تمكين الولايات المتحدة المفرط لإسرائيل يعرّض مستقبلها للخطر
لقد كانت الولايات المتحدة ولا تزال من أشد المؤيدين لإسرائيل، كما أن دعمها غير المشروط سيسبب ضررا كبيرا لرفاه إسرائيل في المستقبل. لقد مكّن استمرار الدعم السياسي والعسكري والإقتصادي للولايات المتحدة إسرائيل في الماضي من الحفاظ على الإحتلال وخلق أوضاع سياسية ومادية جديدة في الضفة الغربية، مما أدى إلى تقويض شديد، إن لم يكن قد دمر، إمكانية التوصل إلى حل الدولتين.
أخذت كل حكومة إسرائيلية، بغض النظر عن تكوينها السياسي، تأييد الولايات المتحدة كأمر مسلّم به، مؤمنة أن أي إدارة أمريكية لن تتخذ أي إجراء عقابي حتى لو تصرفت إسرائيل خلافا للموقف الأمريكي بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وقد أعطى ذلك للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة حرية صياغة السياسات في الضفة الغربية والعمل بها دون عقاب. حتى الرئيس أوباما، الذي مارس بعض الضغوط على حكومة نتنياهو لوقف توسيع المستوطنات، انتهى إلى تزويد إسرائيل ب 38 مليار دولار مساعدة عسكرية على مدى عشر سنوات دون أي قيود.
هناك العديد من الأسباب وراء دعم الولايات المتحدة لإسرائيل من دون عوائق. فمن الأهمية بمكان هو الدعم السياسي من طرف الإنجيليين الذين يعتبرون مؤيدين أقوياء لإسرائيل التي يعتقدون أنها ستكون القناة أو المسلك لعودة المسيح. وهؤلاء الإنجيليّون يمثلون كتلة تصويت كبيرة (72 مليون ناخب مسجل) والتي بدونها لا أحد يضمن الفوز للرئاسة الأمريكيّة.لا يمكن للجمهوريين ولا للديمقراطيين الفوز بشكل واضح والسيطرة على مجلس النواب ومجلس الشيوخ دون دعم من طرف هؤلاء الإنجيليين .
وعلاوة على ذلك، فقد طورت الولايات المتحدة وإسرائيل على مدى العقود الخمسة الماضية على نطاق واسع التعاون على عدة جبهات، منها: التعاون الإستراتيجي الوثيق لضمان أمن إسرائيل مع تعزيز المصالح الإقتصادية والإستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة؛ تبادل المعلومات الإستخباراتية؛ والتنسيق العسكري؛ والتعاون المكثف في ميادين العلوم والتكنولوجيا، وغيرها من المجالات الأخرى.
وتضاف إلى ذلك القيم الاجتماعية والسياسية المشتركة التي يدعمها التزام أمريكا الأخلاقي ببقاء إسرائيل، فضلا عن الدعم التقليدي للجالية اليهودية الأمريكية التي يتمتّع العديد من أفرادها بنفوذ مُعتبر على أعضاء مجلس النواب ومجلس الشيوخ من خلال المساهمات المالية لحملاتهم السياسية . وأخيرا، فإن الولايات المتحدة وإسرائيل على حد سواء تعرفان إيران على أنها قوة إقليمية كبيرة مزعزعة للإستقرار وتشتركان بالعزم لمنعها من تحقيق طموحاتها النووية والإقليمية.
وهذا ما يفسر استمرار دعم الولايات المتحدة لإسرائيل بلا هوادة، على الرغم من خلافاتهما فيما يتعلّق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني. والمثال الأكثر وضوحا هو المستوطنات الإسرائيلية التي وصفتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة بأنها عقبة رئيسية أمام السلام، ولكنها لم تمارس أي ضغط على إسرائيل لوقف بناء مستوطنات جديدة وتوسيع المستوطنات القائمة.
وانطلاق الإدارة الجديدة جعل الأمور أسوأ. فعلى الرغم من أن ترامب يريد تيسير اتفاق سلام إسرائيلي- فلسطيني، فإنه لا يدعم ولا يعترض على حل الدولتين وقد ترك الأمر لإسرائيل وللسلطة الفلسطينية أن تقررا أي طريق تسيران به . وأرسل هذا إشارة واضحة إلى حكومة نتانياهو بأن الولايات المتحدة لم تعد ملتزمة بحل الدولتين، تاركة ً إيّاه أن يقوّض تدريجيّا ً أية إمكانية ما زالت متاحة لهذا الغرض.
