إعتراف ترامب بالقدس عاصمة إسرائيل ومستقبل حلّ الدولتين
كنت في إسرائيل عندما صرّح ترامب بإعلانه الإعتراف بالقدس عاصمة إسرائيل. كنت أعتقد في البداية بأن الإسرائيليين سوف يهرعون إلى الشوارع للإحتفال بهذه اللحظة “التاريخية”، ولكن بصرف النظر عن أحاديث صغيرة هنا وهناك وبعض التعابير عن البهجة، لم يكن هناك الشيء الكثير الذي قد يشدّ الأمّة خارج النطاق المألوف. وعلى الجانب الفلسطيني اندلعت مظاهرات صغيرة نسبيا في الضفة الغربية وقطاع غزة واستمرت في الأيام التالية بعنف محدود وتمّ التنديد والشجب بالإعلان الأمريكي من معظم العواصم العربية والإسلامية. هذا إلى حد كبير ما تقف عليه الأمور اليوم.
لربما من السابق لأوانه رسم إستنتاج نهائي، ولكن إستنادا ً إلى كل ما رأيت وسمعت في المنطقة منذ ذلك الحين وحتى الآن، ليس من المرجح أن يحدث أكثر من ذلك بكثير. والسؤال الذي يطرحه كثير من الناس هو: لماذا قام ترامب بكلّ ذلك، وهل يمكن أن يأتي أي شيء إيجابي من هذا الإعلان ؟
قبل حوالي عام عندما أعلن ترامب في البداية عن عزمه لنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس توقعت أن يكون لهذه الخطوة عواقب وخيمة وربما تدمر إمكانية التوصل لاتفاق سلام بالتفاوض بين إسرائيل والفلسطينيين على أساس حل الدولتين.
أجل، قد يكون هذا هو الحال لو أن تصريحات ترامب صيغت بطريقة ضمت القدس الشرقية بشكل مباشر أو غير مباشر كجزء من عاصمة إسرائيل وتجاهلت الحاجة إلى حل الدولتين. ولكن هذا ليس ما حدث. والواقع أن ما ذكره ترامب ضمنا ً بوضوح يعني أن القدس الشرقية ليست جزءا من المعادلة.
وبغض النظر عن شدة عدم موافقتي على سياسة ترامب الخارجية بشكل ٍ عام، كان الرئيس الأمريكي على صواب ٍ عندما قال: “إن الأمور واضحة. فبعد عقدين من التنازل [عن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس] لم نصبح أقرب إلى سلام دائم بين إسرائيل و الفلسطينيين “. والواقع أن الوضع النهائي للقدس لم يشكل أبدا في أية مفاوضات سابقة قضيّة أفشلت المفاوضات. وبالتالي، ليس هناك ما يدعو إلى افتراض أن إعلان القدس عاصمة إسرائيل يؤثر على القدس الشرقية، في حين أن كل شيء آخر ذكره ترامب- ضمنا إن لم يكن صراحة – اقتصر على القدس الغربية.
قال إن “القدس هي مقرّ البرلمان الاسرائيلي، الكنيست، والمحكمة الاسرائيلية العليا. وهي مكان الإقامة الرسمية لرئيس الوزراء والرئيس. وهي مقر العديد من الوزارات الحكومية “. وتقع جميع هذه المؤسسات في القدس الغربية، ومن غير المحتمل نقل أي منها إلى القدس الشرقية. وأوضحت إدارة ترامب للإسرائيليين أن أي تحرك من هذا القبيل لن يتم التسامح معه لأنه سيسبب اضطرابا لا مبرر له من شأنه أن يقوض تماما جهود الولايات المتحدة لدفع عملية السلام قدما.
و أشار ترامب أيضا ً في إعلانه إلى أن “القدس اليوم ومستقبلا ً يجب أن تبقى مكانا يصلي فيه اليهود عند الحائط الغربي ويسير فيه المسيحيون في طريق محطات الصليب، طريق الآلام، وحيث يصلي المسلمون في المسجد الأقصى”. وهذا لم يختلف بأي حال ٍ من الأحوال عما كان على طاولة المفاوضات في كل دورة من محادثات السلام منذ اتفاقات أوسلو 1993-1994. وفي الواقع خلال مفاوضات أولمرت – عباس في عام 2008 تم التوصل إلى اتفاق أساسي حول مستقبل القدس على هذا النحو للحفاظ على وحدة المدينة.
وعلاوة على ذلك، من المهم التأكيد على حقيقة أن ما يقرب من ثلاثين عاما مضت استأجرت الولايات المتحدة قطعة الأرض في القدس الغربية لبناء السفارة الأمريكية عليها في المستقبل. ولم يتم التفكير في ذلك الوقت، كما ومن غير المتوقع الآن أن تكون السفارة الأمريكية في القدس الشرقية أو أن يتمّ إنشاؤها هناك.
لم تطلب أية حكومة إسرائيلية، بما فيها الحكومة الحالية بقيادة نتانياهو، بناء السفارة الأمريكية على الجانب الشرقى من المدينة. ولذا فإن بناء للسفارة الأمريكية مستقبلا ً في القدس الغربية لا يشكل اعترافا بسيادة إسرائيل على القدس الشرقية.
