حان الوقت لاستراتيجيّة جديدة
بالنظر للمأزق الحالي ما بين إسرائيل والفلسطينيين في مفاوضات السّلام، سيزيد تكوين حكومة إسرائيليّة جديدة من الأحزاب اليمينيّة المتطرّفة الوضع صعوبة ً على كلا الطرفين للتقارب من تلقاء نفسيهما للوصول لاتفاقيّة سلام. وتركهما لشأنهما دون تدخّل هو وضع خطر بطبيعته، الأمر الذي يفسّر دافع إدارة أوباما الآن للقيام بالمحاولة الأخيرة لاستئناف عمليّة السّلام بعد اختتام المفاوضات مع إيران حول برنامجها النووي. وأنا شخصيّا ً لا أعتقد على أية حال بأن إستئناف المفاوضات الإسرائيليّة – الفلسطينيّة الثنائيّة بوساطة أمريكيّة لوحدها ستنجح أكثر من المحاولتين السابقتين.
المطلوب إستراتيجيّة جديدة ومسرح جديد لخلق ديناميّة سياسيّة جديدة تجبر الإسرائيليين والفلسطينيين على التعامل مع بعضهما البعض. وحيث أن الفرنسيين يخططون لتقديم إطار جديد للسّلام لمجلس الأمن الدّولي – وهو أمر يحتاج الدّعم الأمريكي الكامل لتمريره – بإمكان إدارة أوباما تشكيل القرار لجعله ثابتا ً ومتناسقا ً مع سياستها العامّة لحلّ الدولتين. وسيمنع هذا في نفس الوقت السلطة الفلسطينيّة من تقديم مشروع قرارها الداعي لإنهاء الإحتلال الإسرائيلي وإقامة دولة فلسطينيّة ضمن فترة محدّدة من الزّمن، الأمر الذي قد يزيد من تعقيد الصّراع.
وخلافا ً للحكمة الشائعة، فإن الثورات والإضطرابات التي تجتاح الآن الشرق الأوسط والتقاء الصراعات المتعددة والشكوك حول ما سيجلبه المستقبل، هذه كلّها قد خلقت ظروف مجبرة جديدة تدعم إستئناف المفاوضات الإسرائيليّة – الفلسطينيّة.
لا شكّ أن الصّراعات الإقليميّة الدامية – بالأخصّ في العراق وسوريا واليمن – تصرف الإنتباه عن الصراع الحالي الإسرائيلي – الفلسطيني الأقلّ عنفا ً، غير أنّ الهدوء النسبي لا يمكن أن يكون أمرا ً مفروغا ً منه. وحيث أنّ الإحباط الفلسطيني مستمرّ في نموّه، يزيد كذلك من خطر انفجار موجة جديدة من العنف التي يجب تجنبها. ولمنع مثل هذا الإنفجار، يتطلّب الأمر الإبقاء على قنوات التفاوض الإسرائيليّة – الفلسطينيّة مفتوحة ً وعلى الدّول العربيّة التركيز على الخطر الحالي الذي يشكّله “داعش” وطموحات إيران الإقليميّة.
لماذا تُعتبر الظروف ناضجة لاستئناف المفاوضات الإسرائيليّة – الفلسطينيّة.
إنّ الدول العربيّة، أكثر من أيّ وقت ٍ مضى، توّاقة لتسوية الصّراع الإسرائيلي – الفلسطيني، وهي تنظر لإسرائيل على أنها حليف طبيعي ضدّ العدوّ المشترك – إيران وتنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق وسوريا “داعش”. وبالفعل، تتبادل إسرائيل والدّول العربيّة القياديّة، شاملة المملكة العربيّة السعوديّة، ضمنيّا ً وبصمت المعلومات الإستخباراتيّة وتنسّق فيما بينها خططا ً لمواجهة الخطر المتنامي الذي يشكله تنظيم داعش وإيران.
قد يصبح الرئيس باراك أوباما أكثر ميولا ً في هذه المرحلة بالذات من فترة رئاسته لنفخ حياة جديدة في عمليّة السّلام. ليس لديه الكثير ممّا قد يخسره من رأس المال السياسي، وأي نجاح، مهما كان جزئيّا ً، سيكون لصالحه، وسيُترك أيّ إخفاق ٍ آخر لخلفه ليتعامل معه.
وبالنسبة لدول الإتحاد الأوروبي، فهي متحمّسة أكثر من أيّ وقت ٍ مضى للعب دور أكبر في تسوية الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني الذي تنظر إليه كنقطة وميض أخرى تضيف المزيد من الوقود على النار التي تجتاح المنطقة. أوروبا تعاني منذ فترة من الزمن من التطرّف الإسلامي وتنظر لحلّ الصّراع كأحد العناصر الرئيسيّة لحماية مصالحها الضخمة في المنطقة والحدّ من التطرّف بشكل ٍ جوهري.