وأما خطأ ترامب الرهيب الآخر فقد كان عدم مطالبته بأي تنازل من طرف نتنياهو مقابل اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهو ما كان يمكن أن ينعش عملية السلام ويساعده على “التفاوض على صفقة القرن” التي أرادها. بالنسبة لنتنياهو، كان اعتراف الولايات المتحدة بالقدس إنجازا تاريخيا لا مثيل له لحلم إسرائيل. وعلى الرغم من ترك ترامب مسألة الحدود النهائية للقدس مفتوحة، فإن العديد من الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء ينظرون إلى اعترافه كمسمارآخر في نعش حلّ الدولتين.
أضف إلى ذلك، فإن قرار ترامب بتجميد المساعدات المالية للأونروا كان قصير النظر وجاء لمنفعة نتنياهو بشكل ٍ مباشر حيث أنه أفقد الولايات المتحدة الكثير من نفوذها للضغط على السلطة الفلسطينية للعودة إلى طاولة المفاوضات. وهكذا، بدلا من الإستفادة من الإعتراف بالقدس لدفع عملية السلام إلى الأمام، أبعد ترامب الفلسطينيين من حساباته وفي نفس الوقت قام بتمكين نتنياهو من مواصلة مساره.
إن عدم رغبة الولايات المتحدة في إجبار إسرائيل على تغيير اتجاهها لم يقوّض فقط احتمال التوصل إلى حلّ الدولتين، بل دفع إسرائيل إلى وجود محفوف بالمخاطر.وهكذا، أصبح عدد متزايد من اليهود داخل إسرائيل وخارجها يشعرون بخيبة الأمل إزاء مستقبل إسرائيل وسبب وجودها. إسرائيل تصبح تدريجيا دولة قومية عنيدة مع حصول اليهود الأرثوذكسيين والمستوطنين على نفوذ متزايد في جميع المؤسسات الحكومية والخاصة.
وبالنسبة للإسرائيليين، فإن الدعم السياسي والإقتصادي والعسكري الأمريكي هو كل ما يهمهم. إن فشل الإدارات الأميركية المتعاقبة في استخدام هذه الوسائل لإجبار إسرائيل على تغيير سياستها تجاه الفلسطينيين يشجع فقط الإسرائيليين على مواصلة التوسع الإقليمي دون الخوف من أي إجراءات عقابية من أهمّ وأكبر جهة تتبرّع لهم.
وعلاوة على ذلك، وعلى الرغم من أن لدى الولايات المتحدة إطار واضح إلى حد ما لاتفاق سلام في الأذهان، فقد سمحت بشكل غير مسؤول للاسرائيليين لتغيير الديناميكية الإقليمية والسياسية في الضفة الغربية دون تعديل سياستها تجاه إسرائيل لتتوافق مع الإطار العام لحل الدولتين.
وبالنظر إلى حقيقة أن الولايات المتحدة وحدها هي التي تستطيع أن تحصل على التنازلات الضرورية اللازمة لإحلال السلام، فإن الولايات المتحدة مكنت إسرائيل من انتهاج سياسة سيئة تجاه الفلسطينيين. فنظرا ً لعدم استعدادها لممارسة الضغط لوقف مشروع المستوطنات، فقد أفسدت أي احتمال للوصول لاتفاق سلام. ومما يؤسف له أن الإعتبارات السياسية الداخلية للولايات المتحدة التي يضاعفها سوء التقييم الحالي الذي أجرته إدارة ترامب بشأن أهمية السلام الإسرائيلي – الفلسطيني في استقرار المنطقة سوف تستمر في تجاوز سياسة سليمة تجاه إسرائيل لإنقاذها من تدميرها الذاتي.
ثلاث سنوات أخرى من الدعم السياسي المضلل من قبل إدارة ترامب يمكن أن تسبب ضربة قاتلة لإسرائيل، مما سيجعل البلاد لا يهودية ولا ديمقراطية.وهؤلاء الإسرائيليين الذين يهتفون لصعود ترامب إلى السلطة ينبغي أن يكونوا حذرين مما يريدون.
إن المزيد من تمكين إسرائيل من قبل الولايات المتحدة سيكون بمثابة قبلة الموت لسلام إسرائيلي – فلسطيني، وسيجعل إسرائيل دولة منبوذة محاطة بأسوار وسياجات ومهددة باستمرار وتعيش بحماية البندقية.