذا التزم كلا الطرفين بإيجاد حل دائم وشامل (وهو أمر لا بد منه) ، والفلسطينيون مطمئنون من قبل الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بأن حلاّ للاجئين الفلسطينيين لا يشكل سوى الخطوة الأولى.
وحتى في هذه الحالة ، من الوهم الإعتقاد بأن السلطة الفلسطينية أو حماس ستوافقان على حلّ حق العودة أولاً. إنهم يخشون من أنه من خلال حلّ هذه القضية أولاً سيفقدون أهم ورقة رابحة لهم ستكون لصالح إسرائيل وستنتهي عملية السلام دون تحقيق دولة فلسطينية مستقلة.
وفي حين أن مثل هذا القلق له ما يبرره بسبب سياسة إسرائيل التوسعية ، فإن احتمال ممارسة حق العودة غير موجود ، وكلما طال الانتظار أصبح الأمر أسوأ، فعدد اللاجئين يتزايد بشكل كبير دون أي احتمال بأن يتغير الموقف الإسرائيلي.
السؤال هنا هو كيف ستحلّ مشكلة اللاجئين بالنظر إلى ثبوت الفلسطينيين على حقهم في العودة ؟ طوال أكثر من سبعين عاما تم تلقينهم من قبل قادتهم بأن حقهم في العودة غير قابل للتصرف. فكيف يمكن لأي زعيم فلسطيني أن يتفاوض على اتفاق يستثني بشكل مفاجئ حق العودة ؟
وبالنسبة للفلسطينيين الذين ترسّخت في نفسيتهم إمكانية العودة ، فإن هذا سيكون أكبر خيانة وربما سيؤدي إلى أعمال عنف غير مسبوقة ضد قوات الأمن الفلسطينية وإسرائيل بتحريض من فلسطينيين متطرفين لا يريدون حلًا لا يدّمر إسرائيل.
لذلك ، فإن الطريقة الوحيدة لتغيير ديناميكية العودة هي عبر الدول والمؤسسات – لا سيما الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) – التي تواصل دعمها ﻟﻼﺟﺌﻴـﻦ وأداﻣـﺖ المشكلة دون ﻗﺼـد ﻋﻠـﻰ ﺣﺴـﺎب اﻟﻼﺟﺌين. يجب على هذه المؤسسات أن تعيد تقييم الوضع القائم وتتحمل مسؤولية تغيير نهجها تجاه المشكلة من خلال التصريح علناً أن الوقت قد حان لوضع حد لهذا التزوير من خلال التعويض و / أو إعادة التوطين.
يمكن توقع أن يعارض الفلسطينيون مثل هذا التغيير الدرامي وأن يستنكروا الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة بسبب قصدهم “الخائن” ضد قضيتهم. لكن الحجة المؤيدة لإعادة التوطين و / أو التعويض كانت تعتبر بشكل غير مباشر الخيار العملي الوحيد. فمنذ حرب الأيام الستة عام 1967 أقرت الأمم المتحدة والجامعة العربية ومجموعات أخرى باستحالة حق العودة واقترحت حلاً يستند إلى أسس أخلاقية تحقق العدالة للاجئين.
“ويؤكد قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 على ضرورة … تحقيق تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين …”، وتنص اتفاقية أوسلو 1993-1994 على أنه “من المفهوم أن هذه المفاوضات سوف تغطي القضايا المتبقية ، بما في ذلك: القدس ، واللاجئين ، والمستوطنات ، الترتيبات الأمنية ، و [الحدود] … “. وتشير مبادرة السلام العربية لعام 2002 إلى” تحقيق حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين … “[التأكيد مضاف].
في كل دورة من المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية إتفق القادة الفلسطينيون على أنه لن يُسمح إلا لعدد صغير من اللاجئين (25.000 – 30.000) بالعودة في إطار لم شمل الأسر خلال فترة تتراوح بين خمس وسبع سنوات. وفي عام 2000 في كامب ديفيد وافق عرفات على مثل هذه الصيغة ، لكنه أصرّ على أن صياغة حق العودة يجب أن ترسّخ في الوثيقة النهائية،وهو أمر ٌ رفضته إسرائيل بشدة. وفي جميع المفاوضات اللاحقة في عهد بوش وأوباما أقرت السلطة الفلسطينية بأنه لن يكون هناك حق في العودة بخلاف ما هو منصوص عليه أعلاه.
من الضروري أيضا إعادة تعريف من هو اللاجئ الفلسطيني. ووفقاً للأونروا التي تأسست عام 1949 فإن اللاجئين الفلسطينيين هم أولئك الذين نزحوا من فلسطين الانتدابية (إسرائيل الحالية وغزة والضفة الغربية) في عام 1948 وعام 1967 ونسلهم، وهذا شمل أيضًا اللاجئين اليهود. ومع ذلك ، ففي حين أن إسرائيل استوعبت هؤلاء اليهود، لم يتم إعادة توطين اللاجئين العرب رسميا ، سواء داخل الدول العربية أو في الضفة الغربية وغزة.