وأخيرا ً، قد يمنع حلّ الصراع الآن خلق حقائق إضافيّة على الأرض، بما في ذلك توسيع المستوطنات الإسرائيليّة، وتضييق المجال لداعش للتحريض على الإضطرابات والمشاكل في المناطق، الأمر الذي قد يصعّب على إسرائيل أكثر فأكثر تخليص نفسها وإنهاء الإحتلال.
شروط لوضع إطار للسلام
خلافا ً لمحاولات السّلام الماضية التي قامت بها الولايات المتحدة، بإمكان إدارة أوباما، بالعمل مع الحليفين الرئيسين وهما فرنسا وبريطانيا، أن تتكاتف معا ً وتقدّم مشروع قرار لمجلس الأمن الدّولي يعتمد على الشروط التالية:
تحديد فترة مفاوضات السّلام بعامين للتوصّل لاتفاقية على أساس حلّ الدولتين وتقوم الولايات المتحدة وممثلو دول الإتحاد الأوروبي بدور الميسرين لضمان استمرار المفاوضات وتقدّمها.
وضع إطار للمفاوضات يعتمد على أساس الإتفاقيّات السابقة التي تمّ التوصّل إليها ما بين الطرفين حول قضايا معيّنة في عام 2000 في منتجع كامب ديفيد وفي الفترتين 2009 – 2010 و 2013 – 2014 تحت إدارة أوباما بحيث لا يبدأ الطرفان من الصّفر.
إبقاء ضغط ثابت على كلا الطرفين لمنع كلّ منهما من المراوغة لكسب الوقت وذلك بوضع سقف ٍ زمني للتفاوض على قضايا معيّنة مثل الحدود وذلك لضمان التوصّل فعلا ً لاتفاقيّة كاملة ضمن المدة المنصوص عليها.
الإعلان بشكل ٍ واضح بأنه سيكون هناك عواقب في حالة فشل الطرفين للتوصّل لاتفاقيّة، وقد تشمل هذه العواقب عقوبات منها عدم تقديم تغطية سياسيّة بشكل تلقائي لإسرائيل من طرف الولايات المتحدة لدى الوكالات والمؤسسات الدوليّة وممارسة ضغوط ماليّة على الفلسطينيين وصدّ أية محاولات أحاديّة الجانب من قبل السلطة الفلسطينيّة لإنهاء الإحتلال الإسرائيلي…وغيرها.
الإصرار على أن يُقحم الطرفان أنفسهما في روايات شعبيّة إيجابيّة حول إمكانيات وآفاق السّلام في محاولة لتغيير المفاهيم الشعبيّة وغرس الأمل في إمكانية التوصّل لاتفاقيّة دائمة.
الفصل بين مختلف القضايا المتنازع حولها، مثلا ً في حالة التوصّل لاتفاقيّة حول البارامترات الأمنيّة على طول غور الأردن، ينبغي عدم ربط هذه الإتفاقية بقضايا أخرى لم يتمّ التوصّل بعد لاتفاقيات بشأنها.
استخدام مبادرة السّلام العربيّة كمظلّة عامّة للمفاوضات، سامحة َ بذلك للدول العربيّة لتقديم الدّعم السيكولوجي (النفسي) المهمّ وكذلك الدّعم العملي لمفاوضات السّلام، في حين الإشارة بوضوح لأهميّة إنهاء الصراع الإسرائيلي – العربي بشكل ٍ عام الذي تسعى إليه الغالبيّة العظمى من الإسرائيليين.
بإمكان الدول العربيّة، وبالأخصّ المملكة العربيّة السعوديّة وقطر ومصر، أن تمارس ضغطا ً سياسيّا ً وماديّا ً على حماس لكي تتبنّى مبادرة السّلام العربيّة التي بدورها ستوفّر قواسم مشتركة مع إسرائيل حول الفكرة الأساسيّة لحلّ الدولتين.
وبإمكان أيضا ً الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي أن تستخدم نفوذها على إسرائيل لكي تحتضن أيضا ً مبادرة السلام العربيّة وبالأخصّ لأنّ أغلبيّة الإسرائيليين، بما فيهم مسؤولين كبار في أجهزة الأمن سابقا ً، يؤيدون بشدة تبنّى المبادرة المذكورة.
