All Writings
أكتوبر 6, 2016

العنف المتبادل بين تركيا وحزب العمّال الكردستاني ليس الحلّ

صرّح الرئيس التركي الطيّب أردوغان بأن العمليّات العسكريّة ضد حزب العمّال الكردستاني ستستمرّ حتّى “قتل آخر ثائر”. وما هو غامض بل ومذهل حول هذا التصريح هو أنّ أردوغان بعد أكثر من 30 عاما ً من العنف الذي قضى على أكثر من 40.000 شخص من الأتراك والأكراد ما زال يعتقد أنّ بإمكانه حلّ الصراع عن طريق القوّة الوحشيّة. وهو – على أية حال – مخطىء في الأساس حيث أنّ نضال الأكراد التاريخي الطويل مترسّخ في نفسيتهم ويمنحهم الزّخم لسعيهم من أجل شبه حكم ذاتي الذي سيستمرّ لغاية إيجاد حلّ مشترك ومقبول عن طريق المفاوضات السلميّة.

ولفهم عقليّة الأكراد، يجدر بأردوغان أن يعيد النّظر، ولو بطريقة خاطفة، بتاريخهم والمعاناة التي مرّوا بها منذ نهاية الحرب العالميّة الأولى.

لم تدم مملكة كردستان المستقلّة أكثر من عامين (1922 – 1924) قبل أن تتجزأ ما بين ما يعرف الآن بالعراق، إيران، تركيا وسوريا، بصرف النّظر عن العرق أو الإنتماء الجغرافي. وبالرغم من ذلك، فقد بقي الأكراد متشبثين بتراثهم الثقافي الذي يشكّل رفضه الآن من قبل تركيا صميم ضيمهم ومظالمهم في الوقت الحاضر.

فمنذ الوقت الذي تفكّكت فيه مملكة كردستان وبالرّغم من التمييز العنصري ضدّ الأكراد والمحيط الغير مستقرّ والخطر الذي وجدوا أنفسهم فيه، بقوا متشدّدين للغاية في الحفاظ على أسلوب حياتهم خشية من اضمحلال أو ضياع هويتهم الوطنيّة / العرقية ولغتهم تدريجيّا ً مع مرور الزمن.

هناك في العراق سبعة ملايين كردي (حوالي 15 % من تعداد السكان). فمنذ عام 1991 تمكّنوا من ترسيخ حكم ٍ ذاتي لهم تحت الحماية الأمريكيّة وهم يتمتّعون الآن في العراق بجميع سمات الدولة المستقلّة.

وفي سوريا كان الأكراد وعددهم مليونان (أي حوالي 9 بالمائة من تعداد السكان) غير فعالين إلى حدّ كبير من الناحية السياسيّة تحت حكم الأسد (حكم العلويين)، ولكنهم استفادوا في الخمسة أعوام الماضية من الحرب الأهلية وأنشأوا منطقة شبه مستقلّة يعارضها أردوغان بشدّة خشية منه أن تحرّض الأكراد الأتراك على السعي لحكم ٍ ذاتي على نحو الأكراد العراقيين.

وبالنسبة للثمانية ملايين كردي الذين يعيشون في إيران (حوالي 10 % من تعداد السكان الإيرانيين) فهم يتمتّعون من الناحية الرسميّة بتمثيل سياسي ولكنهم من الناحية التاريخيّة قد عانوا من تمييز إجتماعي – سياسي، الأمر الذي شجّع الجناح العسكري للحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران للتحوّل للعنف، جاعلين من الحرس الثوري الإيراني هدفهم الرئيسي.

تضمّ تركيا أكبر الجاليات الكرديّة (حوالي 15 مليون كردي، أي ما يعادل 18 % من تعداد السكان). وبالرّغم من أنّ غالبيتهم سنيّون مثل نظرائهم الأتراك، غير أنّ طموحاتهم الوطنيّة نحو الإستقلال وتميّزهم الحضاري يفوق معتقداتهم الدينيّة. فقبل تكوين حزب العمّال الكردستاني، سلّط عبدالله أوجلان وأتباعه الضوء على محنة الأكراد في تركيا من خلال النشاط السياسي عبر سبعينات القرن الماضي. ولكن بعد أن أصبح الأكراد في تركيا الهدف لحملة حكوميّة قمعيّة، اتجهوا نحو حرب العصابات مكوّنين حزب العمال الكردستاني في عام 1978 وأطلقوا تمرّدهم في عام 1984 أثناء فترة حكم رئيس الوزراء تورغوت أوزال.

