إحتلال إسرائيل لا يمكن الدفاع عنه أخلاقياً
لقد أكّدت منذ وقت طويل بأن الإحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية يتحدى المبدأ الأخلاقي الذي استند إليه قيام الدولة. وخلافاً لتأكيدات رئيس الوزراء نتنياهو، فإن الإحتلال يضعف دعامات الأمن القومي الإسرائيلي ولا يقوّيها ولا يمكن تبريره لا بأسباب أمنيّة ولا أخلاقيّة. وما لم تحتضن إسرائيل مسار أخلاقي جديد، لا أحد يستطيع منعها من الإنهيار من الداخل فقط لتصبح دولة منبوذة فقدت روحها وتخلّت عن عمد عن أحلام أجدادها المؤسسين.
هناك أربع نظريّات أخلاقية هي: نظرية كانت (Kant) ، النظرية النفعيّة، النظرية التي تعتمد على أساس الفضيلة والنظريّة الدينيّة، وهذه جميعها تثبت عدم وجود أساس أخلاقي في استمرار الإحتلال الذي يفرض على الإسرائيليين مسؤولية وضع نهاية حاسمة له.
النظرية الأخلاقية الأولى هي نظرية الأدبيّات الأخلاقيّة وممثلها الأعظم الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت (Immanuel Kant). ووفقاً لهذه النظرية ليس للعواقب صلة بالصواب او الخطأ الأخلاقي لعمل ٍ ما؛ وما يهم هو ما إذا كان العمل قد نُفّذ من أجل واجب أو احتراماً للقانون الأخلاقي.
قدّم كانت (Kant ) عدة صيغ للقانون الأخلاقي الذي يشير إليه كضرورة حتمية. وما هو الأكثر أهمية لأغراضنا،هي أوّل صيغتين له. الصيغة الأولى هو المبدأ القائل بأن الأخلاق تتطلب منا أن نعمل فقط على تلك القواعد والمبادىء التي يمكننا تعميمها، أي إضفاء صبغة عالميّة لها. وعلى حد تعبيره: ” إعمل فقط على ذلك المبدأ على أساس أنه ينبغي أن يصبح قانونا ً عالميّا ً”. باختصار،لا تفعل أي شيء لم تتمكّن من فعله إذا كان أيّ شخص آخر يريد فعله في نفس الوقت.
والسؤال هو ما إذا كان الإحتلال الإسرائيلي سياسة يمكن تعميمها أو إضفاء الصبغة العالميّة عليها وتجتاز هذا الاختبار من التفكير الأخلاقي. الجواب واضح وهو لا. سياسة الإحتلال غير متناسقة عقلانيّا ً لأنها تتطلب من إسرائيل إعفاء نفسها من المعايير الأخلاقية والسياسية التي يعترف بها بقية المجتمع الدولي (والتي تعمل على حماية إسرائيل نفسها). فإسرائيل تحاول ان تجعل من نفسها حالة استثنائيّة – وهذه الخطيئة الكبرى وفقاً لكانت (Kant)- كما لو أنّ إسرائيل فعليّا ً تقول: “لسنا مضطرين أن نعيش بمقتضى نفس القواعد التي يتقيّد بها الجميع”. وهذا واضح من حقيقة أن إسرائيل تنفي حق الفلسطينيين في تقرير المصير وتبرر ذلك باسم الأمن القومي على الرغم من أن تحقيق الأمن المطلق لإسرائيل من شأنه أن يجعل دائماً الفلسطينيين عرضة للخطر بشكل ٍ مطلق.
وحيث أنّ إسرائيل وافقت على حلّ الدولتين، غير أنها لا تزال تغتصب الأراضي الفلسطينية، منتهكة بذلك الإتفاقيات الدولية التي وقعت عليها إسرائيل (قرار الأمم المتحدة رقم 242، واتفاقات أوسلو). وبقيامها بذلك فإنّ إسرائيل تتحدى بشكل واضح الصيغة الأولى لمبدأ الضرورة الحتمية، الذي – كما بيّن كانت(Kant) – يتطلب منا أن نحترم إتفاقاتنا وعقودنا. وهنا تعمل إسرائيل على مبدأ أو سياسة خرق إتفاقياتها لخدمة مصالحها الذاتية، التي لا يمكن إضفاء الطابع العالمي عليها دون تناقض لأن وضع التوصل إلى اتفاقات دولية لا يمكن أن يستمر.
