شتّان بين إدارة الدولة الرّشيدة والدّهماويّة
تلقي وفاة الرئيس شمعون بيرس الضوء على الفرق الشاسع في القيادة ما بينه وبين رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو، الفرق ما بين رجل دولة بمعنى الكلمة ودهماوي، فشمعون بيرس لم يتوانى أبدا ً في تغيير موقفه واحتضان سياسات من اليسار، اليمين أوالوسط ما دامت هذه السياسات خدمت مصالح البلد ودفعت عملية السّلام إلى الأمام، الأمر الذي كان بيرس دائما ً يضعه فوق سياسات الحزب. أما نتنياهو، فقد أثبت مرارا ً وتكرارا ً أنه على أية حال عالق ٌ في الماضي ويتشبّث بسياسات رجعيّة ويضع طموحاته الشخصيّة وانتماءاته العقائديّة فوق المصالح الوطنيّة، وهو بذلك يرسم من غير قصد مسارا ً مشؤوما ً لا تُحمد عقباه للبلد الذي يريد على حدّ زعمه أن يحميه.
أولئك الذين لم يتوقّعوا شيئا ً جديدا ً من خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام الجمعية العامّة للأمم المتحدة لم يُصابوا بخيبة أمل. لقد عرض نتنياهو كعادته نزعته المتغطرسة وأكّد على ما هو معروف ٌ حتى الآن، ولو بطريقة غير مباشرة، عن رفضه لإقامة دولة فلسطينيّة.
لم يؤكّد نتنياهو مرّة أخرى سوى على حقوق إسرائيل التاريخيّة والتوراتيّة على كامل “أرض إسرائيل” جاعلا ً من احتمال حلول السّلام أمرا ً أكثر بعدا ً إن كان هذا قابلا ً حتّى للتحقيق على الإطلاق. ومقولته أو “شعاره” – إن صحّ التعبير – في أنه يدعم حلّ الدولتين ليس إلاّ شعارا ً أجوف. وبالفعل، فإن أعماله على أرض الواقع ووجهات نظره حول الترتيبات المستقبلية للأراضي الفلسطينية تشير بالضبط إلى الاتجاه المعاكس.
لقد كان تركيز بيرس طيلة فترة حياته على التوصّل لسلام ٍ مع الفلسطينيين مدركا ً أنّ أمن إسرائيل النهائي وازدهارها مرتبطان بعلاقات تقدميّة وأفضل ما بين إسرائيل والفلسطينيين، وفي نهاية المطاف مع العالم العربي بشكل ٍ أوسع.
وفي المقابل، كان نتنياهو دائما ً أعمى بفعل أجندته الإيديولوجيّة وهو عاجز عن إدراك التأثير والتداعيات الوخيمة لسياساته على أمن إسرائيل مستقبلا ً.
لقد أدرك بيرس بأن إسرائيل قد حققت قفزات هائلة ونجاحا ً غير مسبوقا ً في ميادين الدفاع والتكنولوجيا والإقتصاد والطب والزراعة، ولكنه كان يعلم أيضا ً بأنه وبصرف النّظر عن إنجازات إسرائيل المثيرة للإعجاب، فإن بقاؤها وأمنها يعتمدان على التواصل مع بقية العالم العربي بسلام.
قدّم نتنياهو إسرائيل بفشر ٍ وتبجّح أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة على أنها منقذ العالم وكأنه كان المسيح المنتظر (المسيّا) الذي أتى بالإسرائيليين إلى أرض الميعاد وحوّل الصحراء القاحلة إلى واحة يسيل فيها اللبن والعسل.
لقد أظهر بيرس خلال فترة حياته الصفات القيادية والمرونة اللازمة للسير في طرق مختلفة لجعل إسرائيل أفضل وأقوى. لم ينسَ أبدا ً بأن إسرائيل ستكون في أحسن حال عندما تكون في سلام ٍ مع نفسها ومع جيرانها.
أمّا نتنياهو، فإنه يريد أن يستخدم قوة إسرائيل الهائلة كأداة لإخضاع الفلسطينيين والإبقاء على الإحتلال وخلق حقائق لا رجعة فيها على أرض الواقع بحيث يستحيل على خلفائه إبطالها ومنع بذلك الفلسطينيين من تحقيق طموحاتهم في إقامة دولتهم المستقلّة.
لقد وضع بيرس أولا ً بقاء إسرائيل على رأس أولوياته بتطوير برنامج أسلحة نوويّة مدركا ً بأنه يجب على إسرائيل امتلاك الأسلحة النهائيّة لردع أي عدوّ لدود يهدّد وجود الدولة، ولكنه لم يعتبر يوما ً الفلسطينيين أو أيّ من الدول العربيّة ضمن هذه الفئة من الأعداء.