في عام 1999 ألقي القبض على عبدالله أوجلان وحكم عليه بالإعدام، غير أنّ تركيا – تحت الضغط الأوروبي وفرصة أن تصبح عضوا ً في الإتحاد الأوروبي – ألغت عقوبة الإعدام وخفّفت حكم أوجلان للمؤبّد. وكونه لم يُنفّذ حكم الإعدام ضدّه سمح له بمواصلة دوره كقائد وتبنّي صوت معتدل، الأمر الذي يبقى مهمّا ً بالنسبة للمفاوضات المستقبليّة.

في عام 2006 دعا الزعيم المسجون (أوجلان) لإجراء مفاوضات سلميّة لإنهاء الصّراع، غير أنّ دعوته لم تُحظى باهتمام أردوغان الذي يرفض منح الأكراد أية تنازلات جوهريّة تسمح لهم بالتمتّع بتقاليدهم الثقافيّة والحضاريّة، بما في ذلك استخدام اللغة الكرديّة في المدارس الحكوميّة والجامعات والسّماح لهم بإدارة بعض شؤونهم الداخليّة. ولكن أردوغان في عام 2013 تراجع جزئيّا ً عن مواقفه المتشدّدة ومنح الأكراد تنازلات ليست ذات شأن بزيادة تعليم اللغة الكرديّة (فقط في المدارس الخاصّة) والسّماح بأسماء كرديّة للمدن وتخفيض “العتبة البرلمانيّة”  للسّماح للأحزاب الكرديّة ولغيرها من الأحزاب الصغيرة للدخول للبرلمان.

من خلال عشرات المباحثات التي أجريتها مع العديد من أعضاء البرلمان التركي والأكاديميين الذين لديهم معرفة مباشرة من المصادر الأوليّة حول المشكلة الكرديّة، لم أجد أحدا ً منهم يدّعي بأن الأكراد يريدون الإستقلال، بل بالأحرى بعض الحريات الإجتماعية والإقتصاديّة والسياسيّة التي تتوافق مع الديمقراطية التركيّة.

وعلى العكس من ذلك، يصرّ أردوغان بأن الأكراد يتمتّعون الآن بمواطنة تركيّة كاملة في “تركيا الديمقراطيّة” وهم مواطنون أتراك كاملو الحقوق. وهو يشير بفخر إلى حقيقة أنّ لدى حزب الشعب الديمقراطي (وهو حزب مناصر للأكراد) 59 مقعدا ً في البرلمان وهو جزء لا يتجزأ من الهيئة التشريعيّة.

واستعراض أردوغان للديمقراطيّة التركيّة ليس إلاّ كلاما ً فارغا ً. ففي عام 2016 دفع أردوغان برلمانه الذي يسيطر عليه حزبه – حزب العدالة والتنمية – لكي يصادق على مشروع قرار لتعديل الدستور لحجب الحصانة البرلمانيّة عن النوّاب، والهدف بوضوح هم أعداء أردوغان الرئيسيين وهم أتباع أوجلان والأكراد، ممهدا ً الطريق بذلك لمحاكمة مشرّعين موالين للأكراد.

وتحت ضغط الإتحاد الأوروبي عقدت مباحثات سلام في أواخر عام 2012، ولكن في شهر تموز (يوليو) عام 2015 انهارت المفاوضات واستؤنفت الأعمال العدائيّة على نطاق ٍ واسع ما بين القوات العسكريّة التركيّة وحزب العمال الكردستاني، وكلّ جانب يتهم الآخر لفشل المفاوضات.

كان الفشل تقريبا ً أمرا ًمحتوما. لقد تمّ إهمال أو تجاوز البرلمان بشكل ٍ مقصود وأخفي الأمر عن عامّة الشعب ولم يكن للجيش أية فكرة حول عملية التفاوض، والمفاوضات نفسها هبطت لمستوى المخاوف حول الإرهاب بدلا ً من مناقشة جوهر المطالب الكرديّة بحيث لم يعد بالإمكان معرفة الجهة المسؤولة عن الإنهيار المحتوم للمفاوضات.

أضف إلى ذلك، فمع وصول احتمال دخول تركيا لعضوية الإتحاد الأوروبي إلى الصّفر أجهض أردوغان أخيرا ً المفاوضات خشية منه أنّه إذا فتح عليه أية نافذة سيشجّع هذا الأمر الأكراد للمطالبة بحكم ذاتي كامل حيث أنهم سيكونوا محفّزين على ذلك من قبل نظرائهم في سوريا، وبشكل ٍ خاصّ في العراق، إذ أنّ الأكراد يتمتعون هناك بحكم ذاتي كامل.