وعلى الرغم من أن العديد من البلدان تنتهك العقود والإتفاقيات الدولية، غير أنّ هذا لا يؤثر على حجة كانت(Kant) لأنه كان يدرك تماما ً بأن الناس تكذب وتغش وتسرق. قلقه هو مع مبدأ الأخلاق وما يتطلبه بغض النظر عن ما إذا كانت هذه الشروط مستوفاة بالفعل أم لا. وبالإبقاء على الإحتلال فإن إسرائيل تخرق القانون الأخلاقي في حين تتوقع من الفلسطينيين التمسك بنفس المعايير.
الصيغة الثانية تنصّ على ألاّ تعامل شخص آخر كمجرد وسيلة، ولكن دائما كغاية في حد ذاتها أيضاً. وبعبارة أخرى، ما يقوله كانت (Kant) هو أن العاقلين الأحرار بإمكانهم التصرّف بما يتماشى مع المبادىء الأخلاقية، كل واحد منا يمتلك القيمة الحقيقية مما يعني أننا يجب أن نحترم الكرامة المتأصلة في كلّ فرد.
وبالنسبة للفلسطينيين الذين هم تحت الإحتلال، تتعامل إسرائيل معهم “كسلع” بدلاً من أن تتعامل معهم كأشخاص يمكن قبولهم بعقلانية للطريقة التي يُعاملون بها. إسرائيل تقهر الفلسطينيين جسدياً ونفسيا ًمن خلال حرمانهم من حقوق الإنسان، من خلال، على سبيل المثال، الإعتقال الإداري، المداهمات الليلية، والطرد، وبالتالي سلبهم كرامتهم وحرمانهم من استقلاليتهم.
النظرية الأخلاقية الثانية هي النظريّة النفعية التي نشأت في شكلها العصري في إنجلترا مع أعمال جيرمي بنثام (Jeremy Bentham) وجون ستيوارت ميل (John Stuart Mill). وعلى نقيض نظريات كانت(Kant)، تضع هذه النظرية كلّ التركيز على عواقب أفعالنا. وهي تنص على أن العمل صحيح أخلاقياً إذا كان ينتج أكبر قدر من الخير لأكبر عدد من الناس.
يتوقف التقييم الأخلاقي لأية سياسة على ما إذا كانت تعظم الفائدة أو المنفعة. ويتوافق مذهب المنفعة مع كانت (Kant) في نقطة أساسية وهي أن الأخلاق تحظر صنع استثناء لنفسها. ولأسباب واضحة، تعطي الحكومات أولوية أكبر لشعوبها. ولكن هل الإحتلال يعطي الأعظم لأمن ورفاه جميع الإسرائيليين؟
على الرغم من حقيقة أن إسرائيل تتخذ تدابير استثنائية لتعزيز أمنها، غير أنّ الإحتلال في الواقع يقوّض أمن الدولة كما هو واضح من الإشتباكات الدامية المتكررة. وعلاوة على ذلك، إذا كان على إسرائيل تمديد إعتباراتها الأخلاقية لما وراء شعبها لتشمل الفلسطينيين، غير أنّ سياسة الإحتلال لا زالت تفشل حتى أكثر حدة لأسباب نفعية.
وللتأكيد، في حين تلتجىء إسرائيل إلى الحجج النفعيّة لتبرير معاملتها للفلسطينيين، فإن إسرائيل في هذه العملية تكشف عن المأزق الكلاسيكي في التفكير النفعي، وهو أنها في نهاية المطاف لا توفر بشكل ٍ كاف ٍ الحماية والإحترام لحقوق الإنسان. وهذا الإحتقار لحقوق الإنسان يؤدي في الواقع بشكل مباشر إلى تآكل مكانة إسرائيل الأخلاقية داخل المجتمع الدولي.
