المستوطنات سرطان قد يقضي على إسرائيل
وصلت مرّة أخرى مفاوضات السلام الإسرائيلية – الفلسطينية الآن – التي كانت متوقفة والتي عمل وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بكل ما أوتي من جهد على إعادة إنعاشها قبل حوالي أربعة أشهر – إلى طريق مسدود. فقد طفت على السطح مرّة أخرى قضية الإستمرار في بناء وتوسيع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية كالقضية المركزية المتنازع عليها بين الطرفين، مهدّدة بنسف عملية السلام نهائياً.
يرى الإسرائيليون والفلسطينيون مشروع المستوطنات من زوايا مختلفة تماماً تحدّد أهدافهم الإستراتيجية وتزداد عناداً وتناقضاً كلّ مرة تعلن فيها إسرائيل بناء وحدات سكنية جديدة. فإذا كانت المفاوضات الجارية كما يراها الفلسطينيون تهدف فعلاً للتّوصل لاتفاقية سلام تعتمد على أساس حلّ الدولتين، فإن النشاط المتواصل للإستيطان ووجود الفلسطينيين أنفسهم في الضفة الغربية يتناقض كلياً مع هذا الهدف. ونتيجة لذلك، ستحرم هذه المستوطنات الفلسطينيين من إقامة دولتهم على نفس الأرض.
ومنذ التوقيع في أوسلو على إعلان المبادىء في شهر سبتمبر (أيلول) 1993 أصبح عدد المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية ثلاثة أضعاف، أي من 110.066 إلى ما يزيد عن 340.000 اليوم، هذا إضافة إلى حوالي 200.000 مستوطن في القدس الشرقية حيث يتم بناء آلاف الوحدات السكنية الجديدة باستمرار.
من الناحية الفيزيائية، يصادر إنشاء المستوطنات الأراضي شيئا ً فشيئا ً بصورة ٍ مضنية ويرسل رسالة واضحة مفادها: إسرائيل ترفض مطالبة الفلسطينيين بالأرض أو حقهم المعترف به دولياً لإقامة دولتهم المستقلة على أرضهم. ويصرّ الفلسطينيون على أنه وخلافاً للتصريحات العلنية ليس لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نيّة للسعي وراء اتفاقية سلام تعتمد على أساس حلّ الدولتين، وهم يشيرون إلى جهوده التي لا تلين في توسيع المستوطنات باتباع تعويذة رئيس الوزراء الراحل، اليميني المتطرف، إسحق شامير في منتصف أواخر الثمانينات الذي كان يشجّع بشدة فكرة أن توطّن إسرائيل مليون يهودي في الضفة الغربية، خالقةً بذلك واقعاً غير قابل للرجوع ولا يستطيع أحد أن يغيّره.
وبالرّغم من أنّ تجميد بناء المستوطنات لم يكن شرطاً مسبقاً لاستئناف المفاوضات، غير أنّ المشكلة بالنسبة للسلطة الفلسطينية هي أن توسيع المستوطنات خلال فترة عملية التفاوض يُنظر إليه في أعين عامة الشعب على أنه نخرٌ أو تقويض قضية أساسية تشكّك في الغرض الكلي للمفاوضات.
وبالفعل، فإن النشاط الإستيطاني المتواصل يصعّب جداً من الناحية السياسية على الرئيس محمود عباس التنازل لإسرائيل عن قضايا مهمة أخرى مثل حق عودة اللاجئين الفلسطينيين. وهذا مثبّط للهمة، إن لم يكن يخيف، بشكلٍ خاصّ للفلسطينيين إذا نُظر للأمر في سياق رفض إسرائيل التنازل عن قضية واحدة فقط تقرّر بدورها مستقبل الدولة الفلسطينية.
وموقف نتنياهو هو أنّ المستوطنات لن تعيق قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. ولكن كيف يخطّط هو تخفيف ذلك مع الواقع على الأرض. هذا يبقى أحجية، وبالأخصّ عندما تشير تصريحاته العلنية المتكررة حول حقّ إسرائيل التاريخي في الأرض إلى عكس ذلك. هذا مع بقاء رئيس الوزراء نتنياهو متصلّبا ً وعنيدا ً حول حق إسرائيل للإبقاء على وجود مهمّ في الضفة الغربية، معلّلاً ذلك من وجهة نظره بعدد من الحقائق المحضة:
أولاً، يصرّ نتنياهو على أن لليهود ارتباط تاريخي بكامل “أرض إسرائيل” كما ترى ذلك الحركة الصهيونية وبعكس أسلافه إيهود أولمرت وآرئيل شارون وإيهود باراك. فهو من الناحية الإيديولوجية لا ينظر للضفة الغربية كمناطق محتلة (والتي يشير إليها باسمها العبري، يهودا والسامرة). ولذا فهو يصرّ على ألاّ تكون الضفة الغربية محظورة على السكان اليهود.