وفي صحوة الإنقلاب العسكري الفاشل في شهر تمّوز (يوليو) لم يضيّع أردوغان أي وقت في إلقاء القبض على عشرات الآلاف من أفراد الجيش والأكاديميين ومراكز الأبحاث والمعلّمين الذين لهم علاقة بحركة غولن. ثمّ تحرّك بعد ذلك ضدّ الأكراد معتقدا ً أنه بفعل ذلك سينهي مرّة واحدة وإلى الأبد مشكلة الأكراد.

في الآونة الأخيرة فقط أعلن رئيس الوزراء التركي بينالي يلدريم في مدينة ديار بكر ذات الأغلبيّة الكرديّة عن تسريح حوالي 14.000 معلّم كردي لأنّ لهم علاقات بحزب العمال الكردستاني.

لقد تواصلت حملة أردوغان القمعيّة ضدّ الأكراد رغم نداء الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي له لوقف نهج الغلظة الذي يتسم بأحسن الأحوال بالتعسّف والإستبداد وانتهاك صريح لحقوق الإنسان الأساسيّة.

ودعوة أوجلان في الآونة الأخيرة للإنخراط في مفاوضات السلام للمرّة الثالثة، واستعداد حزب العمال الكردستاني الإلتزام بدعوته كما فعل في الماضي، كلّ ذلك قدّم فرصة أخرى لإنهاء العنف، ولكن أردوغان يرفض تلبية دعوة أوجلان.

والعنف، على أية حال، مهما كانت الأسباب، غير مقبول حتّى وإن استخدم أردوغان تدابير عنف متكافئة. وبصرف النظر عن مدى شرعيّة شكاوي الأكراد، فإن العصيان المدني سيكون في نهاية المطاف أداة أكثر فعاليّة في تحقيق أهدافهم السياسيّة وخلق تعاطف دولي بدلا ً من الإلتجاء للمقاومة العنيفة التي يستفيد منها أردوغان بشكل ٍ مباشر.

حتّى حليف أردوغان السابق، رئيس الوزراء أحمد دافوتوغلو، أدرك ضرورة أن تعود تركيا للعملية السلميّة، ولكن دعوته هي الأخرى رفضها أردوغان الذي يلقي تعصبه القومي بظلاله على إستقرار ورخاء البلد في المستقبل، البلد الذي يدّعي بأنه يريد تأمينه.

بعد ثلاثين عاما ً من إراقة الدمّ لا يتوفّر أي شرط أساسي لإنهاء الصّراع. لم يصل أيّ من الطرفين بعد لنقطة الإعياء، وكلاهما يتوقّع أن يحسّن موقفه مع مرور الزمن، ولم تحدث أية كارثة تغيّر ديناميّة الصّراع تاركة كلا الطرفين يشنان حربا ً طويلة الأمد لن يستطيع أيّ منهما أن يكسبها.

من الحكمة لأردوغان أن يتذكّر مثلا ً شعبيّا ً تركيّا ً يقول:”لا يهمّ كم مشيت أنت في الطريق الخطأ، المهمّ أن ترجع”. وبالفعل، ما لم يجد أردوغان حلاًّ من خلال المفاوضات ويلبي دعوة أوجلان الجديدة للمفاوضات، سيستمرّ الصراع في التفاقم وسيتجاوز بلا شكّ عمر أردوغان كما تجاوز أعمار أسلافه.

لن ينجح أردوغان في قتل كلّ مقاتل ينتمي لحزب العمّال الكردستاني، ليس فقط بسبب طبيعة حرب العصابات، ولكن بالدرجة الأولى بسبب تصميم الأكراد على تحقيق شكلا ً من أشكال الحكم شبه الذاتي والمحافظة على ثقافتهم الغنيّة وعلى لغتهم التي لن يضحي بها شعب، بصرف النّظر عن مدى الألم والمعاناة التي يتحملونها.

حان الوقت لأردوغان لقبول الحقيقة بأن حلّ المشكل الكردي يقوم فقط على أساس مفاوضات السّلام. وأي شيء أقلّ من ذلك سيؤدي فقط لمزيد ٍ من الموت والدّمار على كلا الجانبين دون نهاية في الأفق.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE