الأزمة العالميّة للقيادة
سؤال غالباً ما يطرح نفسه: هل القادة انعكاس لحقبتهم الزمنيّة، أم أنهم أفراد يسمون لتلبية نداء الساعة ؟ لقد أثبت التاريخ أن الكثيرين من القادة قد سموا إلى مستوى الحدث من منطلق أخلاقي قوي. كانت الأحداث والظروف السائدة في ذلك الوقت تعني أنه كان للتحرك أو عدم التحرك آثار ضخمة لدرجة أنها غيرت مجرى التاريخ.
من المؤكد أننا نعيش في فترة من التجارب العالمية غير المسبوقة. ينتشر التطرف العنيف والفقر واليأس المستشري والخوف وعدم اليقين، وهناك تهديدات وجودية مثل انتشار الأسلحة النووية والكوارث البيئية المشؤومة التي تلوح في الأفق.
ولكن بعد ذلك نشعر بخدر مريح، غافلين عن المناطق المحيطة بنا وبمنطقتنا وكأن العاصفة التي تتجمع سوف تتبدد من تلقاء نفسها، وبطريقة أو بأخرى نحن سننجو ونبقى على قيد الحياة.
ما زال علينا أن نجد الزعيم – وأنا أتحدى أي شخص أن يسمّى واحداً – الذي بمقدوره أن يسمو لمواجهة هذه التحديات الهائلة التي نواجهها اليوم. أجل، زعيم يقف فوق الضعف البشري وأوجه القصور والخيبة. أين هم القادة الذين يتحلّون بالشجاعة ولكنهم ليسوا متهورين، وبرؤية ولكن في تناغم مع الواقع، لا تردعهم أية عقبة، والذين هم على استعداد حتّى للموت من أجل القضية التي يؤمنون بها ؟.
ومما لا يمكن إنكاره هو أننا نشهد قلّة من القياديين الذين يعكسون لنا الوضع والظروف في كل مكان تقريبًا.
هناك من هو راض ٍ بالوضع الراهن، والغير مبالون لا يهتمون بشيء، والواهمون مستمرون في التخيّل، والساسة منشغلون في التلاعب، وقوة الجوع تكذب وتغش لتتشبّث بمواقفهم.
الشباب ضجرون كما يتضح ذلك من الربيع العربي وفي العديد من الأماكن الأخرى، لا يعرفون ما يخبئه المستقبل. كبار السنّ يائسون، يعدّون الأيام المتبقية لهم؛ والأغنياء يريدون أن يكونوا أكثر ثراء، والثروة العالمية في أيدي قلة من الناس تتحكّم بها، ولم يبق للفقراء مكان يذهبون إليه.
تبشّر السلطات الدينية بمذهب الأخلاق، غير أنها لا تمارسها. و لا تريد أفضل وألمع ما عندها من شخصيّات – التي قد تنهض وتقود – أن توسّخ أياديها في الأعمال السياسية.
أين هم القادة الذين يجب أن ينهضوا ويلبّوا النداء في هذه المرحلة المصيرية ؟ وكما يُنسب لجون كوينسي آدامز قوله: “إذا كانت أفعالك تلهم الآخرين في الحلم أكثر، وتعلم أكثر، إبذل المزيد من الجهد لتصبح أكثر من ذلك، فأنت قائد”.
واجه زعماء مثل رئيس الوزراء وينستون تشرشل، الذي أبدا عزماً كالحديد، ألمانيا النازية وفاز، وانتصر العالم كله معه.
وكان اسحق رابين، الذي أدرك حتمية التعايش بين الإسرائيليين والفلسطينيين، على حق قبل 23 عاما، وقد يكون على حق اليوم. لقد مدّ يده للسلام وأبرم اتفاقات أوسلو عام 1993، ومات من أجل ما آمن به.
أثبت الرئيس المصري أنور السادات شجاعة رئيس دولة. كان أول زعيم عربي يعتراف منذ أكثر من 40 عاماً بأن إسرائيل وجدت لتبقى وقُتل من أجل صنع السلام. كان على حق في ذلك الحين وقد يكون على حق مرة أخرى الآن.
والرئيس ابراهام لنكولن، الذي قاتل للحفاظ على الإتحاد ضد الكونفدرالية (على حساب ما يقرب من مليون روح أمريكي)، وضع أمريكا على المسار إلى عظمة لا تضاهيها أية دولة أخرى في تاريخ الأمم.
وينسب إلى لينكولن قوله: “أنا لست ملزماً بالفوز، لكنني ملزم ٌ بأن أكون صادقا ً. ولست ملزما ً بأن أنجح، ولكن ملزم ٌ بأن أرقى إلى مستوى ما لديّ من قيم أخلاقيّة “.
ونيلسون مانديلا اختار بشجاعة الحقيقة والمصالحة بدلاً من الإنتقام الذي لا معنى له. ويوضح مثاله أنّ المصالحة ممكنة بين المظلوم والظالم.
وكما قال ديفيد فوستر والاس:” القادة الحقيقيون هم الأشخاص الذين يساعدوننا على التغلب على القيود المفروضة على أنانيتنا الفردية الخاصة والضعف والخوف ويوصلوننا إلى ما هو أفضل، إلى أمور أصعب مما يمكننا الحصول عليه بأنفسنا وعلى عاتقنا الخاصّ”.