وعلى هذا النحو ، يجب على الأونروا أن تفرق بين لاجئ فلسطيني يعيش بحكم التعريف خارج مكان ميلاده (فلسطين اليوم) وشخص آخر نازح كان قد غادر أو طُرد من منزله الأصلي في إسرائيل اليوم ولكنه يعيش الآن في بلده – الضفة الغربية وغزة.
من الضروري القيام بهذا التمييز لأن قائمة “اللاجئين” ستستمر في النمو بشكل مطّرد من قبل أولئك الذين ولدوا في وطنهم في الضفة الغربية وغزة ولكنهم يعتبرون من باب المفارقات لاجئين من قبل الأونروا المستديمة.
ومن بين إجمالي اللاجئين الفلسطينيين الذين يبلغ عددهم أكثر من 5 ملايين ، يتم تسجيل ما يقرب من 810.000 من أصل 2.5 مليون ساكن في الضفة الغربية كلاجئين. وفي غزة ، من بين ما يقرب من 2 مليون نسمة ، تم تسجيل 1.3 مليون لاجئ.
وفي الأردن ، من بين أكثر من 3 ملايين فلسطيني، تم تسجيل ما يقرب من 2.2 مليون لاجئ رغم أن الغالبية العظمى منهم يحملون الجنسية الأردنية بالكامل. وفي لبنان، جميع الفلسطينيين تقريباً (حوالي 500.000) يعتبرون لاجئين ويحرمون من الجنسية. وينطبق الأمر ذاته على سوريا حيث تم تسجيل 530.000 شخص تقريباً كلاجئين. وفي هذه الحالات الثلاثة ، الغالبية العظمى من اللاجئين الفلسطينيين قد ولدت بالفعل في تلك البلدان.
لقد حان الوقت لأولئك الذين يدعمون اللاجئين لاتخاذ المبادرة وإنهاء الأزمة الإنسانية والبؤس وإذلال اللاجئين، وذلك من خلال اتخاذ الخطوات التالية:
أولاً ، بما أن الفلسطينيين لن يغيروا روايتهم حول حق العودة ، يجب على مؤيدي وداعمي برامج اللاجئين ، بما في ذلك الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والدول العربية ، تغيير النهج العام والتحدث بصراحة عن إعادة التوطين والتعويض وإعادة التأهيل. إن تغيير الرواية العامة سيتردد صداه مع مرور الوقت ويوفر غطاءً سياسياً للقيادة الفلسطينية للمشاركة تدريجياً في نفس النهج حول ضرورة إنهاء مأساة اللاجئين على هذا الأساس.
ثانياً ، يجب أن يكون التغيير في النهج أو الخطاب العام مصحوباً في البداية بجمع 10 مليارات دولار ليتم تخصيصها للاجئين خلال فترة تتراوح بين 5 و 7 سنوات. يجب أن يتم جمع الأموال من قبل الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والدول العربية الغنية بالنفط. سيظهر جمع الأموال مدى جدية المبادرة الجديدة وسيكون له تأثير نفسي وعملي هائل على معظم اللاجئين الذين وقعوا ضحية لاستخدامهم كرهائن من قبل قادتهم وهم متشوقون لإنهاء محنتهم.
ثالثًا ، ينبغي على فرنسا وبريطانيا تقديم قرار في مجلس الأمن الدولي لإنهاء تفويض الأونروا بعد تمديدها الأخير إلى عام 2020 ، وبدلاً من ذلك إنشاء لجنة جديدة تابعة للأمم المتحدة تشرف على عملية إعادة التوطين وتقدم تقارير منتظمة إلى مجلس الأمن. وينبغي على الجنة تحديد موعد نهائي لن يتم بعده إضافة أي فلسطيني إلى القائمة. سيؤدي هذا إلى تجميد العدد الحالي الذي سيحصل على مخصصات ، الأمر الذي يتطلب من الدول التي تستضيف اللاجئين الفلسطينيين حالياً إما منحهم الجنسية أو تسهيل إعادة توطينهم في الضفة الغربية وغزة أو في بلد ثالث.
رابعاً ، على الرغم من أن إسرائيل لا تتحمل أي مسؤولية عن اللاجئين ، فإنه ينبغي على الحكومة الإسرائيلية إبداء ً لحسن النية أن تقدم مساعدة تقنية في مجالات الإسكان الجاهز والبنية التحتية. من مصلحة إسرائيل العليا أن تسهل حل مشكلة اللاجئين التي تطارد الإسرائيليين كذلك منذ سبعين عاماً.
إن حل مشكلة اللاجئين على هذا المنوال سيسهم بشكل كبير في حل النزاع مع حماس حيث أن الأزمة الإنسانية المستمرة تغذي نار اليأس الذي هو مصدر العنف الذي لا ينتهي.
لا أفترض للحظة أن الفلسطينيين سيتبنون هذه المبادرة بأذرع مفتوحة ، لكن البحث عن حل يجب أن يبدأ في مكان ما. يجب على أولئك الذين أطالوا مشكلة اللاجئين أن يتحملوا الآن المسؤولية الأخلاقية والدور القيادي لتقديم حلّ لإنهائها.