أمّا استراتيجيّة نتنياهو – من الناحية الأخرى – فهي مرسومة أو مشكّلة بالأحداث اليوميّة لضمان بقائه السياسي الشخصي. إنه يستخدم استمرار مشروع الإستيطان والتوسّع في المستوطنات ظاهريّا ً لضمان أمن إسرائيل القومي في حين أنّ الفلسطينيين في الواقع لا يستطيعون أن يشكلوا خطرا ً على وجود إسرائيل ولن يكون باستطاعتهم أبدا ً فعل ذلك.
يترك بيرس إرثا ً، مهما كان مثيرا ً للجدل، كرجل دولة استحقّ بجدارة جائزة نوبل للسّلام بالتوصّل لاتفاقيات أوسلو في عام 1993، التي أدّت بدورها لاتفاقية السّلام الإسرائيليّة – الأردنيّة بعد عامين والتي تعتبرها إسرائيل حجر أساس لأمنها على الجبهة الغربيّة.
وبالمقابل، فقد شرع نتنياهو بعد انتخابه رئيسا ً للوزراء في عام 1996 بالتدمير المنهجي لاتفاقيّات أوسلو متجاهلا ً تداعيات تصرفاته المتهورة وراسما ً الطريق الذي قاد لاستمرار العنف الذي وصل ذروته أخيرا ًفي الإنتفاضة الثانية.
لقد أدرك بيرس بأنه وبالنظر إلى حجم إسرائيل وجوارها المتأجّج بالثورات والإضطرابات يجب عليها أن تصبح عضوا ً ناشطا ً وداعما ً للمجتمع الدولي لكي يحتضنها الجميع ويحترمها للقيم الأخلاقية القوية التي أقيمت على أساسها الدولة.
ونتنياهو، بالقابل، يضع سياسات ويواصل السعي وراء هذه السياسات التي من شأنها فقط أن تزيد إسرائيل عزلة ً وتبنى أسوارا ً وسياجات بدلا ً من التواصل وتقصي عنها أقرب أصدقائها (بما في ذلك الولايات المتحدة) الذين يشمئزون منه ويلعنوه لسياساته التي تقوّض مصالح إسرائيل ومصالحهم أيضا ً في الشرق الأوسط.
لقد احتضن بيرس بالكامل مبادرة السلام العربيّة التي ُطرحت لأول مرّة في عام 2002 وتشكّل إطارا ً لسلام ٍ إسرائيلي – فلسطيني في سياق سلام ٍ عربي – إسرائيلي شامل بإمكانه أن يقود إلى الإعتراف بإسرائيل من قبل ما يزيد عن (50) دولة عربية وإسلاميّة.
أمّا نتنياهو، فقد رفض مبادرة السلام العربيّة من الأساس زاعما ً بأنها وُضعت على أساس إما أخذها ككلّ أو تركها، في حين أنه في الواقع لم يفكّر يوما ً أبدا ً في التفاوض على السلام مع الفلسطينيين تحت أيّ إطار. وبقوله، كما فعل في خطابه أمام الجمعية العموميّة للأمم المتحدة، بأنه رحّب بروح مبادرة السّلام العربيّة، لم يكن ذلك سوى أداء دهماوي ليري انفتاحه للتفاوض، في حين أنه في الواقع يريد فقط إدارة الصراع وفي نفس الوقت يعزّز من ترسيخ الإحتلال للوصول لنقطة اللآرجوع.
كان بيرس آخر ما تبقّى من الشخصيّات الرئيسيّة من الجيل المؤسس لإسرائيل الذي كان لديهم الرؤية لما ينبغي أن تكون عليه إسرائيل في المستقبل. وبصرف النظر أنه كان مثيرا ً للجدل أو مفرط الحساسيّة والمزاج، غير أنه لم يحيد عن رؤيته لضمان وطن مستقلّ وفخور وديمقراطيّ كوطن للشعب اليهودي إلى الأبد.
ليس لدى نتنياهو أية فكرة أين ستكون إسرائيل أو ينبغي أن تكون في العشرة أعوام أو ال 15 عاما ً المقبلة. سياساته تقطّع أوصال الأساس الديمقراطي للبلد وتميّز جهارا ً ضد السكان العرب الإسرائيليين، هذا في حين أنها تبقي الإحتلال وتعرّض هوية الدولة الوطنية اليهوديّة للخطر.
وفي الوقت الذي يحضر فيه نتنياهو جنازة بيرس، ينبغي أن يتذكّر بأنّ بيرس كان رجل الدولة الذي أدرك بأنه طالما تتمتّع إسرائيل باليد العليا، يجب عليها أن تسمح للفلسطينيين بالعيش في دولة حرّة وديمقراطيّة خاصّة بهم.
لقد كُتب على الإسرائيليين والفلسطينيين أن يعيشوا جنبا ً إلى جنب، وعليهم الآن أن يخطّطوا معا ً لمصير صداقة وسلام، أو أن يُحكم عليهم بالشؤم ليوم الحساب.
من الحكمة لنتنياهو أن يفكّر إن كان يريد أن يتذكّره العالم كرجل الدولة الذي حقّق حلم بيرس أو الدهماوي الذي قاد شعبه للضلال وحطّم طموحاته على مدى آلاف السنين في العيش أخيرا ً بسلام.