ولكن أنظر إلى ما عندنا اليوم، وللأسف، من قادة أو ما يسمّون أنفسهم زعماء، من بين آخرين كثيرين في جميع أنحاء العالم، الذين لا يستحقون سوى السخرية والعار:
الرئيس الروسي بوتين، الذي لا يفوق توقه لمزيد من السلطة في أي وقت مضى سوى جشعه الفاسد عندما كان الإقتصاد الروسي في حالة يرثى لها والناس كانوا يعانوا من انفعالاته الديكتاتورية واحلامه الإستعمارية. كان بإمكانه أن يجعل من روسيا جزءا ً لا يتجزأ من المجتمع الأوروبي ويرفع مع الأوروبيين القارة الأوروبيّة إلى آفاق ٍ جديدة لا يمكن لأحد أن يحققها من تلقاء نفسه.
والرئيس التركي أردوغان، الذي يحرم تعصبه الديني وتعدياته الصارخة على حقوق الإنسان الناس من حريتهم ويدمر بلده قطعة قطعة. لقد فوّت عليه فرصة تاريخيّة زخمة لخلق نموذج ناجح للديمقراطية الإسلامية التي من شأنها أن تؤثر تأثيراً هائلاً على العالم العربي، وخاصة في أعقاب الربيع العربي.
ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي جعل الديماغوجية شكلاً من أشكال الفن، وتعصّبه الأيديولوجي يسلب الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء السلام الذي يتعلقون به وهم بحاجة إليه. لقد فشل نتنياهو في فهم أن السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين يمكن أن يؤدى الى نهضة في المنطقة مصحوبة بسلام شامل بين العرب واسرائيل، أي أنه حرفياً سيؤدي إلى تغيير مسار التاريخ.
والرئيس بوش، الذي شن حربا طائشة في العراق، حرب إختيار حولت المنطقة إلى جحيم وأشعلت حرب طائفية شرسة مع عدم وجود نهاية لها في الأفق. تخيل ما يمكن أن يكون الفرق لو أنّ أكثر من تريليوني دولار – أهدرت على حرب لا معنى لها – صُرفت بدلاً من ذلك على بنيتنا التحتيّة المنهارة وعلى مساعدة مئات المجتمعات المنهكة التي تعيش في فقر مدقع وظروف مزرية.
وآية الله خامنئي، الذي يقوم بإعدام وتعذيب شعبه وفي نفس الوقت سلبهم كرامتهم وحقهم الطبيعي في أن يكون أحراراً. إنه يرسل المال والمعدات والرجال لتغذية آلة القتل التي يديرها الأسد، وكل ذلك باسم الله. كان بإمكانه، بدلاً من ذلك، أن يستغلّ ثروات إيران الضخمة في الموارد البشرية والطبيعية ولعب دور إقليمي بناء يؤدي إلى تعزيز الإستقرار والتقدم والسلام.
وعلى الرغم من أن الرئيس أوباما يندرج في فئة مختلفة تماماً من الرؤساء، فقد أعاد للرئاسة الكرامة والمكانة التي تستحقها، وأظهر التزاماً لا يتزعزع لحقوق الإنسان، غير أنه لم يقدّر أبدا ً الدور العالمي الذي لا غنى عنه للولايات المتحدة لقيادة العالم.
بدلاً من ذلك، قاد من الخلف خالقا ً انطباعاً بالضعف والتردد وسامحا ً لقوى أخرى، وخاصة روسيا وإيران، لملء الفراغ الذي خلقه، الأمر الذي يثير شكوكاً جدية في عقول حلفاء أمريكا عمّا إذا كانت الولايات المتحدة لا تزال على مستوى هذه المهمة.
ومع عدم وجود قيادة عالمية، فهل هناك أي استغراب بعد ذلك لما أحدثته الحرب الأهلية في سوريا من مقتل 300.000 وتركت جزءا ً كبيراً من البلاد في خراب في حين فشل زعماء العالم فشلاً ذريعاً لوضع حد للذبح ؟
هل هو عجب إذن أن يستمر الصراع بين السنة والشيعة لالتهام حياة عشرات الآلاف من الناس الأبرياء، مع العلم أن هذه الحرب لا يمكن كسبها والخيار الوحيد هو أن تعيش الطائفتان جنبا ً إلى جنب مع بعضهما البعض.
وهل هو عجب أيضا ً لماذا بعد خمسة عقود من الإحتلال الإسرائيلي يحارب الفلسطينيون بعضهم بعضا ً ويحاربون إسرائيل؟ على كلا الطرفين العودة إلى رشدهم وإدراك أنّ التعايش السلمي فقط هو القادر على ضمان بقائهم على قيد الحياة.
وهل هو عجب أن نجد التطرف العنيف في ازدياد، ولماذا ينحاز الشباب للتطرف ، ولماذا هناك احتمال ضئيل لأيام أفضل في المستقبل؟ وطالما بقيت القيادة غائبة عن الساحة الدولية، يمكننا أن نتوقع المزيد من المآسي.
نعم، القادة هم انعكاس لعصرهم، والناس في جميع أنحاء العالم قد يكونوا في النهاية قد وصلوا إلى حدّ الإنهيار.
إنّ صدى صرختهم من أجل قيادة جديرة بالثقة، قيادة تهتمّ وترعى، قيادة جريئة.. يتردّد في كل مكان. ولا يسعنا سوى أن نأمل فقط أن يتمكن هؤلاء الزعماء من سماع صرخة الشعب والنهوض لاستجابة دعوتهم اليائسة.