ومن وجهة نظر إدارة ترامب، لم يكن هناك شيء في بيان الرئيس الأمريكي يتعارض مع فرضية أن القدس سوف لا تزال في نهاية المطاف عاصمة لكل من الدولة الإسرائيلية والفلسطينية. والواقع أنها قد تولد زخما جديدا نحو استئناف مفاوضات السلام، حيث يدرك الفلسطينيون الآن أنهم كلّما إنتظروا وقتا أطول كلما زاد احتمال فقدانهم للأرض. وقال ترامب “لقد قيّمت مسار العمل هذا على أنه الأفضل لمصلحة الولايات المتحدة الامريكية والسعى لتحقيق السلام بين اسرائيل والفلسطينيين. وهذه خطوة طال انتظارها لدفع عملية السلام قدما والعمل من اجل التوصل الى اتفاق دائم “.
وقال ترامب أيضا ً في تصريحه “اننا لا نتخذ موقفا ً إزاء أية قضية نهائية بما في ذلك الحدود المرسومة للسيادة الاسرائيلية في القدس او حل الحدود المتنازع عليها“. هذه القضايا موجهة إلى الأطراف المعنية. كما ذكر أن “الولايات المتحدة ستؤيد حل الدولتين إذا وافق عليه الجانبان”. ولا يتعارض أي من هذه التصريحات بأي شكل من الأشكال مع تصريحات الإدارات الأمريكية السابقة. وترامب يعلم أن حل الدولتين يظل الخيار العملي الوحيد.
على الرغم من أن الرئيس عباس انتقد ترامب لإعلانه، وأعلن بأنّ الولايات المتحدة منحازة ولم تعد وسيطا نزيها، فإن الولايات المتحدة (وخاصة الكونغرس ومعظم الإدارات السابقة) كانت بالفعل منحازة لصالح الإسرائيليين. ومع ذلك، فإن عباس وجميع رؤساء الدول العربية الآخرين يعرفون أن الولايات المتحدة وحدها إلى حلول وسطية محوريّة من شِانها أن تؤدي إلى اتفاق سلام.
وفى مقابل اعلان ترامب، قبل نتانياهو بهدوء بعدم توسيع المستوطنات خارج الكتل الثلاثة على طول حدود عام 1967 والقيام ايضا بتدابير بناء الثقة وخاصة مشروعات التنمية الاقتصادية المشتركة مع الفلسطينيين.
قد يرفض عباس الآن الدور الحاسم الذي تلعبه الولايات المتحدة في المفاوضات مع إسرائيل، لكنه لا يستطيع هو ولا خلفاؤه تجاهل دور الولايات المتحدة في المفاوضات المستقبلية وتوقّع اتفاق سلام مع إسرائيل يلبي المتطلبات الأساسية للفلسطينيين.
معظم انتقادات الدول العربية لإعلان ترامب، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، كانت صامتة إلى حد كبير، ليس فقط لأنها مشغولة بالتوترات المحلية والإقليمية، ولكن لأنها تدرك التبعيّات الحقيقية للإعلان الذي له تأثير ضئيل أو معدوم على أرض الواقع وعلى الإطار النهائي لاتفاق سلام.
وعلى الرغم مما سبق ذكره، فإنه أصبح للإتحاد الأوروبي الآن فرصة معززة للعب دور هام في حماية مبدأ حل الدولتين عن طريق اتخاذ تدابير هامة لبناء الثقة بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني. ويمكن للاتحاد الأوروبي، في الواقع، أن يستخدم مساعدته المالية للفلسطينيين وتجارته الواسعة مع إسرائيل كضغط إيجابي لإحداث تغيير كبير في المناخ السياسي الإسرائيلي – الفلسطيني، وهو شرط مسبق لمفاوضات سلام موضوعية وناجحة.
وللتأكيد، لا أرى من وجهة نظري أي شيء في إعلان ترامب قد يغير بشكل أساسي مبدأ حل الدولتين كشرط مسبق للتعايش السلمي والدائم بين إسرائيل والفلسطينيين. وأولئك الذين يزعمون أن حل الدولتين قد اختفى تماما بسبب اعتراف ترامب بإسرائيل يبدو أنهم واهمون. لقد نسوا جوهر الحلم الصهيوني، ألا وهو إنشاء دولة يهودية غنيّة بخبراتها التاريخية الطويلة وثقافتها ودينها وهويتها، والتي بمقدورها أن تكون آمنة ودائمة فقط إذا بقيت دولة يهودية وديمقراطية تكون ملاذا ً آمناً لكلّ يهودي، وتبقى على هذا النحو إلى الأبد.
فخيار الدولة الواحدة يتحدى كل مبدأ للحلم الصهيوني، فلا يوجد حكومة إسرائيلية، بغض النظر عن توجهها السياسي، ستقرّ أو ستقبل بأي شيء أقل من دولة يهودية ذات أغلبية يهودية مستدامة لضمان الهوية الوطنية للدولة. ومما لا شك فيه أن الوضع الراهن بكلّ بساطة غير مستدام.
لا يمنع إعلان ترامب بأي حال من الأحوال طموح الفلسطينيين في إقامة عاصمتهم الخاصة في القدس الشرقية مع الحفاظ على وحدة القدس كمدينة واحدة وعالم مصغر للتعايش السلمي الإسرائيلي – الفلسطيني.