النظرية ألأخلاقية الثالثة هي نظريّة الأخلاق الفضيلة والقيم الأخلاقيّة التي لا يزال أرسطو أكبر داعية لها. ففي نظرية الأخلاق الفضيلة يُعتبر عملٍ ما غير أخلاقي إذا تم تنفيذ ذلك نتيجة وجود سلوك لا أخلاقي. فالأخلاق القويّة الفعّالة ليست في المقام الأول حول تقنين وتطبيق المبادئ الأخلاقية، بل حول تنمية السلوك والخلق الذي تنبعث منه الأفعال الأخلاقية. وفي هذا السياق، للإحتلال الإسرائيلي الذي له تأثير سلبي كبير على الفلسطينيين، له أيضاً تأثير أخلاقي مفسد على الإسرائيليين أنفسهم.
تدرك الأخلاق الحقيقيّة أهمية اكتساب عادة التصرف بشكل أخلاقي الذي ينطوي على التنشئة الأخلاقية كما قال أرسطو :”تعليم العقل دون تعليم القلب هو ليس تعليما ً على الإطلاق.” والإحتلال لا يقوم بتثقيف الشباب الإسرائيلي تجاه الفضائل والقيم الأخلاقية، بل يصلّد قلوبهم على أنه يمكن أن يعيشوا مع الأحكام المسبقة العادية والتمييز والتجريد من الإنسانية ضد الفلسطينيين. وعلى هذا النحو يفشل الإحتلال في تلبية مبادئ الأخلاق الفضيلة لأنه يخلق بيئة تحطّ من جوهر أخلاق الإسرائيليين أنفسهم. ونتيجة لذلك، فإنه يستمر في ارتكاب تجاوزات ضد الفلسطينيين من دون أي شعور بالذنب الأخلاقي.
قد يقول قائل من منظور إسرائيلي معيّن (مثلا ً حركة الإستيطان) أن الإحتلال يخلق القيم مثل التضامن الوطني، التماسك الإجتماعي، الولاء، الشجاعة والمثابرة. وفي حين أن هذا قد يبدو صحيحاً على السطح، غير أنّ الإحتلال في الواقع يمزق النسيج الإجتماعي والسياسي للإسرائيليين، هذا فضلا ً عن تقويض الظروف التي بإمكان الفضائل والقيم الأخلاقية مثل الرعاية والتعاطف والشهامة أن تنمو وتزدهر في ظلّها.
وعلاوة على ذلك، فكلما طالت مدة الإحتلال، كلما زاد الضرر لسلوك وتصرفات إسرائيل الأخلاقيّة، وسوف تصبح إسرائيل معرّضة بشكل ٍ متزايد للمساس بقيمها الأساسية ومثلها العليا كدولة ديمقراطية ملتزمة بحقوق الإنسان.
وأخيراً، نحن بحاجة إلى النظر في النظرية الأخلاقية التي تقول بأن الأخلاقيّة تعمل وفقاً لما تأمرنا به الألوهية. وهناك نوعان من النظريات الأساسية، وكلاهما يمكن ارجاعه الى “يوثفرو” (Euthyphro) أفلاطون حيث يطرح سقراط السؤال التالي: “… عما إذا كان التقيّ أو القدوس محبوبا ً من قبل الآلهة لأنه قدّوس أو صالح، أو أنه قدوس لأنه محبوب من قبل الآلهة”.
الأولى هي نظرية القيادة الإلهية التي تنص على أن ما يجعل عملا ً أو إجراءً ما أخلاقيّا ً أو صحيحا ً هو حقيقة أن الله يتحكم أو يأمر به، ولا شيء غير ذلك. والنظرية الثانية التي يدافع عنها سقراط هي أن الله يأمرنا أن نفعل ما هو صواب لأنه هو الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله. وبعبارة أخرى، الأخلاق تسبق إرادة الله، وهذه غير قابلة للإختزال أو التحويل إلى الأمر الإلهي.
قد يظهر في سياق هذه المناقشة القديمة اغتصاب وضمّ الأراضي الفلسطينية من قبل إسرائيل أمرا ً يمكن الدفاع عنه على أساس نظرية القيادة الإلهية لأنه إذا كان الله يطلب منا القيام بأية مجموعة من الإجراءات، إذن سيكون من الشيء الأخلاقي القيام بها بحكم تعريفها.