التغلّب على العقبات التي أعاقت التقدّم في الماضي:
لكي تنجح جهود السّلام من جديد، من الضروري معالجة البعد السيكولوجي للصّراع الإسرائيلي – الفلسطيني وتأثيره على كلّ قضية متنازع حولها. ولذا من الضروري بهذا الشأن أن يبدأ الطرفان بمحاولة منهجيّة للتصالح وبالأخصّ فيما يتعلّق برواياتهم التاريخيّة والدينيّة. وبالفعل، ما دامت مطالباتهما التاريخيّة والدينيّة على نفس الأرض جامدة لا تتحرّك، لن يكون هناك إلاّ تقدّم بسيط جدّا ً. ولذا من الضروري لجيل الشباب الحالي من الإسرائيليين والفلسطينيين أن يروا بعضهم البعض من خلال عدسات مختلفة ويتقبّلوا حقيقة أنّ تعايشهم السّلمي أمر ٌ لا مفرّ منه، ولذا عليهم الإختيار إمّا العيش في عداوات مستمرّة ومدمّرة أو في سلام ٍ ورخاء.
ينبغي ألاّ يُسمح لا للإسرائيليين ولا للفلسطينيين باستخدام انقساماتهما السياسيّة الداخليّة لتبرير عدم تمكنهما من القيام بتنازلات معيّنة. هذه كانت ممارسة كلا الطرفين في الماضي.
هذا ويجب أيضا ً على قرار مجلس الأمن الدولي أن يطالب كلا الطرفين بالتوقّف عن الإنتقادات العلنيّة المتبادلة خلال فترة تقدّم المفاوضات. إنّ لهذا الأمر أهميّة خاصّة لأنّ هذه التصريحات السلبيّة تخفّض من سقف التوقعات الشعبيّة بدلا ً من تعزيز الأمل في التوصّل لاختراق. أضف إلى ذلك، من الضروري إشراك الشعب في المساهمة بعناصر التقدّم الذي تمّ إحرازه بحيث يبدأ الشعب برؤية أفق السّلام الجديد وفوائده بعيدة الأمد. زد على ذلك، سينمي الشعب مصلحة حقيقيّة في العمليّة ويقدّم دعمه للمفاوضات، الأمر الذي بالضرورة يطالب الطرفين القيام بتنازلات أساسيّة للتوصّل لاتفاقيّة.
ويجب أيضا ً على الطرفين اتخاذ جميع الإجراءات والخطوات اللازمة لمنع أعمال العنف التي قد يرتكبها بعض المتطرفين على كلا الجانبين لنسف عمليّة السلام برمّتها، وعليهما احتضان مقولة رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل، إسحق رابين، الذي قال:”حارب الإرهاب كما لو لم يكن هناك عمليّة سلام، واسع َ وراء السّلام كما لو لم يكن هناك إرهاب”.
وأخيرا ً، وبصرف النظر عن المفاوضات، ينبغي على كلّ طرف القيام من جانبه ببعض إجراءات بناء الثقة لتعزيز الثقة المتبادلة بالنوايا النهائية للطرف الآخر. مثلا ً، بإمكان إسرائيل إطلاق سراح بعض السجناء والأسرى الفلسطينيين وإيقاف التوسّع في بعض المستوطنات، في حين بإمكان الفلسطينيين إدخال مناهج جديدة في المدارس تعترف بإسرائيل وتتكلّم علنا ً عن إمكانية العيش جنبا ً إلى جنب مع إسرائيل بسلام ووئام وعلاقات حسن الجوار.
يبقى السّلام بين إسرائيل والفلسطينيين بعد حوالي سبعة عقود من الزمن خادعا ً وأشبه بالسّراب. وكلّما طالت مدّة الصّراع، زادت درجة استعصائه للحلّ. وأولئك الإسرائيليّون والفلسطينيّون الذين يرغبون في الحصول على كلّ الأرض، هم مضلّلون بشكل ٍ خطير وسيدينون في نهاية المطاف أيَ احتمال أو فرصة لتعايش سلمي.
يجب على المحاولة الدوليّة الجديدة لإستئناف مفاوضات السّلام ألا تغفل عن المطالبة الشعبيّة للأغلبيّة على كلا الجانبين للعيش بسلام، لأن كلا الطرفين عاجزان لوحدهما عن التقرب والتصالح مع بعضهما البعض.
يجب ألاّ تحبط الإضطرابات والثورات الإقليميّة عمليّة السّلام الإسرائيليّة – الفلسطينيّة، لا بالعكس، عليها أن تعمل كالمحفّز الذي بإمكانه أن يضع نهاية ً لأحد أطول الصراعات في التاريخ المعاصر.