ثانياً، يتمسّك نتنياهو والعديد من الإسرائيليين ذوي المعتقدات الدينية القوية بوجهة نظر أنه تمّ توريث الأرض لليهود اللذين لهم حق مولد توراتي للعيش فيها. ويعتقد المستوطنون المتحمسون بشدّة بأنهم ينفذون رسالة الله وبأن القدير يختبر عزمهم، وتشبثهم وإرادتهم للقيام بأية تضحية قبل أن يمنحهم وللأبد أرض الميعاد.
ثالثاً، لقد ربط نتنياهو بإصرار المستوطنات بأمن إسرائيل القومي، وهي حجة يقبل بها عدد متزايد من الإسرائيليين في ظاهرها. لقد نادى مراراً بأن إسرائيل لن تقبل “حدود لا يمكن الدفاع عنها” وهي الحدود المرسومة على أساس خطوط عام 1967 ويبيّن بأن إسرائيل ستكون فقط بعرض 9 أميال إذا تخلّت عن الكثير من وجودها في الضفة الغربية.
رابعاً، أما التشجيع العملي الأكبر وراء المستوطنات فهو رغبة الإسرائيليين بتشجيع من الحكومة بالعيش في مسكن واسع ممكن الحصول عليه في بيئة نظيفة مع سهولة الدخول للمراكز المدنية. ولجذب المزيد من المستوطنين، فقد دأبت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ماضياً وحاضراً على دعم الإسكان مادياً في المستوطنات مع توفير ودعم المدارس والأمن وخدمات أخرى كثيرة.
نتيجة لذلك، فقد أدّت هذه العوامل الأربعة إلى التّوسع في المستوطنات ونهوض الحركة الإستيطانية كقوة سياسية هائلة متأصلة تماماً في الجسم السياسي لدولة إسرائيل. وقد اكتسبت هذه الحركة مع مرور الوقت قوة الفيتو تقريباً على السياسات التي تؤثر على التصرف بمستقبل الضفة الغربية.
حركة المستوطنين ليست مجموعة صغيرة من المجرمين والمخربين اللذين همهم فقط حرق المساجد الفلسطينية أو كتابة الشعارات المثيرة للمشاعر والشغب على جدرانها أو الإعتداء بالتخريب على القواعد العسكرية الإسرائيليّة بالرغم من وقوع العديد من هذه الحوادث، بل هي حركة جاءت حكومات إئتلافية متعاقبة لتعتمد عليها لخلق دعم سياسي واسع. فإذا كان الخلاف حول المستوطنات يعتمد فقط على أساس قضايا أمنية أو سياسية، كان بالإمكان تسويته من خلال مفاوضات حسن النية وضمانات أمنية صارمة، ولكن المستوطنات تمثل على أية حال أكثر من خلاف أمني وسياسي. كلّ هذا يثير السؤال: هل ستعترف حكومة نتنياهو بأن سياستها بخصوص المستوطنات قد وضعت أساسا ً لمرحلة يسودها المزيد من تصاعد المواجهات العنيفة كما وصفها حديثا ً وزير الخارجيّة الأمريكي جون كيري بقوله:” إنها غير شرعيّة” وحذّر من احتمال انفجار انتفاضة ثالثة ؟ قد يكون كيري أخطأ في التعبير عن ذلك علنا ً بدلا ً من شحذ ذلك بقوة في أذن نتنياهو. ولكن مع كلّ ذلك، فإن الرسالة بحدّ ذاتها سليمة.
وبالرغم من أنّ السلطة الفلسطينيّة قد تعلّمت درسا ً من الإنتفاضة الثانية التي اندلعت في عام 2000 م وستحاول تجنّب مواجهة عنيفة مسلّحة مع إسرائيل، غير أنّ هناك العديد من المجموعات الفلسطينيّة المتطرّفة التي لا تتمكّن السلطة الفلسطينيّة من السيطرة عليها إلاّ بشكل ٍ محدود، أو حتّى خارج سيطرتها، قد تنتهز أية فرصة للإستفادة من وضع الفلسطينيين المزري والرؤية القاتمة لحدوث أي تغيير في محنتهم المستمرّة.
إنّ إحباط كيري من نتنياهو حول قضيّة المستوطنات كان ظاهرا ً للعيان لكلّ شخص. ولكن الأشدّ قلقا ً هو أنّ العلاقات الثنائية الأمريكيّة – الإسرائيليّة قد هبطت لمستوى ليس له مثيل منذ عقود.
ما نحن بحاجة له الآن هي تغييرات جوهريّة في السياسة الإسرائيليّة التي يجب أوّلا ً أن توقف البناء في المستوطنات، وثانيا ً الإلتزام بالأفعال بدلا ً من التصريحات الجوفاء بحلّ الدولتين، وإلاّ ستخاطر حكومة نتنياهو بأن تصبح المستوطنات سرطانا ً يلتهم كيان الدولة نفسها.