يتمسّك العديد من اليهود الأرثوذكس المتديّنين بنظرية القيادة الإلهية، لأنهم يفسرون بهذا السياق مفهوم “ميتزفه” (العمل الصالح) أولاً وقبل كل شيء “كقيادة” أو “أمر الله”، وحتّى لا يمكن التفكير أو التّأمل بخير هذا العمل بعيدا ً عن حقيقة أنّ هذا هو ما أمرنا الله به. وعليه، أولئك الذين يأخذون التوراة كالوحي لتلقّي أوامر الله يستخدمونها لتبرير مفهوم إسرائيل الكبرى. ونتيجة لذلك، فهم ينظرون إلى الوجود الفلسطيني باعتباره عقبة وضعها الله أمامهم لاختبار تصميمهم. لذلك، تصبح معاملتهم القاسية للفلسطينيين مسموحا ً بها أخلاقياً لأنه تتسق مع الأمر الإلهي.
فمن خلال تبني نظرية الأوامر أو القيادة الإلهية يؤول الإسرائيليّون إلى الموقف الذي يجب – على حدّ عقيدتهم – استغلاله والإستمرار به لتبرير الأفعال اللاأخلاقية الصارخة. والمدافع عن هذه النظرية قد يردّ بالقول:” لأن الله صالح، فإنه لن يأمر بأي شيء غير أخلاقي”.
وعلى أية حال، هذه الحجة جوفاء لأنه إذا كانت الأخلاق هي ببساطة ما يوافق عليه أو يعتمده الله، إذن القول بأن الله خيّر وصالح هو مجرد تأكيد بأنه يعتمد نفسه وإرادته. وفي هذه الحالة، لا يوجد حتى الآن ضمانة ضد المتطرفين الذين يستخدمون نظرية الأمر الإلهي لتبرير حتى أبشع الجرائم. أضف إلى ذلك، إذا كان الأمر “الإلهي” المعني يرضي حاجة نفسيّة متأصّلة، مثلاً وطن قومي يهودي هبة من الله، حينها ما ينسبه البشر إلى الله في نهاية المطاف يصبح “إرادة الله”.
مشكلة أخرى مع نظرية الأمر الإلهي هي أنها، كما لاحظ الفيلسوف غوتفريد لايبنتز (Gottfried Leibniz)، تحوّل الله إلى نوع من الطاغية غير جدير بمحبتنا وتكريس أنفسنا له: “لماذا نحمده إذن لما فعله بنا إذا كان الحمد له على قدم المساواة بما يفعل عكس ذلك تماماً؟ ”
وبالرجوع إلى نظرية أن الله يأمرنا أن نفعل الخير لأنه الخير بحدّ ذاته، فما يصبح واضحاً هو أن أي عمل يجب أن يستمد قيمته المعنوية والأخلاقيّة بشكل مستقل من إرادة الله. وفي هذه الحالة يجب أن تكون السياسة الإسرائيلية تجاه الإحتلال مبررة أخلاقياً دون الإشارة إلى بعض التفويض الإلهي. لقد قمنا بفحص – ولو لفترة وجيزة – سياسة إسرائيل على ضوء علم نظريات الأخلاق، النفعية، والأخلاق الفضيلة، ووجدنا بأنها مقصّرة ولا تفي بالمتطلبات الأساسية لهذه النظريات. وبالتالي، فإنها تفتقر إلى التبرير الأخلاقي المستقل الذي لربما قد تستند إليه أوامر الله.
لا يمكن الدفاع عن الإحتلال الإسرائيلي على أسس أخلاقية أو من زاوية الأمن القومي. يمكن لإسرائيل أن تدافع عن نفسها وتتفوّق على أي من أعدائها في الحاضر والمستقبل المنظور، ولكنها تغرق في مستنقع الفساد الأخلاقي الذي يعمّقه الإحتلال. والحقيقة هي أنّ العدو من الداخل، وهو الذي يشكل أكبر خطر يواجه إسرائيل.