إنّ هجوم مستوطنين مسلّحين على قاعدة عسكريّة واعتداءاتهم على جنود من جيش الدفاع الإسرائيلي في الضفّة الغربية في عام 2011 وفي أكتوبر 2013 كانت قبل بضعة سنوات ٍ فقط أمورا ً لا يتصوّرها أحد. ومن المحتمل أن تتصاعد هذه الإعتداءات، محرّضة المزيد من المستوطنين المتحمسين ضدّ قوات جيش الدفاع الإسرائيلي. أجل، هذه إمكانيّة واقعيّة ولا يبالي بها على أنها غير واقعيّة سوى القادة المتهوّرين. أضف إلى ذلك، فإن البناء المستمرّ للمستوطنات سيزيد من الشّقاق ما بين أولئك الإسرائيليين اللذين يريدون نهاية للصراع مع الفلسطينيين والإيديولوجيين المتشدّدين أمثال نتنياهو الذين ينكرون حقيقة أنّ المستوطنات تثقل كاهل الإسرائيليين العاديين الذين يدفعون الثمن لبنائها من قوتهم وعدم توفّر مسكن ٍ لهم بأسعار معقولة. وأما الإسرائيليين الملتزمين دينيّا ً فهؤلاء ليسوا بحاجة لبرهان ٍ يبرّر معتقداتهم الدينيّة حيث أنهم يعتبرون بناء وتوسيع المستوطنات الفرصة التاريخيّة الفريدة التي ستعيد لهم حق المولد اليهودي لوطنهم.
صحيح أنّ إخلاء عدد مهمّ من المستوطنين سيكون أكبر قضيّة مسببة للخلاف والشقاق تواجهها إسرائيل، ولكن من الناحية الأخرى ليس هناك أي حلّ آخر ممكن للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني بدون إخلاء ال 80 مستوطنة المنتشرة في جميع أنحاء الضفة الغربية والتي يقطنها أكثر من 127.000 مستوطن.
من الممكن إعادة توطين هؤلاء المستوطنين في التجمعات الإستيطانيّة الثلاثة الكبرى الواقعة على طول حدود 1967 (التي تحتوي على 43 مستوطنة يعيش فيها أكثر من 214.000 مستوطن) والتي باتفاق ٍ مع الفلسطينيين قد تصبح جزءا ً من إسرائيل في مقايضة ٍ متكافئة للأراضي مع الفلسطينيين.
في حديث ٍ مكثف أجريته قبل بضعة أيام مع رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت، كان هذا أكثرا ً وثوقا ً من أي وقت ٍ مضى بأن الوقت المناسب لعقد اتفاق سلام هو الآن. كان أولمرت متفقا ً مع تقدير وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بخصوص التزام الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس بالسّلام لأنه لم يكن سياسيّا ً أقوى من الآن ولديه استعداد لاتخاذ قرارات صعبة لعقد اتفاقية لم يكن قادرا ً على اتخاذها في الماضي.
أجل، الوقت ناضج أيضا ً للسلام لأنّ قوة حماس وشعبيتها الآن في أدنى مستوى ً لها، ودول الخليج بقيادة المملكة العربية السعودية مع الأردن ومصر منجذبة نحو إسرائيل بسبب قلق هذه الدول المشترك حول برنامج إيران النووي. أضف إلى ذلك، فإنّ القوة المنحسرة للإخوان المسلمين والثورات المستمرّة في سوريا والعراق تجعل من تسوية الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني أمرا ً أكثر إلحاحا ً من أيّ وقت ٍ مضى يبشّر باستقرار ٍ إقليمي.
ومطالبة نتنياهو للسلطة الفلسطينيّة أن تعترف بإسرائيل كدولة يهوديّة في الوقت الذي يستمرّ فيه توسيع المستوطنات في الضفة الغربية بدون هوادة هي قمة الوقاحة. إنها تأتي فقط من رجل ٍ يضع مبادئه الإيديولوجيّة فوق خير وسلامة الدولة ويتمسّك بقول ٍ ليس في محلّه لثيودور هرتسل:” إن أردتها فهي ليست حلم”. غير أنّ وجود الفلسطينيين على أية حال ليس حلما ً. هم هنا ولا تستطيع المستوطنات أبدا ً أن تقتلعهم من أرضهم.
ملاحظة: جميع الأرقام الواردة في هذه المقالة – إلاّ إذا اقتسبت خلافا ً لذلك – هي من هاغيت أوفران بصفتها مديرة قسم مراقبة المستوطنات عن حركة “السلام الآن” والتي أشكرها لمساهمة بياناتها الإحصائية حول المستوطنات.